رغم أنّ مسيرة ريادة الأعمال هي مسيرة حيويّة للتنميّة الاجتماعيّة والاقتصاديّة وبناء السلام واندماج اللاجئين في مجتمعاتهم الجديدة، إلّا أنّ الأبحاث في مجال ريادة الأعمال في سياقات عدم الاستقرار السياسي والعنف المنظم والتشريد ما زالت في مراحلها الأولى، كما أنّ التجارب السابقة في تحفيز ريادة الأعمال وسط بيئة هشة تمّ تقديرها بشكل كبير، مما أدى إلى فجوات بحثيّة كبيرة فضلًا عن الفرص الضائعة في تنفيذ تدابير فعالة لتعزيز روح المبادرة واستراتيجيات التنميّة المستدامة.
نقصد بـ "ريادة الأعمال" إنشاء شركات جديدة، ونركز في هذه المقالة التحليليّة على فهم أسباب قيام الأفراد المتأثرين بالنزاعات ببدء أعمال تجاريّة جديدة نابعة من أهمية الدافع كعامل محدد لنجاح وسلوك العمل، ومن ضرورة فهم عوامل التمكين الخاصة بالعرض والطلب لتعزيز روح المبادرة الإنتاجيّة في السياقات ذات الظروف الخاصة.
من خلال تسليط الضوء على أعمال السوريين في مدينتي دمشق وبرلين ومن خلال تطبيق النظريّة الانتقائيّة لريادة الأعمال[1] "Eclectic theory of entrepreneurship" (نظرية تصف قرار تأسيس شركة ما على أنّها مزيج من العوامل الشخصيّة والعوامل الخارجيّة) لتحليل دوافع السكان العالقين وسط الصراع وسكان بلد اللجوء للبدء بأعمال جديدة. تجمع هذه المقالة بين العوامل البيئيّة والعوامل الشخصيّة التي تشكل قرار المشاركة في نشاط ريادة الأعمال.
ريادة الأعمال والتنمية والأزمات الإنسانيّة
في الوقت الذي يكون فيه روّاد الأعمال عوامل محفزة "للتدمير الإبداعي[2] - Creative Destruction" (والمقصود بهذا المصطلح هو عملية تغيير الهياكل الاقتصاديّة بشكل ثوري من خلال الإبتكار في المنتجات والعمليات) ولترجمة الابتكار وللاستثمار في المعرفة الجديدة وتحويلها إلى مخرجات تجاريّة جديدة تساهم إلى حدّ كبير في النمو الاقتصادي والإنتاجيّة والتغيير الاجتماعي في الاقتصادات المتقدمة. يتضاءل هذا الدور في البيئات الأقل تطورًا أو استقرارًا، إذ يعتبر بعض الباحثين أنّ رواد الأعمال يساهمون بشكل جلّي في تعزيز الهياكل المؤسسيّة لأنّ ريادة الأعمال تعدّ من الميسّرات الرئيسيّة للتنمية المنطلقة من أسفل الهيكل إلى أعلاه، حيث تتطور المؤسسات تدريجيًا وتحقق نتائج أكثر استدامة من خلال الجهود الاجتماعيّة والمؤسسيّة.
رغم أنّ دراسات وأبحاث ريادة الأعمال تميل إلى التشديّد على صورة رائد الأعمال بصفته مبتكرًا، إذ أنّه يقوم بتوليد الأفكار الجديدة وتسويقها، إلّا أنّه يجب علينا عدم التقليل من أهمية دور رائد الأعمال النمطي، والذي يعمل على حشد الموارد لتوسيع الأسواق الحاليّة. على سبيل المثال: في الحالات التي تكون فيها العائدات إلى نفقات البحث والتطوير منخفضة، كما هو الحال في العديد من الاقتصادات الناشئة، قد يكون وجود عدد كبير من رواد الأعمال النمطيين/ المقلّدين الذين يزيدون المنافسة وعرض المنتجات كافيين لتحقيق نمو اقتصادي.
رغم محدوديّة الأبحاث والدراسات إلّا أنّنا نجد بعض الأمثلة الجيدة التي يمكننا الاستعانة بها. مثلًا، تُظهر دراسة أُجريت في كولومبيا[3] زيادة في نشاط المقاولات أثناء النزاع في المناطق التي تستضيف أعدادًا كبيرة من الأشخاص النازحين داخليًا بسبب زيادة الطلب على سلع وخدمات معينة، بينما تتناقص نسبة العاملين لحسابهم الخاص في المناطق التي ترتفع فيها معدلات القتل ومعدلات النزوح، وهذا ما لاحظنا حدوثه في بعض المناطق السوريّة كمدينة القامشلي مثلًا، إذ ازدادت عملية إنشاء شركات متعلقة بأعمال البناء خلال سنوات 2012 و2013 بسبب نزوح عدد كبير من سكان المدن الأخرى إلى القامشلي، التي كانت تتمتع بدرجة أمان أعلى.
