(تنشر هذه الحكاية بالتعاون والشراكة مع راديو سوريالي. يمكنكم سماع الحكاية صوتيا على برنامح "حكاية وانحكت")
"لو ما بيستاهل ما كان الجيش قتلو".
لم تتوقع رئيفة أن تسمع هذه العبارة من صديقة عمرها سلمى التي عاشت معها طيلة عشرين عاما في مكتب واحد، حيث تقاسمتا أياما حلوة ومرة، وكانت كل منهما أختاً وبيت سر بالنسبة للأخرى. عبارة كانت بمثابة الشرخ الذي تحطمت معه علاقة صداقة عميقة لم تستطع أن تنجو من تنافر المواقف السياسية والإنسانية.
رئيفة (42 عام) من مدينة دمشق، تعمل موظفة حكومية في شؤون الطلبة في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة دمشق منذ أكثر من عشرين عاما.
بعد أن حصلت على شهادة الثانوية العامة حثّها والدها، الموظف في وزارة التربية، على التقدّم لمسابقة تعيين في القطاع العام. كان دائماً يشجعها على الانضمام إلى جموع الموظفين وراء المكاتب المملة والقيام بالمهام البيروقراطية بدلاً من البحث عن عمل في القطاع الخاص، لأن الوظيفة الحكومية على حد قوله "ضمان للمستقبل، لا يحق لأحد أن يسرحها تعسفياً، والعمل مريح من حيث عدد الساعات والإجازات والمهام المتوقعة منها". كما أنها تستطيع أن تصعد ضمن السلم الوظيفي، أي نعم ببطء، ولكن بخطى ثابتة، لها تعويض معيشة وتعويض عائلي، وفي نهاية المطاف تحصل على راتب تقاعدي، تافه القيمة، ولكنه راتب على كل حال.
لا طموح
لم تكن رئيفة طموحة، ولم يكن تحصيلها في الثانوية العامة ليساعدها في أن تكون طموحة بشأن مستقبلها أصلاً. فتقدمت لمسابقة وظائف لحملة الشهادة الثانوية. ساعدها في نيل الوظيفة أنها عضو منتسب في حزب البعث العربي الاشتراكي، عضو فاعل نوعا ما من حيث عدد الاجتماعات الحزبية الدورية التي حضرتها في حياتها لا أكثر، وكذلك ساعدها أن والدها كانت لديه بعض العلاقات المتواضعة التي سهلت مقابلتها مع اللجنة الفاحصة. في مسابقات التعيين يتألف الفحص من شقين، كتابي وشفهي، عن القانون الأساسي للعاملين في الدولة، وعن الثقافة القومية الاشتراكية، إضافة إلى بعض الأسئلة عن الثقافة العامة واللغة العربية. عملياً كان ذلك هو الفحص الأخير الذي كان على رئيفة أن تذهب إليه في حياتها، بعدها جلست على كرسي جلدي مريح ولكنه يزقزق، أمام مكتب حديدي قديم، وظلت في هذا الموقع حتى الآن.
عالم الوظيفة الحكومية
كانت مهمة رئيفة تتلخص في تدقيق أوراق المنتسبين إلى الجامعة، ورفع الأوراق إلى رئيسة شؤون الطلبة. كانت مهمة يمكن إلغاؤها ببساطة، إذ لم يحصل يوماً أن وصلت إليها أوراق انتساب ناقصة، بما أنّ قائمة الأوراق المطلوبة معلقة بجانب كوات التسجيل، وبما أن الموظفين والموظفات على الكوة لا يقبلون بالأوراق الناقصة. كانت تشعر بأنّ ما تقوم به لا يتعدى تحويلة طريق بالنسبة للأوراق. ولكن من هي لتعترض على وظيفة مريحة دون مسؤوليات أو أعباء، مع ضغط موسمي لا يتجاوز شهرين أو ثلاثة خلال العام؟!
تقول رئيفة لحكاية ما انحكت: "الحياة الوظيفية في الدولة تمتص جميع المنضمين إليها، تمتص اهتماماتهم، طاقتهم، تغيّر ذوقهم في الثياب، تلوي مفهومهم عن إضاعة الوقت، وعن قيمة العمل الحقيقية، مقابل بعض المزايا الزهيدة التي تتناسب مع نوعية الأداء. كنت أدرك ذلك جيداً، كنا جميعا ندرك ذلك، لكنني تأقلمت مع الوضع بسرعة وبرضا، أنا كسلانة نوعا ما، لم أرغب يوماً في أن أتعب نفسي لا في الدراسة ولا في العمل".
