(اللاذقية)،يقضي محمد ابراهيم (35 عاماً) الموظف في شركة حكومية، يومي الجمعة والسبت من كل أسبوع في البرية المحيطة بقريته "الزلو" في ريف مدينة بانياس مرتدياً معطفاً عسكرياً، يُقطّع أغصان شجيرات القطلب والزعرور والسنديان الحراجي، وأحياناً جذوع أشجار صغيرة، لتكون حصيلته من 20 إلى 30 كيلو حطب أخضر.
يتحرك بعدها مستخدماً دراجة نارية بدون لوحات، ناقلاً الحطب عبر طريق ترابي ضيق، وصولاً إلى "المفحمة" حيث يبيع حطبه بحوالي ألفي ليرة سورية (حوالي أربعة دولارات) مضيفاً إياها إلى راتبه الشهري الذي لا يتجاوز 50 دولاراً.
محمد وآخرون، أفراد من جيش غير مرئي، يقدّر بالآلاف، يقلبون البراري والأحراش في الساحل السوري مقطعّين الأشجار وأغصانها لبيعها إلى مفاحم بعضها غير مرخّص، تحوّل الحطب إلى فحم.
وسط هؤلاء جميعاً هناك جيش آخر من الأشخاص النافذين القائمين على حماية تجارة تدرّ على مستوى سوريا ملايين الدولارات شهرياً، دون أن تتأثر بالأوضاع الأمنية ولا السياسية في البلاد.
"لا أعرف لمن يباع الفحم الناتج ولا يهمني ذلك"، يقول محمد. ولكي يقطع علينا طريق طرح المزيد من الأسئلة، يؤكد أن لا أحد يتعرض له أثناء عمله وأن المفحمة تؤمن له الغطاء اللازم للعمل، رافضاً الإسهاب أكثر.
أحد العاملين لصالح مفحمة أخرى في بلدة بيت ياشوط (تابعة لمدينة جبلة) يقول: "لا تستطيع أي دورية إيقافنا… الكل يعرف أن البضاعة للمعلم. نحمل بطاقات مرور على الخطوط العسكرية ونمرّ دون تفتيش. ننقل البضاعة إلى المحافظات اﻷخرى، خاصة دمشق وحلب، ونبيعها إلى تجار آخرين يتولون توزيعها على المحلات والمطاعم والمقاهي".
"لا نتوقف عن الإنتاج"
في وادي نهر "جوبر" (بانياس) الذي تحيط به الأدغال من كل جانب، وتخترقه بعض المنشآت السياحية والمطاعم، أنشأ الشاب ريّان (24 عاماً) المفحمة المرخصة الخاصة به، والتي يسلّمها محمد حطبه.
يوضح ريّان أن إنتاج الفحم يتم بإحدى طريقتين: طبيعية، وتعتمد على حرق غير مكتمل للأخشاب الطبيعية (أغصان اﻷشجار والجذوع الصغيرة)، وتنتج الفحم الطبيعي، وأخرى صناعية تطحن فيها بقايا الأخشاب والأوراق ثم تحرق بشكل غير مكتمل أيضاً، مما يؤدي إلى إنتاج الفحم الصناعي.
ويختلف الفحم الطبيعي عن نظيره الحجري بأنه "أسرع اشتعالاً وأقصر زمناً، ويستخدم الطبيعي في شي اللحوم وتدخين الأراجيل وفي التدفئة المنزلية" وفقاً لحديث الشاب.
تنفذ تلك العمليات في المناطق الريفية باستخدام "المفحمة"، وتسمى أحياناً "المشحرة"، وهي كما يصفها ريّان "حفرة قليلة العمق، توضع فيها اﻷخشاب الخضراء بترتيب من اﻷكبر إلى اﻷصغر في رفوف متصاعدة، طولياً أو عرضياً، وبكميات مختلفة تصل إلى حدود 300 كغ، ثم تغطى بقماش عازل للهواء، وتوقد تحتها نار تستخدم الكاز أو الغاز أو حتى اﻹشعال الطبيعي لحطب يابس، وتراقب بحيث تحترق بشكل غير كامل بغياب اﻷوكسجين، حيث نقوم بإطفائها بالماء أو بالرمل، ونحصل على الفحم. ويبلغ حجم الفحم الناتج ثلث حجم الخشب المستعمل، ولا تكلف العملية أية نفقات إضافية عدا النقل".
