على خيط رفيع

تأملات في لوحات عزة أبو ربعية


بين بيروت التي تعيش على وقع الاحتجاجات وبين لوحات عزة أبو ربعية المعروضة في بيروت، يتنقل السينمائي السوري عروة المقداد برشاقة السرد الموجوع ليأخذنا نحو عوالم لوحات عزة التي تنقلنا بدورها نحو عوالم متعددة، تبدأ من الاعتقال ولا تنتهي عند محاولة رسم وقراءة ما تخفيه الأجساد الخائفة.

25 كانون الثاني 2020

(لوحة من لوحات معرض عزة أبو ربعية في جاليري الرميل في بيروت، وهي تعرض بإذن خاص من الفنانة والحقوق محفوظة لها)
عروة المقداد

مخرج سوري له عدد من الأفلام، آخرها "300 ميل".

خلف قضبانٍ حديدية وواجهة من الزجاج الشفاف، تَشبكُ فتاةٌ ذراعيها على عُنق رجل دون ملامح في إطار مغلق. ومثل طفلٍ صغيرٍ يراقب أضواء المحلات في الأعياد، أقفُ وراء القضبان وأتفرج على فُستان الفتاةِ المعلقةِ كالشال في الهواء. تتدرج ألوان فستانها لتشكل ظلالاً من الأحمر الشفاف، وتمتزج بالرمادي لتنثني طبقات متفاوتة، كأن الفستان يرقصُ في مساحةٍ ضبابية للذاكرة.

ترسم أضواء السيارات ظلّي الواقف أمام صالة عرضٍ أقفلت أبوابها بعد أن اجتاحت المظاهرات بيروت. يَستطيلُ الظلُّ على الرصيف المعتم، ويتسرب إلى صالة العرض، فأسأل نفسي: ترى كم تغيرت؟

طبقات عدة من الألوان تشكل الفتاة والرجل كما لو أنهما حيكا من أشلاء حيوات مختلف. أتلمس ملامح وجهي، وأمرر أصابعي، على الخطوط المنعكسة على الواجهة الزجاجية. تتحرك السيارات بإيقاع سريع ثم تمر عدة "جيبات" للجيش فتختلط ألوان بدلاتهم القاسية بألوان اللوحة وخطوط وجهي الغائمة على الزجاج، فأقفز مسرعاً لينحسر الظل هارباً على الدرج القديم صاعداً إلى المنزل.

*

أركض في طرقات المدينة المحترقة بالإطارات والغازات المسيلة للدموع. وأجد نفسي واقفاً أمام اللوحات ذات الوقفة السابقة ليلة أمس، عائداً من جسر (الرينغ) حيث يعارك المتظاهرون قوات الأمن والبلطجية. يُشكل الهلع ملامح وجهٍ ينظر إلى جهة ما، يتكورُ على نفسه محتضناً صندوق أو ربما حقيبة، هل هو صندوق الذكريات؟ ما تبقى من منازلنا التي اندثرت تحت نيران القصف والمعارك؟ ما تبقى من رحلة الهروب المضنية كنازحين ولاجئين؟ تشهق العينين خلف الصندوق خشية فقدانه.

(لوحات من معرض عزة أبو ربعية في بيروت وهي تنشر بإذن خاص من الفنانة والحقوق محفوظة لها)

تعيدني اللوحة إلى بداية الثورة، وكما في قصة بورخيس (الآخر) أشعر أنني ألتقي مع آخري قبل تسع سنوات، حيث انطلقت الثورة من جانب الجامع العمري في درعا، وها هي تنطلق على بضع عدة شوارع من الجامع العمري في بيروت. طبقات الألوان والخطوط في لوحات عزة أبو ربعية في معرضها الأخير في بيروت في جاليري rmeil, تبدو أنها ظلال لعالمين يحاولان الالتقاء. آخرنا البعيد الذي نحاول التعرف عليه، لكن حين نلتقي به لا نستطيع تمييز أنفسنا فيه.