"مزايا" الوظيفة الحكومية
لكن الجلوس وراء مكتب عليه أكوام من الأوراق ممل وعقيم، لولا بعض الحياة الاجتماعية، التي يمكن أن تصبح الدافع الرئيسي والوحيد، للذهاب إلى الوظيفة كل صباح، إذا كان المرء محظوظاً بالزملاء الممتعين. من مزايا الوظيفة الحكومية أنها يمكن أن تجمع في غرفة واحدة أشخاصاً من شرق البلاد وغربها وشمالها وجنوبها، من كافة الأطياف والخلفيات الاجتماعية والدينية، لكن المشترك بينهم هو الوضع المعيشي والاقتصادي، وما عدا الفاسدين منهم وبمستويات عليا.
من مزايا الوظيفة الحكومية أنها يمكن أن تجمع في غرفة واحدة أشخاصاً من شرق البلاد وغربها وشمالها وجنوبها، من كافة الأطياف والخلفيات الاجتماعية والدينية، لكن المشترك بينهم هو الوضع المعيشي والاقتصادي، وما عدا الفاسدين منهم وبمستويات عليا.
تعرفت رئيفة على سلمى بعد شهر من بدء دوامها، كانت الفتاتان في التاسعة عشرة من عمريهما، سلمى كانت موظفة بدرجة أقل لأنها تقدمت لمسابقة تعيين بشهادتها الإعدادية، كانت على إحدى الكوات، تستقبل الطلاب وتأخذ أوراقهم إلى مكتب رئيفة. كانت مهمتها أصعب وراتبها أقل. كانت رئيفة تتقاضى عند تعيينها، عام 1996، 4500 ليرة سورية (100 دولار تقريبا، حيث كان الدولار يعادل 40-45 ليرة سورية)، أما سلمى فكان راتبها 3800 ليرة سورية (حوالي 80 دولار آنذاك). كان عمل سلمى أصعب، وكان عليها أن تتعامل بشكل مباشر مع الطلاب الذين يمكن أن يصل عددهم إلى المئات على الكوة الواحدة في فترات التسجيل. أتت سلمى من ضيعة من ضيع جبلة تدعى قرفيص، كانت فقيرة ولها رائحة عرق واخزة، وكانت لهجتها العلوية القاسية، والتي يمكن أن يعتبرها البعض ميزة في الوظائف العامة، كانت بالنسبة لها مصدر إزعاج، لأن أغلب الطلاب لم يكونوا يفهمون ماذا كانت تقول.
في الصداقة هناك (طقة)، أو شرارة، شيء مثل الحب لايمكن تفسيره، جعل الفتاتين لا تفترقان. كانتا تحبان بعضهما البعض حبّاً غير مشروط، وتبوحان لبعضهما بكلّ الأسرار حتى المخجلة. كانتا أختين من عالم آخر، اجتمعتا في تلك الغرفة باهتة الجدران. وكان وجود كل واحدة منهما سبباً في إيجابية وسعادة الأخرى في عملها، لم يهم رئيفة أن صديقتها الريفية الفظة لم تكن محجبة أو تصلي أو تصوم، كما لم يهم سلمى أنّ رئيفة ترتدي حجاباً ومانطو حتى في الصيف الحار وتتبنى إسلاما سنياً اجتماعيا في الوسط الدمشقي، ليس نابعاً عن عقيدة بقدر ما هو تداول لبعض العادات العائلية.
الزواج وتحديات الصداقة
واكبت الصديقتان معاً جميع الأحداث المهمة في حياة كل منهما، من الزواج إلى إنجاب الأطفال، ووفاة الأهل. تزوّجت رئيفة من ابن صديق والدها، أستاذ تاريخ للمرحلة الإعدادية، بينما تزوجت سلمى من حارس وسائق يعمل لحساب أحد الضباط الكبار. لم يكن متعلماً، كان يحمل بطاقة أمنية لكنه لم يكن رجل أمن، كان بسيطاً لطيفاً يحمل شهامة ريفية وخدوما لحد كبير. أما زوج رئيفة فرغم لطفه الظاهر ومسايرته، إلا أنه لم يكن مرتاحاً كثيراً لفكرة تعامله مع أشخاص "مختلفين اجتماعيا وطائفيا".