تنتج مفحمة ريّان "وجبة" كل ثلاثة أيام للكتلة الواحدة بما يقارب 300 كيلو فحم لقرابة طن من اﻷخشاب الخضراء، "لذلك نلجأ إلى تجهيز أكثر من كومة (كتلة) ويبدأ العمل في حرقها بحيث لا نتوقف عن اﻹنتاج".
إنتاج الفحم بهذه الطريقة من أقدم الطرق التي عرفها البشر عبر تاريخهم. وفي قرى الساحل السوري لم يطالها أي تحديث رغم أضرارها البيئية. ووفقاً لموقع لمنظمة الصحة العالمية على الأنترنت "تنتج المفحمة كميات هائلة من مركبات الهيدروكربونات الحلقية التي لها صلة مباشرة بالإصابة بمرض السرطان، كما تؤدي الى إنتاج كميات كبيرة من غاز أول وثاني أوكسيد الكربون وبخار الماء وكل هذه الغازات ضارة بالبيئة والصحة".
مفاحم في كل مكان
يندر أن تخلو منطقة من قرى الساحل السوري من مفحمة، سواء كانت مرخّصة أو تعمل بحماية أحد المتنفذين. وفي السنوات الثمانية الأخيرة تم منح قرابة (873) رخصة رسمية في اللاذقية وحدها، و(650) في طرطوس، بحسب مصادر داخل مديريتي الزراعة في المحافظتين، وتنتج هذه أنواع الفحم المختلفة وتنقله بموجب الرخصة نفسها.
ويخضع إنشاء المفاحم لقوانين التراخيص الرسمية التي تمنع تواجدها بالقرب من الأحراش بمسافة لا تقل عن واحد كيلومتر بعيداً عن حرم الأحراش والغابات المقدّر بـ 25 متراً. وتشرف على موافقاتها مديريات الزراعة والبلدية والحراج، وجوار الموقع المراد إنشاء مفحمة فيه (في حال اعترض أحد الجيران تتوقف الرخصة فوراً). كما يتطلب الحصول على ترخيص "فتح سجل نظامي لمركز التفحيم مرقم ومختوم من الوحدة الإدارية بالمنطقة، تسجل فيه كميات الأحطاب الداخلة وكمية الفحم الناتجة منه، ويتم مراجعته والإشراف عليه من الوحدة التنظيمية في المنطقة والمخفر الحراجي المختص" (حسب البند الرابع من متطلبات الترخيص الرسمية).
يسمح لهذه المفاحم بإنتاج يومي يصل إلى أربعمائة كيلو غرام، إلا أن قلة قليلة منها تلتزم بهذا الرقم، حيث يتم إنتاج ما يقارب الطن يومياً في مفحمة الشاب "ريّان"، كي تكون العملية مربحة اقتصادياً على حد تعبيره.
ويضيف: "نشتري الحطب بأسعار تتغير حسب نوع الخشب، فإذا كان حطب ليمون أو زيتون فسعر الكيلو 40 ليرة (0.15 دولار)، أما إذا كان سنديان وبلوط وزعرور فسعر الكيلو 150 ليرة (0.25 دولار)". ويعبأ الإنتاج بأكياس نايلون أو خيش أو كراتين حسب طول القطعة الناتجة".
ويكمل الشاب: "نبيع في المفحمة عادة، ولا نقوم بعملية نقل ﻷن التجار يأتون إلينا، ويبلغ سعر الكيلو بين 300-500 ليرة (0.5-1 دولار) حسب نوع الفحم، وغالبية المشترين تجار نعرفهم ونثق بهم.. ولا نبيع لأي كان إلا بعد التأكد من قدرته على نقل البضاعة إلى مكانها".
وبالرغم من أن هذه المفحمة مرخصة، إلا أن المشاكل لا تنتهي على حد قول صاحبها، "بسبب الرشى التي يجب دفعها للحواجز أو للحراجية أو للبلدية أيضاً"، وتضاف جميع هذه الأتاوات والرشى إلى سعر الكيلو الواحد بحيث تبلغ تقريباً نصف سعره بعد الإنتاج.
لا يذكر الشاب أسماء تجار محدّدين يتعاملون معه، لكن هؤلاء يأتون إليه ليشتروا أكواماً كاملة قبل البدء بعملية التفحيم بعد التأكد من نوعية الخشب، ويدفعون له على كامل الكتلة التي ستفحم مبلغاً يتراوح بين 200-400 دولار حسب حجم الكتلة ونوعية خشبها، ثم يتولون نقلها على مسؤوليتهم عبر سيارات "فان" مغلقة بعد تعبئتها بأكياس.
لا يمكن ضبطها
يصعب تقدير أعداد المفاحم غير المرخصة، لكنها "تنمو كالفطر" منذ عام 2011 بحسب تعبير أحد مصادرنا من مديرية الزراعة في طرطوس، دون أن توقفها اعتراضات السكان المتضررين من تواجدها، معظمها يعود لمتنفذين أو ضباط أو قادة ميليشيات.
وتتوزع مئات المفاحم غير المرخصة على امتداد وديان وجبال الساحل السوري، الذي يعتبر البقية الخضراء الباقية من الغطاء الغابي السوري. وتبنى غالبيتها ضمن اﻷحراش والغابات الصنوبرية اﻷكثر انتشاراً في الساحل، وتمارس عملها ليلاً.
وبحسب المصادر، لا يمكن ضبطها بسهولة لأسباب كثيرة، منها، أن مواقعها تختار بحيث تتم العملية بأقصى قدر من الحيطة والحذر، أو لأن أصحابها من ذوي النفوذ.
في وادي نهر بانياس قريباً من منطقة الكعبية، وفي مبنى أّعدّ أساساً لتربية الدجاج (مدجنة)، تحيط به الأحراش من كل جانب، كان أحد المزارعين دليلنا إلى مفحمة غير قانونية تؤمن حطب التفحيم عبر إرسال مجموعة أطفال ويافعين بأعمار بين 12-16 سنة لجلب الحطب، في حين تقوم مجموعة أخرى من الأطفال بالتفحيم داخل المفحمة.
تعود ملكية المدجنة إلى إحدى عائلات القرية المجاورة، في حين أن مستثمري الفحم "استأجروها" لتنتج يومياً "أكثر من طنين عبر تحريق عدة كتل بالتزامن" وفق حديث المزارع الذي سبق له وزار المكان. وأضاف: "حرام عليهم يشغلوا هالولاد هيك، هؤلاء اﻷولاد يجب أن يذهبوا إلى المدارس لا إلى التفحيم".
حاولنا التواصل مع اﻷطفال للحصول على معلومات عن طريقة معاملتهم والأسباب التي تدفعهم للعمل هنا، إلا أنهم رفضوا الحديث إلينا بناء على تعليمات صاحب المفحمة. أحد الأطفال العاملين فيها، عمره حوالي 12 سنة، قال لنا "المعلم لا يسمح لنا بالحديث إلى الغرباء".
حرائق تسببها المفاحم
يوضح مصدر من داخل مديرية زراعة طرطوس طلب عدم ذكر اسمه وجود "مافيا تتحكم بمنح الرخص الرسمية للمفاحم، منها ما لا يحقق الشروط المطلوبة للتفحيم في جوار مناطق الغابات".
ويذكر الموظف وجود أكثر من عشرين رخصة في دائرته مرّت عليه شخصياً، ممنوحة خارج الشروط الرسمية، وتمت الموافقة عليها نتيجة الضغوط الأمنية التي تمارس على المديرين ورؤساء الدوائر بما لا يقدر هؤلاء على رفضها في ظل السيطرة الأمنية الكبرى على مفاصل مؤسسات الدولة، ويصح هذا الكلام على مناطق أخرى في سوريا، واللاذقية منها، التي تتفاقم فيها هذه الظاهرة أكثر فأكثر.