تُظهر ريادة الأعمال أثناء، وخلال الفترة التي تليّ، فترات الصراع العديد من الفوائد، بما في ذلك الحدّ من عدم المساواة الاجتماعيّة والاقتصاديّة بين الفئات الاجتماعيّة وتوفير فرص تعاون جديدة في السعي لتحقيق المنفعة الاقتصاديّة المشتركة وتمكين الأفراد من إعادة تحديد الهويات القائمة على الاقتصاد وليست تلك القائمة على السياسة. وبالتالي تسهيل المصالحة والاعتماد المتبادل وخلق فرص العمل التي تشتد الحاجة إليها، هذا بدوره يؤدي إلى إنشاء بيئة تعليميّة لأصحاب المشاريع في المستقبل، كما أنّه يؤدي إلى تحفيز المنافسة وتنويع الاقتصادات وتمكين التغيير الداخلي المضطرب للوضع الراهن باعتباره منفعة محتملة رئيسيّة لريادة الأعمال في الدول التي تعاني من الصراع وفي الدول الهشّة. تعطينا عملية إنتاج البن في رواندا مثالًا جيدًا على ذلك، إذ تحولت صناعة البن في هذا البلد الصغير إلى مصلحة مشتركة يلتف حولها المتصارعون السابقون.
يحاول الأفراد المتأثرون بالنزاعات البدء من أيّ مكان آخر في أعمالهم؛ إلّا أنّ ريادة الأعمال هذه قد نالت حصة متواضعة من البحث العلمي مقارنة بالأبحاث المتعلقة بالمهاجرين الآخرين أو بالأعمال التي يقوم بها أشخاص من أقليات عرقيّة. فعلى الرغم من أنّ المهاجرين عمومًا، يُظهرون احتمالًا أكبر للعمالة الذاتيّة مقارنة بالسكان المحليين إلّا أنّ الميل إلى بدء عمل تجاري جديد يختلف اختلافًا كبيرًا في حالة اللاجئين، حيث تظهر تحديات خاصة تواجههم مقارنة بغير اللاجئين.
بشكل عام تتمحور العوائق الرئيسية أمام ريادة أعمال اللاجئين، والتي تمنعهم من صناعة فرص في السوق والوصول إلى رأس المال البشري والشبكات والبيئات الاجتماعيّة، حول ضعف اختيار السوق والافتقار إلى الابتكار والتعقيدات البيروقراطيّة وعدم اعتماد السلطات على أوراق الاعتماد الأجنبيّة وصعوبة تقييم سياسات ريادة الأعمال وقيود الوضع القانوني وسوء الوصول إلى التمويل من خلال القنوات الرسميّة وغير الرسميّة ونقص المهارات والمعرفة وعدم كفاية مبادرات الدعم وضعف الروابط الاجتماعيّة والتمييز في المجتمع وفي سوق العمل.[4]
على الرغم من ذلك، تجاوز العديد من اللاجئين هذه التحديات أو استطاعوا تخفيفها بما فيه الكفاية لإنشاء أعمال جديدة، وأدى هذا إلى العديد من الفوائد بما يشمل تعزيز الرفاه النفسي والعاطفي للاجئين وإحساسهم بالانتماء في مجتمعاتهم الجديدة وتعزيز الاستقلال عن المساعدات المقدمّة من قبل الحكومات والمنظمات الخاصة، كما أدى ذلك إلى تمكين اللاجئين من خلال قدرتهم على اتخاذ قراراتهم الخاصة وتحمل مسؤولية تشكيل حياتهم الخاصة وقدرتهم على توفير فرص عمل للاجئين آخرين وإيجاد وتنفيذ حلول مبتكرة للتحديات الناشئة بسبب اللجوء وتحفيز روح المبادرة في البلد المضيف نفسه.
دوافع ريادة الأعمال
تكمن أهمية فهم الدوافع الكامنة وراء ريادة الأعمال في محاولات فهم وتحليل تصرفات الأفراد خلال فترات الصراع، فاستنادًا على نظرية التحديد الذاتي[5] Self-determination theory التي تصنف الدوافع السلوكيّة للإنسان على أنّها دوافع داخليّة و/أو مستقلة، أو دوافع خارجية و/أو محكمة من قبل المجتمع والبيئة المحيطة، فإنّ الدافع وراء القيام بفعل ما مرتبط ارتباطًا وثيقًا بنتائج هذا الفعل، لذلك نرى أن فهم الدافع وراء ريادة الأعمال قد يكون عاملًا محددًا لنجاح المشروع واستمراريته.
رغم ذلك، يبدو أنّ دراسات تحفيز رواد الأعمال المتعلقة بالأفراد المتأثرين بالنزاعات محدودة، ومن الأمثلة على ذلك دراسات عن رواد الأعمال الصوماليين في جنوب إفريقيا باستخدام أساليب البحث الإثنوغرافي[6] (وصف الأعراق البشريّة) أو تحليل حالة واحدة لمالك أعمال من اللاجئين السوريين في لبنان[7]. من ناحية أخرى، تعتمد الدراسات التي تستخدم مجموعات وبيانات أكبر وتحليلات إحصائيّة بشكل شائع على مصادر البيانات الثانويّة مثل الدراسات في بنغلادش[8] وكولومبيا. يمكن أن يكون هذا تأكيدًا على النقص العام في الاهتمام أو القيمة المدركة لإجراء تحليلات متعمقة لدوافع ريادة الأعمال في فترات الصراع واللجوء. وربما كان الاستثناء الوحيد هو عمل كل من آماندا بولو Amanda Bullough ومايا رينكو Maija Renko و تامارا مايات Tamara Myatt في أفغانستان[9]، حيث قاموا بجمع بيانات 272 فردًا في مدينة كابول وما حولها لتقييم نواياهم في تنظيم المشاريع على المستوى الجزئي-السلوكي.
السياق السوري
لتوفير تحليل أكثر شموليّة وواقعيّة وقابليّة لتفسير دوافع ريادة الأعمال، من المهم استخدام العدسات الصغيرة والكبيرة والنظر في الخصائص الشخصيّة والسمات البيئيّة والجمع بين وجهات نظر متعددة التخصصات وقياس الدافع باستخدام تصميمات أكثر تعقيدًا. بناءً على ذلك تم تصميم استبيان شامل يقيس دوافع ريادة أعمال السوريين بناء على مزيج من الدوافع الشخصيّة والدوافع البيئيّة المتعلقة بالفرد. تمّ جمع 139 استبيان، 65 منها في مدينة برلين و74 منها في مدينة دمشق.
تم تحليل الاستبيانات عن طريق تقنيّة التحليل العاملي الاستكشافي Exploratory factor analysis وتقنيّة تحليل التغاير Analysis of covariance. تُستخدم تقنيّة التحليل العاملي الاستكشافي للكشف عن البنيّة الأساسيّة لمجموعة كبيرة نسبيًا من التغيرات، أما تقنية تحليل التغاير فهي تقنيّة تُستخدم للمقارنة بين عينات مختلفة.
العامل الأكثر تأثيرًا في دوافع ريادة الأعمال لدى العينة المستجيبة في الدراسة هو عاملٌ ذاتيٌ يمكن أن نطلق عليه اسم "سعي لتحقيق الذات"، ويمكن تلخيص مكونات هذا العامل على إنّها الابتكار والثقة بالنفس والموهبة والإنجاز والتنمية الذاتيّة والقدرة على التحمل، وهي تتصل بدرجة كبيرة بالشخصيّة والتفضيلات.
اعتمدنا في البداية على التقنيّة الأولى لكشف البنيّة الأساسيّة لدوافع ريادة الأعمال لكامل العينّة، أيّ كلّ السوريين الذين شاركوا في الاستبيان، ومن ثمّ قمنا بتقسيم العيّنة إلى سوريين مقيمين في دمشق وسوريين مقيمين في برلين كي تتوضح فروقات دوافع ريادة الأعمال بين المدينتين.
تم اختيار دمشق كمدينة تمثيليّة لأصحاب المشاريع في بلد النزاع، حيث تتمتع باستقرار أعلى نسبيًا من بقيّة البلاد على الرغم من حالة الصراع النشطة، والتي يُفترض أن تتوافق مع مستويات أعلى من النشاط التجاري المحتمل وإمكاناته. وتم اختيار مدينة برلين كمدينة تمثيليّة لرجال الأعمال السوريين السوريين اللاجئين كونها عاصمة أوروبا الناشئة وعاصمة أكبر متلقِ للاجئين في الاتحاد الأوروبي، كما أنّ حوالي 50٪ من الشركات الجديدة في برلين مؤسسة عن طريق المهاجرين.