"لم يقلها يوما بصراحة" تقول رئيفة، "لكنه كان ممتعضاً من فكرة الاقتراب من اثنين من الطائفة العلوية لهذه الدرجة، كان لا يمانع أن تكون هناك علاقة على درجة من الرسمية، أما أن يدخلا بيتنا ونزورهما في بيتهما فهو مستوى آخر لم يكن مرتاحاً إليه. أتفهم ذلك، فهو من عائلة أكثر تدّيناً من عائلتي، أحد أقاربه غير المباشرين فقد في الثمانينات، لكن سلمى وزوجها، عدا عن أنهما لم يتسبّبا في إيذاء أحد، كانا يحباننا حبّاً صادقاً، ولم أكن لأفرط بصداقتي مع سلمى بأي شكل".
الثورة تقترب..
في عام 2011، كان لدى سلمى خمسة أولاد، أكبرهم صبي في الخامسة عشرة، وصبي في الثالثة عشرة وفتاة في السابعة، وأصغرهم توأم إناث في الخامسة. أما رئيفة فأنجبت بعد جهد جهيد طفلا واحداً، صبياً كان في العاشرة عندما اندلعت الثورة في سوريا. كانت رئيفة تسكن مع زوجها في المزة شيخ سعد، وسلمى وزوجها في المزة 86. وفي الأشهر الأولى من الثورة لم يكن يحصل في دمشق الكثير، لكن الأجواء المشحونة في المزة 86، والإشاعات المنظمة التي كانت تنتشر بين سكان تلك المنطقة، كأن تنقطع الكهرباء فجأة، ويركض أحدهم في الشوارع صارخاً أن هناك إرهابيين من جنسيات متعددة يريدون قتل الأهالي، أو أن أحدا ما سمّم المياه، أو أن يحصل إطلاق رصاص لا أحد يعرف مصدره، جعل سلمى تصاب بهلع هستيري، لقد كان أبناؤها أغلى ما لديها في الحياة، وكانت تخاف عليهم أكثر من أي شيء، وكثيراً ما اصطحبتهم رغم اعتراض زوجها وأمضت ليلة أو اثنتين عند رئيفة بحكم أن منطقتها أكثر أماناً. بالمقابل كان زوج رئيفة ذا نفس معارض واضح، رغم عدم انخراطه بنشاط ثوري في بداية الأحداث، وكانت رئيفة، التي لم تكن مهتمة بالشأن العام حينها، تحثه على عدم الخوض في أحاديث السياسة مع سلمى أو زوجها. لكن الشقاق كان آتياً لا محالة، مع تطور الأمور إلى الحد الذي لا مناص معه من تطرق الحديث إلى ما يحدث في الشارع.
بدايات الصدام
" كان أهل زوجي يعيشون في القدم، وعندما بدأت المظاهرات في المنطقة طالت المداهمات منازل أقربائه، واعتقل الأمن العديد من الشبان منهم، وفي أحد أيام الجمعة من شهر أيار توسلت إليه كي لا يذهب إلى هناك، لكنه لم يصغ إلي، عرفت أنه يريد أن يشارك في إحدى المظاهرات، عاد يومها وعيناه متورمتان من غاز الدموع ونفسه يكاد ينقطع من الخوف والتوتر. في ذلك اليوم كانت سلمى تزورني في البيت، وكنت مضطرة إلى مسايرتها ومشاهدة قناة الدنيا معها طوال الوقت. كان الوضع لا يحتمل، أن أشاهد صديقة عمري مغسولة الدماغ، تصدق كل ما يقال بتلك الطريقة التهريجية التي لا يمكن أن تقنع طفلاً صغيراً. لكنها كانت خائفة، مرعوبة، تأكل أظافرها وتطلق أقذع الشتائم على المندسين والإرهابيين والخونة. وعندما دخل زوجي إلى البيت وشاهدها، دخل متجهم الوجه ولم يسلّم عليها، ثم ناداني إلى المطبخ وأخبرني بأن أخفّف علاقتي مع سلمى وعائلتها. لم أكن لألومه، أو ألومها في الحقيقة. كنت أفكر ما هي الطريقة التي يمكن أن أنقذ فيه علاقتي مع سلمى".