في ريف منطقة بيت ياشوط الذي تحيط به أحراش السنديان الصغير والبلوط والزعرور، قمنا بجولة في شهر شباط/ فبراير 2019 وسجلنا انتشار عشرات المفاحم ضمن حرم الأحراج نفسها دون وجود أيّة إجراءات للحماية من احتمال انتشار الحرائق، ودون إمكانية التأكد من كونها مرخصة أم لا (وهو المرجح) في ظل إقامة غالبيتها ضمن حرم الأحراج باستثناء عدد قليل منها يقع على مسافات من الأحراج الرئيسية.
وقد شهدت هذه المنطقة عدداً من الحرائق في السنوات الماضية أدى إلى التهام عشرات الهكتارات من السنديان الحراجي.
ورغم أن القانون السوري (رقم 6 تاريخ 2018) شديد فيما يتعلق بترخيص المفاحم وشروط عملها، "لكن لا يتم تطبيقه إلا في حال الإيقاع بالفاعلين بالجرم المشهود وعلى أرض الواقع" تقول المصادر، "وهو ما لا يتحقق في ظل الحماية الأمنية التي يحظى بها معظم أصحاب المفاحم".
في منطقة حريق جبل الأربعين الذي حدث مرتين أولاهما عام 2016 والثانية 2018 أتت الحرائق على مساحات واسعة من غابات ريف القرداحة (45 كم عن اللاذقية) ومناطق مجاورة تقدّر بأكثر من 80 هكتار، أشار الناشط البيئي حازم حسن (32 عاماً، اسم مستعار) من إحدى الجمعيات البيئية (التقيناه في سياق التحقيق)، إلى أنّ الجهات الأمنية والشرطية تجاهلت شكواه بشأن وجود مفاحم ضمن حرم الغابة، أدت في فصل جاف (تشرين الثاني/ نوفمبر من الشهور الجافة في سوريا) إلى اشتعال ما حولها وأدت إلى الحريق المذكور، خاصةً أن "الشخص المحتمل أنه سبب إشعال الحريق مدعوم".
يضيف الناشط: "لدى التدقيق في نقطة بدء الحريق، وهي منطقة كانت محاطة بالأحراش وكان يصعب الوصول إليها، لاحظنا وجود بقايا أغطية من النوع المستخدم في تغطية المفاحم مصنوعة من قماش ثقيل، توضّعت وسط حلقة دائرية محاطة بالأحجار.. هذا يؤكد وجود مفاحم غير شرعية ضمن حرم الغابة، كما أن عدداً من أهالي قرية قلعة المهالبة القريبة من مكان الحريق أاكدوا لنا وجود مفاحم هناك".
تعود ملكية هذه المفاحم إلى أشخاص من المنطقة دون شك، يضيف الناشط المذكور: "حتماً لا أحد يأتي من مناطق بعيدة لكي يفحم هنا، فكل منطقة تقع تحت حماية شخص معين تجري تحت حمايته أعمال التفحيم، هذا أصبح بمثابة العرف بين جماعة المفحمين". ويتابع: "يقع على "المعلّم" مسؤولية حماية عناصره الذين هم عادةً عساكر مسرّحين من الجيش أو من الميليشيات المسلحة التي عملت في الحرب".
تجري عملية نقل الفحم الناتج عبر طرقات ودروب يستحيل وصول السيارات إليها، ولذلك يلجأ هؤلاء إلى استخدام الدواب أو الدراجات النارية التي يسهل حركتها.
يقول الشاب أحمد (35 عاماً، الاسم مستعار) من العاملين في إحدى مفاحم بيت ياشوط غير المرخصة: "نقوم بنقل ما زنته 100-200 كيلو إلى أقرب نقطة تسليم، وتنقل هذه إلى مستودعات قريبة بانتظار تجميع كميات أكبر، ثم تنقل بعدها عبر سيارات من نوع "فان" مغلقة إلى مراكز تجميع أكبر، تمهيداً لنقلها إلى بقية المدن"، علما أن هؤلاء لا يحتاجون إلى أية أوراق رسمية في عملهم.
يستخدم بعض هؤلاء رخص نقل فحم رسمية ﻷشخاص آخرين في حال كان عملهم غير مغطى من قبل أحد المتنفذين. يقول حسّان (45 عاماً، صاحب مفحمة في ريف بانياس) إن "تأجير الرخص لآخرين يحقق مبالغ مالية جيدة إذا كان صاحب المفحمة متوقف عن العمل ﻷسباب مختلفة".
هكذا تموت اﻷشجار
في جولة قمنا بها في منطقة جبل اﻷسود بريف بانياس – العنازة، علمنا من السكان أن مجهولين ابتكروا طريقة جديدة في "تمويت الأشجار" في الغابة الصنوبرية المزروعة هناك منذ ربع قرن تقريباً، تقوم على حز جذور الأشجار بالقرب من سطح التربة ثم تغطيتها بالتراب بعد سقي الشجرة بمواد كيمياوية مثل الكاز، وفي غضون أسبوع إلى اثنين تموت الشجرة ويكون قطعها بالتالي ممكناً بنظر القائمين على الغابات أو الضابطة الحراجية.
وقد رصدنا في بقعة لا تتجاوز العشرين متراً مربعاً أكثر من ثمانية أشجار صنوبر تم إعدامها بهذه الطريقة، وقياساً على هذا المنوال "فإن هذه الغابة التي تبلغ مساحتها حوالي العشر دونمات من المتوقع أن تنتهي في غضون عام واحد إذا لم يتم تدارك اﻷمر" تبعاً للشاب "محمد" (28 عاماً من الضابطة الحراجية). ويعترف الشاب بعدم قدرته لوحده على اكتشاف الفاعلين مضيفاً: "كيف يمكن مراقبة غابة بمثل هذه التضاريس، وليلاً؟".
زمن الحرب.. زمن اﻷركيلة
قبل الحرب السورية بفترة قصيرة، انتقلت ظاهرة الأركيلة إلى الريف بعد أن كانت لقرون حصراً على المدن. اليوم بات من غير الطبيعي عدم امتلاك أركيلة في البيت، وجاءت الحرب لتضيف أبعاداً إضافية للأمر، فبات التنفيس عن الهموم يمر عبر تدخين اﻷركيلة، وزيارة واحدة لأي مقهى أو حتى المرور في أي شارع في أوقات المساء يوضّح الانتشار الكبير لهذه الظاهرة وحجم الجمهور المتعلق بها، خاصة من النساء والمراهقين!
قدّرت منظمة الصحة العالمية نسبة المدخنين بين الشباب في سورية بنحو 20 بالمئة، في حين يعرض الموقع الرسمي لمنظمة (أطلس التبغ) مجموعة تقديرات حول سورية، حديثة نسبياً (حتى 2015) تفيد بأن نسبة المدخنين ممن تتجاوز أعمارهم 15 عاماً تبلغ 21 بالمئة من الذكور، و8.5 بالمئة من الإناث، إضافة إلى نسب محدودة جداً تتعلق بالمدخنين بين 10 إلى 14 عاماً.
بالمتوسط، فإنّ 20% من السكان مدخنون، وعلى اﻷقل 10% من مدخني اﻷركيلة، وبقياس اﻷمر على سكان مدينة واحدة مثل اللاذقية (عدد سكانها 1.2 مليون تقريباً ألف حسب إحصاءات مختلفة)، فإنّ 150 ألف من السكان يتعاطى اﻷركيلة بشكل منتظم، يضاف لهم عدد غير معروف ممن يتعاطونها بشكل غير منتظم.
وباحتساب وزن الفحم الذي يحتاجه رأس أركيلة واحد وهو بالمتوسط 100 غرام (يحتاج أكثر من ذلك نظراً للانتقائية التي تحدث للفحم)، يكون استهلاك السكان حوالي 15 طن يومياً بسعر وسطي للكيلو (700 ليرة = 1.4 دولار) وهو ما يكلف مبلغا يقدر بـ 21 ألف دولار يومياً (حوالي 630 ألف دولار شهرياً).
ويستخدم الفحم كذلك للشواء في حوالي 150 مطعم في مدينة اللاذقية، حسب تقديرات رسمية. وباستهلاك يومي يبلغ بالمتوسط لكل منها 50 كيلو غرام، وبهذا فإن الكمية المستهلكة تبلغ 7.5 طن يومياً، بسعر فحم الشواء (دولار واحد للكيلو) يقدر بـ 7.5 ألف دولار يومياً و225 ألف دولار شهرياً.
((15 طن+7.5 طن= 22.5 طن من الفحم يوميا. وهي كمية يتطلب تأمينها ((22.5 في ثلاثة اضعاف= نحو 70 طنا من الحطب يوميا)) بما يعني قطع وتمويت آلاف الأشجار يومياً )).
يعمل في المفحمة عادة بين أربعة إلى خمس أشخاص، وأحياناً أكثر حتى يصل العدد إلى عشرة، ولكن هناك أربعة على اﻷقل، ومع ملاحظة أن هناك أكثر من 1500 مفحمة في الساحل، هذا يعني أن هناك على اﻷقل ستة آلاف شخص يعمل في هذه التجارة دون الحديث عن التجار والناقلين والبائعين من مفرّق أو جملة.
تصبح الحصيلة اﻷولية لاستهلاك الفحم في مدينة اللاذقية وحدها قرابة مليون دولار شهرياً، (وهو مبلغ كبير يثير رغبة الكثير من المتنفذين للعمل في تلك التجارة، في بلد تستمر عملته في الانهيار ويبلغ متوسط دخل الموظف الشهري فيه أقل من 50 دولاراً لمن قضى أكثر من 15 عاماً في الوظيفة).
وبإضافة طرطوس وإدلب كمحافظات إنتاج أيضاً سنحصل على رقم تقريبي "يعكس حجم عملية الإعدام الممنهجة للقطاع الغابي في غرب سوريا" حسب الناشط البيئي، حازم حسن، الذي يضيف: "إن طريقة إنتاج الفحم الجارية حالياً هي إحدى الكوارث الحقيقية للنظم البيئية في المنطقة حيث لا تسمح أبداً بالاستدامة البيئية ولا بتجديد الغطاء الغابي".
هذا اذا افترضنا ان المفاحم تنتج للمستهلك المحلي حصرا ولا توجد عمليات تصدير أو تهريب للفحم الجيد إلى دول الجوار، وهو ما يحدث حيث تصدّر كميات غير معروفة إلى اﻷسواق المجاورة وخاصة اللبنانية، ويتعلق الاستيراد هنا بنوعية الفحم وسعره وجودته العالية مقارنة بالمستورد المصنوع من قشر ثمرة جوز الهند أو من مواد أخرى، مع العلم أن سعر كيلو الفحم المستورد من جوز الهند يعادل تقريباً 1500 ليرة سورية (3 دولار تقريباً) وبالتالي فهو ليس منافساً حقيقياً للمنتج المحلي.
غالبية هذا الفحم المنتج يأتي من الجبال الساحلية، ونسبة ضئيلة من المطاعم والمقاهي تستخدم الفحم الصناعي المستورد والمصنوع من خشب جوز الهند أو مواد أخرى، و"يحتل فحم الساحل الصدارة في المبيعات نظراً لطبيعته المساعدة على الاشتعال وعلى خلوه تقريباً من الدخان، إضافة إلى جودته العالية وطول مدة احتراقه" حسب حديث السيد "عامر" صاحب مطعم التقيناه على طريق البسيط.
وبإضافة استخدام الحطب للتدفئة الذي انتشر كثيراً في ظل انقطاع وقود التدفئة الأحفوري (المازوت)، فإن المشهد يكتمل لنعرف مثلاً أن ربع أشجار محمية الفرلق (شمال اللاذقية) من البطم والزعرور والصنوبريات الثمرية قد تم قطعها في سنوات الحرب، إذ تحولت المنطقة (مساحتها 1500 هكتار) إلى منطقة معارك بين النظام الذي يستخدم سياسة الأرض المحروقة كما يقول المعارضون المسلحون الذين تمركزوا في المنطقة واستخدموا أشجارها وحيواناتها للتدفئة والعيش.
كما "أن مئات المواقع في وديان الأنهار والسواقي قد تعرضت للقطع الجائر، وهي تحتاج لعقود طويلة قبل أن تقدر على ترميم نفسها" وفقاً للتقرير الوطني الخامس لصون التنوع الحيوي المقدم للأمم المتحدة عام 2015، دون تجاهل التطور الحضري/ العمراني الذي يأتي هو الآخر على عشرات الهكتارات في مختلف المناطق.