ظل بين زمنين

أنا الآن ظلٌ بين زمنين للوحة تشكلت قبل تسع سنوات ولوحة تتشكل الآن في طرقات بيروت.  ينقبض الزمن على في عقلي كما ينقبض الشاب على شبحه في لوحة أخرى. يبتسم الشبح للجسد المنطوي لافاً ذراعيه حول الشاب. تنحسر الألوان الدافئة لتتحول إلى الأبيض والأسود. تذكرني اللوحة بعمل الفنان السويسري هنري فوسيلي (الكابوس). حيث ينفرد جسد فتاة على أريكة غارقة في كابوسها فيما يربض شبحٌ شيطاني فوق الجسد. تنفلت حركة الجسد والألوان والإضاءة والظل لتشكل عالمين رمزيين عن الإنسان وكوابيسه في لوحة فوسيلي، فيما ينغلق جسد الشاب في لوحة عزة على نفسه. يتكور على شبحه، حيث، يتعايش الجسد مع الخوف الذي لم يعد كابوساً، إنما القرين اليومي وربما الملجأ الوحيد.

(ينغلق جسد الشاب في لوحة عزة على نفسه، يتكور على شبحه، حيث، يتعايش الجسد مع الخوف الذي لم يعد كابوساً، إنما القرين اليومي وربما الملجأ الوحيد. / لوحة من لوحات معرض عزة أبو ربعية في جاليري الرميل في بيروت، وهي تعرض بإذن خاص من الفنانة والحقوق محفوظة لها)

تنتقل عزة بين شعورين متناقضين فرط العاطفة، والانفصال عن الواقع، الشعورين الذين يجيشان في صدورنا في محاولات استيعاب كل تلك الآلام. يتقعر جسد فتاة ويلتف على نفسه، تشكل أطرافه خطوط حادة وحركة صارمة. إنها مفعمة. الألوان تصبح أكثر برودة لكنها توحي بالدفء. يشكل الأزرق الداكن المتموج بين الأسود والرمادي ستارة خلفية لجسدها. إنه يقول: أنا هنا مازلت قادرة على الاشتهاء والحب. نحن لا نعرف نظراتها هل هي متجمدة مثل ميدوزا أو أنها فقط المسافة بين التفكير والعاطفة؟ لكن تلك النظرة الجامدة المحفورة على طبقات الألوان والنافرة الى حد ما تشي بحزن عميق فقد دهشته.

العنف في العمل الفني مشوّش على الضحية وصورتها ويفضي تعاطف الخادع وكسل للمتلقي الذي يكتفي بالتعاطف دون الاهتمام بجوهر القضية الذي يدفعه للفعل والتحرك.   

يحلق شاب في الهواء، فاتحاً ذراعيه بحرية. إنه حر يطير منفلتاً من الزمان والمكان كالطيور التي تحوم حوله. تذكرنا الملامح الطفولية للشاب برسمات قصة (الأمير الصغير) للكاتب والفنان أنطوان دو سانت إكزوبيري، بذلك الإحساس الرهيف برغبة الانعتاق. يهرب الثائر من شبحه في لوحة سابقة ليطير في هذه اللوحة. ترقص فتاة أخرى نصف عارية. يحدد اللون الأحمر خطوط جسدها. بخفة ورقة تدور على مساحة فارغة من بياض اللوحة. عارية من الأفكار والقيود، تشكل الخطوط جسد الفتاة بوضوح، غير موارب. حركة جسدها حرٌ واقعي كأن اللحظة مسروقة من ذاكرة غائمة عن الذات المحاصرة بسجون متعددة.