لكن الأمر كان أصعب مما كانت تتخيل، فقد كان زوج سلمى، وابنها المراهق، يضغطان عليها كي تقطع علاقتها مع تلك العائلة السنية التي "تحمل في قلبها كرهاً وعدائية لا تزول تجاه العلويين". اعترفت سلمى لرئيفة بأن زوجها كان يقولها علناً، وأنه يحشو دماغ ابنهما بنفس الأفكار السوداء. " لك شو بدي قلك، بتليقيهن قيعدين ميتوشوشو وكأنهين عيملين حلف عليي. وكل ما إرجع من عندك بيفتحو معي تحقيق" قالت سلمى لرئيفة، التي رأت أنه من الأسلم أن تتجنب الاثنتان أية مشكلة مع الرجال في أسرة سلمى. وشيئاً فشيئاً خفت الزيارات تدريجياً حتى انقطعت تماما، لكن سلمى ورئيفة ظلتا صديقتين وزميلتين في مكان عملهما، وكأن تلك البقعة بمعزل عن كل ما يجري خارجها.
القطيعة
في جامعة دمشق، كان ثمّة آذن في الخمسينات من عمره يدعى أبو جاسم، يجلب القهوة والشاي كل يوم إلى الموظفين، كان من منطقة جديدة الفضل. لم يغب يوماً، ولم تفارق وجهه الابتسامة الودودة، كان يدعو للجميع بالسعادة وراحة البال، لم يزعج أحداً في يوم من الأيام. كانت قد مرّت سنتان على بدء الثورة، أحداث كثيرة حصلت في جامعة دمشق وفي المدينة الجامعية، من فض اعتصامات واعتقال طلاب، احتلت المعارضة حلب، ونال القصف والتفجير كل المدن السورية.
تكمل رئيفة لحكاية ما انحكت "حتى تلك المرحلة استطعنا أنا وسلمى الحفاظ على علاقتنا الطيبة، على الرغم من أننا كنا نتجنب أي نقاش سياسي. لكن في نيسان من عام 2013، حصلت مجزرة رهيبة في جديدة الفضل، قتل فيها ذبحا وحرقا مئات السكان، عرفت من التلفزيون أنّها نفذت على يد ميليشيات طائفية شاركت في اجتياح البلدة مع الجيش. كان أبو جاسم منقطعا عن الدوام بسبب عدم قدرته على الخروج من المنطقة، عرفنا ذلك من أحد المستخدمين".
في ذلك اليوم، إحدى الزميلات تساءلت فيما إذا كان أبو جاسم بخير. فأجابتها سلمى بكل ثقة: "لا الحمد لله الجديدة أمورها خالصة، الجيش قتل الإرهابيين وانشالله يومين وبيقدر أبو جاسم يرجع. شعرت للمرة الأولى بالقرف من منطق سلمى في قراءة الأحداث. لكنني لزمت الصمت، وانتظرت مع الجميع أبا جاسم. لكنه لم يأت، وبعد أسبوع علمنا أنه كان من ضحايا المجزرة، وأنه مات حرقاً".
خيّم صمت ثقيل على الجميع عند وصول الخبر، لكن سلمى كسرت الصمت بقولها: "لو ما بيستاهل ما كان الجيش قتلو".
لم أستطع عندها تمالك نفسي وانفجرت في وجهها: "لك شو عم تحكي إنتي؟ شغلي مخك! ليش لمّا بيفوتوا على محل بيميزوا بين اللي عامل واللي مو عامل؟ لك فيقي سلمى فيقي! معقول كل هالعالم عم تحكي على شي مو موجود؟ معقول كل اللي ماتوا ما ماتو؟".
تطلعت سلمى غير مصدقة بعينين غاضبتين حمراوين: "والله إذا اللي بدو يموت يا نحنا يا هنن فمعناها هنن".
تتابع رئيفة: "كانت تلك آخر جملة تقولها سلمى لي مباشرة".
كان الوضع أكثر مما يمكن لرئيفة تحمله، فطلبت نقلها إلى مكان آخر، لكن طلبها قوبل بالتريث، أما سلمى، فتطوّع ابنها ذو السابعة عشرة في الجيش، وقتل في إحدى معارك حلب. تركت سلمى الوظيفة بعد موت ابنها الأكبر، لم تعزيها رئيفة رغم أنها أرادت ذلك بشدّة، لم تستطع أن تكون بقربها، ولم تستطع أن ترد على أحد الموظفين الشبيحة عندما كان يقول متبجحاً: "ما الها حق سلمى تزعل وتنهار، هي مات عنها ولد واحد، أنا مات عندي تلاتة".