من يتحكم بتجارة الفحم؟
منذ حوالي العام تقريباً، اختفى الفحم بأنواعه من محلات مدينة اللاذقية، على إثر حملة قاسية من الجمارك السورية طالت مصادرة الفحم وإغلاق متاجره في المدينة أو من يبيع المادة فقط، دون أن تطال المفاحم، ليعود بعد أقل من أسبوعين بسعر جديد كان ضعف السعر السابق (قفز سعر كيلو الفحم الواحد المتوسط الجودة من 400 ليرة إلى 1000 ليرة أي من نصف دولار إلى دولارين). حينها لم يدرك بائعو الفحم السبب، إلا أن اﻹشاعات سرعان ما أعلنت أن المعلّم "ي.أ" وضع يده على تجارة الفحم ضمن المحافظة. هذه النقلة جعلت سوق الفحم يخضع كلياً للشخص المذكور. كان من الواضح أن القوة التي يتمتع بها مع وجود مليشيا محلية كاملة تخضع له، جعلت السوق هدفاً ناجحاً له.
نفس هذا الشخص تمكن من الحصول قانونياً على كامل حصيلة حريق جبل اﻷربعين الذي قامت بتقطيعه مديرية الزراعة بشكل رسمي ثم إجراء مزايدة علنية لبيعه.
في تلك المزايدة تقدمت عدة شركات بعضها معروف، إلا أن هناك شركات تتخفى وراء أسماء غير معروفة وتكون معدّة لغرض المشاركة في هذه المناقصات أو المزايدات منعاً لدخول أشخاص غير معروفين، وحتى في حال دخل هؤلاء يتم إخراجهم بطرق مختلفة، منها إعطائهم مبالغ مالية ضماناً لتقديم سعر أدنى.
ولدى محاولتنا الحصول على معلومات عن هذه الشركات، تبين أنها تأسست في اﻷعوام 2013-2015، وأحدثها التي فازت بالعقد تأسّست باسم شخص غير معروف في العام 2015.
يتحكم هذا الشخص اليوم بكامل تجارة الفحم القادمة من الجبل معتمداً على منظومة متكاملة من العناصر، منها حماية المفاحم غير المرخصة التي تنتشر في مناطق الريف ولا يمكن للقوى الرسمية إلا في حالات معينة (كأن يكون صاحب المفحمة خارج منظومة صناعته وبيعه التابعة للمعلم المذكور)، تحرير مخالفة بحقها ناهيك عن إغلاقها كلياً.
يقول "محمد" (43 عاماً) وهو خفير حراجي التقيناه في منطقة بيت ياشوط جبلة، إن اﻷسهل "التغاضي عن عمل المفاحم بدل الاشتباك مع أصحابها الذين هم من المنطقة ومعروفون بارتباطهم بالتاجر السابق، في حين أن مديريات الحراج والزراعة لا تملك أن تفعل شيئاً أمام الضغوط الممارسة من فوق".
على العموم لا يقدم أي موظف على إغلاق مفحمة خوفاً من أن تطاله يد المعلم من جهة، أو أن تطاله يد صاحب المفحمة الذي لا شك يحمل سلاحاً أو لديه واسطة مع هذا الطرف أو ذاك، في حالات قليلة تم تحويل أقل من 20 شخص إلى القضاء دون أن يتضح مسار التحقيق اللاحق.
لكن ناشط بيئي من محافظة طرطوس طلب عدم ذكر اسمه، يحذر من الاستمرار في سياسة التغاضي عن عمل المفاحم غير القانونية، ومنح الرخص غير المطابقة للشروط، وغياب الرقابة على عمليات الإنتاج.
"إن تدهور الأوضاع الاقتصادية في البلاد جراء الحرب وتراجع قيمة الليرة السورية يحدّ من عمليات استيراد الفحم بالعملة الصعبة، ويجعل السوق معتمدة بشكل شبه كامل على الفحم المنتج في الداخل" يقول. ويعلق بنبرة ساخرة دون أن يرفقها بأية ابتسامة: "إنها الوصفة السحرية لتحويل واحدة من أجمل غابات المنطقة إلى جبال جرداء!".
(ينشر هذا التحقيق بالتعاون والشراكة مع مؤسسة نيريج)