الفن والعنف

قبل ما يقارب السنة، وفيما كانت بيروت تتحول إلى سجن كبير ترزح تحت وطأة العنصرية، عُلقت لوحات عزة أبو ربعية على جدران ذات صالة العرض. تناولت لوحاتها تجربة الاعتقال المريرة التي عايشتها في سوريا. ترددت بداية في زيارة المعرض، فتجربة المعتقل حاضرة في كوابيسي. شعرت برهبة تلقي العنف المعتاد المرتبط بتصوير السجن، ذلك أن العنف سبق معالجة الأعمال الفنية التي حاولت نقل المأساة في سوريا بكل مستوياتها. وكنت على قناعة أن الفعل العنيف بحد ذاته يدعو للنفور والتعاطف الشخصي على حساب التعاطف الجمعي الذي يدفع للسؤال والتفكير الهادئ. فثمة فارق بين (العنف والقسوة). فالعنف في العمل الفني مشوش على الضحية وصورتها ويفضي تعاطف الخادع وكسل للمتلقي الذي يكتفي بالتعاطف دون الاهتمام بجوهر القضية الذي يدفعه للفعل والتحرك.

خيال المعتقل بمواجهة عنف السجان

حلّق حوت أزرق وحمل على ظهره المعتقلين، طار بهم نحو جهة ما خارج الزمان والمكان. ابتسمت وأنا أشخص ببصري نحو اللوحة وشعرت بشيء من الذهول. شكلت اللوحة تكثيفاً فريد لخيال المعتقل وسلاحه الوحيد أمام عنف السجان، قدرته على اجتياز أسوار السجن والإبحار ما استطاع إلى لحظات حميمية مع الأهل والأصدقاء والأحبة. تستخدم عزة تقنية الحفر لتشعرنا بثقل ما يعايشه المعتقل لكن تشكيل الأجساد وحركتها في اللوحة تتدفق بعاطفة هادئة تجعلنا نفكر بالسجناء المغيبين لا كضحايا بل كبشر لديهم قضية إنسانية يناضلون في سبيلها. نحن لا نشاهد حالات التعذيب والانتهاك، بل تتسرب إلينا بشاعرية اللحظات المختطفة التي ينهبها السجناء في جحيمهم اليومي. كما لو أننا نقرأ قصيدة طويلة مليئة بالصور الرقيقة تحتفي بالحياة في مكان لا وجود فيه للحياة.

(لوحات من معرض عزة أبو ربعية في بيروت وهي تنشر بإذن خاص من الفنانة والحقوق محفوظة لها)

الخطوط بالأبيض والأسود في المعرض السابق تتحول في إحدى لوحات هذا المعرض إلى خطوط صفراء تشكل جسد فتاة مستلقية على ظهرها وتحتضن مخدة الى جسدها. تنتقل عزة من قسوة السجن المفرطة إلى فرط من العاطفة التي احتجبت عنا لهول المجازر والمعارك والمنافي. كما تنتقل عزة إلى محاكاة السجن بطريقة أخرى في غاية الحساسية وهي مأساة الأهل في غياب المعتقل. تصور عزة حالة الأهل وهلعهم وحزنهم في غيابه حيث يظل جسده وملامحه كاملة حاضرة في أذهانهم.

*

احتلال وسط المدينة التجاري، تتصاعد اشتباكات قطع الطرقات بين قوات الأمن والثوار. تحترق الساحات ويضرب المتظاهرين. وأنا ما زلت أتنقل بين عالمين تائهاً بين الذاكرة والواقع. الساعة الحادية عشرة مساء وها أنا أجد نفسي أقف أمام المعرض. هل كنت أقف هنا طوال الأيام الماضية؟ تتوه نظراتي وأستسلم للألوان الدافئة. أراقب الملامح الطفولية في بعض اللوحات وأشعر برغبة في القفز مثل طفل صغير. أتكئ على طرف جدار المرسم وأعاود التحديق.

نحن لا نشاهد حالات التعذيب والانتهاك، بل تتسرب إلينا بشاعرية اللحظات المختطفة التي ينهبها السجناء في جحيمهم اليومي