قد تكون هذه المهمة أسهل في البلدان المستقرة مقارنة بمناطق الصراع النشطة حيث تعاني الهياكل الحكوميّة والمؤسسيّة من الهشاشة والفساد. لذلك، في السياق الفرعي للصراع العنيف نقترح تقديم الدعم المباشر لمنظمات المجتمع المدني والمواطنين المحليين بدلًا من الكيانات الحكوميّة الفاسدة من أجل تحقيق تنمية طويلة الأمد ومن أجل بناء السلام وتحويل التركيز نحو نهج "من القاعدة إلى القمة" بدلًا من نهج "من القمة إلى القاعدة". هذا لا يتطلب بالضرورة زيادة التمويل لبرامج التنميّة بل إعادة تخصيص جزء أكبر من مليارات الدولارات من المساعدات إلى الجهود التي تحقق نتائج إيجابيّة مستدامة بدلًا من الإغاثة المؤقتة.
على الرغم من الاختلاف الكبير في الاستقرار المؤسسي بين ألمانيا وسوريا، فإننا لا نجد فرقًا ملحوظًا بين البلدين في درجة تأثير المؤسسات الداعمة والأوساط الاقتصاديّة على تحفيز ريادة الأعمال، وهو ما يمكن أن يُعزى إلى عدة أسباب، فمثلًا، وعلى الرغم من توافر التعليم الجيد وتمويل المشاريع وفرص السوق والهياكل التنظيميّة الداعمة في ألمانيا إلّا أنّ إمكانيّة وصول اللاجئين إليها محدودة للغاية. بمعنى آخر، لا تنطبق الموارد والفرص الخارجيّة المتاحة للسكان الألمان عمومًا على اللاجئين، إذ يمكن أن تمنع حواجز اللغة اللاجئين من حضور الدورات المهنيّة، هذا فضلًا عن عدم وجود سجل ائتماني لدى اللاجئين مما يقيّد فرص الوصول إلى القروض المصرفيّة، وهذا من شأنه أن يثبت الحاجة إلى تعزيز الوصول إلى هياكل دعم ريادة أعمال اللاجئين في البلدان المضيفة المستقرة، بالإضافة إلى تعزيز برامج دمج اللاجئين. بعبارة أخرى: تعزيز وصول اللاجئين المتأثرين بالنزاعات إلى فرص ريادة الأعمال والموارد الموجودة بالفعل في السوق العامة.
إنّ إدراك دوافع السوريين لريادة الأعمال يبدو أكثر استقلاليّة وخارج عن إطار السيطرة، وهذا يحطم الصورة النمطيّة القائلة إنّ أصحاب المشاريع خلال فترات الصراع واللجوء لديهم طموحات نمو منخفضة وفرص قليلة للنجاح أو إنّهم أفراد بطبيعتهم لا يتمتعون بسلطة حقيقيّة وراء قراراتهم التجاريّة.
المراجع:
[1] Verheul, Ingrid, Sander Wennekers, David Audretsch, and Roy Thurik. 2001. "An Eclectic Theory of Entrepreneurship." Discussion Paper TI 2001-030/3, Tinbergen Institute, Amsterdam and Rotterdam.
[2] Schumpeter, Joseph A. 1942. Capitalism, Socialism and Democracy. New York, NY: Harper and Brothers.
[3] Bozzoli, Carlos, Tilman Brück, and Nina Wald. 2011. Self-Employment and Conflict in Colombia. DIW Berlin Discussion Papers #1098, Berlin: Deutsches Institut für Wirtschaftsforschung.
[4] Rashid, Lubna. 2018. "“Call Me a Business Owner, Not a Refugee!" Challenges of and Perspective on Newcomer Entrepreneurship." Center for International Governance Innovation (CIGI) World Refugee Council Research Paper No. 7.
[5] Deci, Edward L, and Richard M Ryan. 2000. "Self-Determination Theory and the Facilitation of Intrinsic Motivation, Social Development, and Well-Being." American Psychologist 55 (1): 68-78.
[6] Thompson, Daniel K. 2016. "Risky Business and Geographies of Refugee Capitalism in the Somali Migrant Economy of Gauteng, South Africa." Journal of Ethnic and Migration Studies 42 (1): 120-135.
[7] Bizri, Rima M. 2017. "Refugee-Entrepreneurship: A Social Capital Perspective." Entrepreneurship and Regional Development 29 (9-10): 847-868.
[8] Chowdhury, M. Jahangir Alam. 2011. "The Determinants of Entrepreneurship in a Conflict Region: Evidence from the Chittagong Hill Tracts in Bangladesh." Journal of Small Business & Entrepreneurship 24 (2): 265-281.
[9] Bullough, Amanda, Maija Renko, and Tamara Myatt. 2014. "Danger Zone Entrepreneurs: The Importance of Resilience and Self-Efficacy for Entrepreneurial Intentions." Entrepreneurship Theory & Practice 1042-2587.