تشكل عزة أجساد فتيات في حالات مختلفة، بشيء من السريالية. كأنما يختلط الحلم بالحقيقة. ربما تحاول تجسيد نظرتنا المعقدة عن ذواتنا، وعلاقاتنا العاطفية والعائلية. تأثير الماضي والهوية والتراث التي تشكل خلفية مشاعرنا. يجلس جسد ما على كرسي بخطوط محفورة ويتكور على نفسه، تبدو أطرافه غير إنسانية وتشي بمخلوق ماورائي. إنه يحتضن الفراغ أو ذاته وتبدو حركة جسده مضغوطة نحو الأسفل. ثم تتحرر الخطوط أكثر على خلفية من اللون الأصفر الداكن. لا تشكيل محدد للأجساد. تبدو حركات الخطوط في التشكيل العبثي أسئلة عن كل ما سبق. أسئلة لا تمتلك ولا تنتظر أجوبة محددة. ثم تأخذنا عزة إلى مشاهد تضج بالجمال اليومي. يسير رجل مع كلبه. وتجلس امرأة بثوب فضفاض مع قططها. نستشعر الحياة الهادئة المفعمة بالملل والرغبة بالحياة. لكن الأبيض والأسود يذكرنا بأن شهوة الحياة الطبيعية لا تنفك عن المشهد الدامي المستمر في سوريا. وفقدنا القدرة على التقاط الحياة بشكلها الطبيعي. في هذه اللوحات تبرز المشهدية اللحظية على الإحساس العاطفي في غياب الألوان. ربما يذكرنا ذلك باللوحات (السوداء) لفرانثيسكوا جويا. لكن في لوحات عزة نحن أمام التحام الخوف والفزع بشكل حميمي.

(من اللوحات السوداء لفرانثيسكوا جويا/ ويكيبيديا)

أمضيت قرابة أسبوع أتكئ على جدار صالة العرض وأشاهد لوحات عزة من وراء القضبان الحديدة لواجهة المعرض المقفل. وكلما توقفت صدفة هناك، فكرت بوجه الشبه بين اللوحات والوحش في قصة فرانكنشتاين، ذلك المخلوق الطيب الذي وجد للحياة عن طريق تجربة مجنونة من أشلاء أجساد ميتة. لقد مزقتنا آلام السنوات الماضية، وها نحن نحاول تجميع شتات صورنا الداخلية، وفي ذلك المسعى نصطدم بالحياة الطبيعية حولنا، فنكره أنفسنا ثم نكره صانعنا وصانع هذا العالم. وكما الوحش في القصة تركب عزة بطبقات من الألوان ذاكرتنا البعيدة المليئة بصور من حياتنا الشخصية الحميمية التي فقدناها، بذلك الخيط الرفيع من الحياة الطبيعية التي حلمنا بها يوماً ما. إنه استحضار لجميع الأحبة الذين فقدناهم، ومازال يربطنا فيهم خيط رفيع من فيض حب استفاق فينا عند اندلاع الثورة.

مقالات متعلقة

الفن السوري: روايات عن الأمل واليأس والثبات

17 كانون الأول 2016
تحلل نتالي روزا بوخير في هذا المقال رحلة الفن السوري من زمن الاستبداد إلى زمن المنفى اللبناني، معرجة على حكايا الفنانين في ظل الاستبداد قبل عام 2011 وفي ظل الثورة...
الفن والمجتمع في سورية.. ملامح أولية

28 شباط 2019
دفعت الحالة السورية الاستثنائية، منذ ربيع 2011، إلى طرح السوريين، ومن بينهم الفنانون، أسئلةً جذرية حول معاني الهوية والانتماء والعمل الفني. أتت هذه الأسئلة مرفقة بسيرة الفنان الشخصية وصلته الحياتية...
تركيا تكتشف الفنانين السوريين

08 كانون الثاني 2017
هجرة السوريين (أو تهجيرهم) الكثيفة نحو الخارج خلقت واقعا جديدا في عدد من دول اللجوء، حيث حمل هؤلاء خبراتهم إلى أراض جديدة وبدؤوا من الصفر. الفنانون السوريون، جزء من الشعب...
حصار بيروت ٢٠١٩

22 تموز 2019
في سرد آسر وحزين، يكتب المخرج السوري المعروف، عروة المقداد، عن يومياته في بيروت، مقارنا بين حال السوريين وحال الفلسطينيين، متنقّلا بين زمنين، زمن الآن حيث تضيق بيروت بالسوريين وزمن...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد