بحسب إحدى الروايات من الشهر الماضي، دفن عناصر من المخابرات العسكرية جثامين عدّة في ظلمة الليل، في أحد الأماكن قرب مدينة السويداء في جنوب سوريا، وقيل إنّ المتوفّين ماتوا من جرّاء إصابتهم بفيروس كورونا المستجدّ.
طوال أسابيع، نفت الحكومة السورية وجود الفيروس الفتّاك في سوريا، واشتبه كثيرون بمحاولة طمس للواقع. لكن، بات إخفاء الفيروس أصعب الآن، إذ بدأت الدول المجاورة لسوريا بالإبلاغ عن حالات إصابة بالفيروس لأشخاص كانوا قد سافروا من سوريا حديثًا. توفّيت أيضًا امرأة من ريف دمشق الأسبوع الماضي، علمًا أنّ إصابتها بالفيروس لم تُرصد، كما أنّها لم تلتزم بالحجر المنزلي، وعلى الأرجح أنّها نقلت العدوى لأشخاص آخرين.
حتى الآن، بحسب أرقام منظمة الصحة العالمية ووزارة الصحة في سوريا، تمّ إثبات 19 حالة إصابة بفيروس كورونا. من بين المصابين، توفّي شخصان وتعافى آخران كليًا. يشكّ الكثيرون بأن تكون الأعداد الفعلية أعلى بكثير، لكنّ الحصول على معلومات دقيقة وموثوقة عن فيروس كورونا في سوريا مهمّة صعبة.
أجرى موقع "حكاية ما انحكت" مقابلة مع مازن غريبة من حمص، وهو أحد الباحثَيْن الذين نشرا دراسة حديثة لكلية لندن للاقتصاد جرى تداولها بشكل واسع حول قدرات سوريا في مجال الرعاية الصحية لردع تفشّي فيروس كورونا.
يناقش غريبة مع "حكاية ما انحكت" الوضع الراهن لتفشّي الفيروس في سوريا، انطلاقًا من أعداد المصابين وسط هذه الأزمة، الدور المتزايد لوكالات الاستخبارات والأقسام الأمنية في التحكّم بالردود الرسمية، والأسباب وراء تراجع قطاع الصحة العامة لهذه الدرجة بعد 10 سنين من الحرب.
قال غريبة إنّ المقلق بشكل خاصّ هي نظرة الجهاز الأمني السوري السيء السمعة إلى فيروس كورونا كـ"خطر أمني".
أضاف: "لأنّ الناس يشعرون بأنّ النظام يتعاطى مع الجائحة كخطر أمني أو قومي، أخذوا يخبّئون عوارضهم أو يحاولون تفادي الذهاب إلى المستشفيات لتجنّب الاستجواب. هذه كارثة بحدّ ذاتها، أن يخاف الناس الذهاب إلى المستشفى والتماس الاهتمام الطبي أو الإفصاح عن عوارضهم، وسط جائحة كهذه".
س: نُشرت دراستك منذ أسبوع تقريبًا، لكن تسارعت الأحداث بعدها. هل يمكنك أوّلًا إطلاعنا على آخر المستجدّات المتعلّقة باستجابة سوريا لفيروس كورونا وما حصل في الأيام الأخيرة؟
بالطبع. عندما نشرنا تقريرنا، اقتصرت الإصابات على خمس حالات مؤكّدة من وزارة الصحة ومنظمة الصحة العالمية. لكن، ثمّة 16 حالة مثبتة في سوريا الآن، وتوفّي اثنان منها، بينما تعافى اثنان آخران كليًا، بحسب وزارة الصحة. هذه هي الأرقام الرسمية، لكن لا أعتقد أنّها تجسّد الواقع داخل سوريا. إنّها مجرّد أعداد رسمية نشرتها وزارة الصحة.
]منذ المقابلة مع غريبة، ارتفع عدد المصابين المثبتين بفيروس كورونا إلى 19].
عزّزت الحكومة أيضًا التدابير التي تتّخذها، وأقفلت جميع المدن في سوريا، ليس فقط دمشق. بالتالي، بات الانتقال من مدينة إلى أخرى غير ممكن. ثمّة حظر تجوّل جزئي، كما مُنعت صلوات الجمعة والتجمّعات في المساجد والكنائس. أغلقت المدارس أبوابها أيضًا حتى إشعار آخر. كذلك، فُرضت إجراءات صارمة على السفر بين المُدن، تحديدًا في دمشق وضواحي وسط المدينة. كان التركيز على حيّ الستّ زينب، الذي عادة ما يقصده الحجّاج الإيرانيون والشيعة. أعتقد أنّ التدابير الصارمة على هذا الحيّ تقريبًا ناجمة عن الحجّاج الإيرانيين وأعدادهم الكبيرة في هذه المساجد المقدّسة، ما يثير مخاوف كثيرة.
أرسلت منظمة الصحة العالمية 300 أداة لفحص الفيروس إلى الشمال الغربي، وأمّنت منظمات غير حكومية سورية 300 أداة إضافية. بالإجمال، ثمّة 600 أداة فحص في الشمال الغربي الآن من أصل 2000 كان قد وعد بتأمينها طاقم مجموعة الصحة التابع للمنظمة إلى الشمال الغربي.
نسمع أخبارًا بأنّ الحكومة تزيد أيضًا عدد الفحوصات في اليوم، لكن ما من أعداد محدّدة لسوء الحظّ حول عدد الفحوصات التي تجريها أو النتائج الفعلية لها بسبب عدم الإفصاح عن المعلومات علنًا، كما طلبت الحكومة من الأطبّاء في المستشفيات عدم تشارك المعلومات المتعلّقة بفيروس كورونا.
في تقريرنا، ذكرنا تدخّلًا استخباراتيًا في سوريا ازداد في الأسبوع الأخير. تتدخّل وكالات الاستخبارات الآن أكثر بسياسات الرعاية الصحية، بالإضافة إلى وجودها الدائم في المستشفيات الحكومية لمراقبة الوضع عن كثب.
في مستشفى الزبداني مثلًا الذي عُيّن كالمستشفى المسؤول عن مكافحة فيروس كورونا في ريف دمشق، يراقب عناصر الأمن داخل المستشفى الوضع بدقّة. منذ بضعة أيام، نشرت وكالة الأنباء الرسمية "سانا" رسمًا بيانيًا للمعلومات يطلب من الناس إطلاع السلطات بأيّ حالة مشتبه بإصابتها بالفيروس، وشعرت شخصيًا أنّه تهديد. فيعرف جميع السوريين ما يعنيه إطلاع السلطات فعليًا.
يشعر السوريون بذعر متزايد، ويحاولون إخفاء عوارضهم أو تفادي الذهاب إلى المستشفى لتجنّب الاستجواب، لأنّهم يرون أنّ النظام يتعاطى مع الجائحة كخطر قومي أو أمني.
تحدّثت إلى عدد من الناس الذين قالوا إنّهم يفضّلون عدم الإفصاح عن عوارضهم لتفادي أي مشاكل مع السلطات. هذه كارثة بحدّ ذاتها: أن يخاف الناس الذهاب إلى المستشفى والتماس الاهتمام الطبي أو الإفصاح عن عوارضهم، وسط جائحة كهذه.
س: هل من معلومات تظهر أيّ وكالات استخباراتية أو أقسام أمنية تتدخّل في القطاع الصحي الآن؟
يبدو أنّ أقسامًا عدّة كانت متورّطة في البداية، مثلًا تولّى قسم المخابرات العسكرية الاستجابة للجائحة في السويداء في جنوب سوريا، ولكن اختلف الوضع في أماكن أخرى.
يبدو أنّ شعبة الأمن السياسي تتولّى زمام الأمور الآن، لأنّ عناصرها متواجدة في المستشفيات الحكومية. لدى الشعبة مكاتب عدّة في مستشفيات حكومية مختلفة، لذا نقدّر أنّها تقود الإستراتيجية من بين قوى الأمن/المخابرات.
هذا تمامًا ما حصل خلال جائحة إنفلونزا الخنازير التي اجتاحت العالم في 2009، حيث كانت شعبة الأمن السياسي المسؤولة عن إدارتها أيضًا.
س: سوريا ليست الدولة الوحيدة في المنطقة أو العالم التي تستغلّ هذه الجائحة لأغراض سياسية. قلت إنّ الأرقام لا تعكس الواقع. ماذا يحصل فعليًا ولم نسمع عنه بعد؟
ما زال الناس يتحدّثون عن كارثة محتملة أو تفشٍ ممكن للفيروس في سوريا. لكن، تظهر أبحاثنا ومصادرنا في محافظات مختلفة في سوريا أنّ الكارثة قد حلّت والفيروس تفشّى. ليست توقعات مستقبلية، وإنّما هذا أمر قد حصل. بالتالي، لا تمثّل هذه الأرقام السيناريو السوري، ولا بأيّ شكل. تحدّثنا إلى أطبّاء دقّوا ناقوس الخطر حول الوفيات بأمراض مرتبطة بالتهاب رئوي، وهي أعداد تفوق معدّل تلك التي في السنوات السابقة. لا نملك إحصاءات دقيقة، لكنّ أطبّاء عدّة اتصلنا بهم أخبرونا أنّ التزايد في الوفيات بسبب التهاب رئوي حادّ. كذلك، ارتفعت حالات الإصابة بفيروس كورونا بشكل جنوني في جميع البلدان المحيطة بسوريا، من لبنان والعراق إلى إيران وتركيا، وثمّة تقارير عديدة من باكستان ولبنان عن حالات آتية من سوريا.
س: ذكرت مرّات عديدة في دراستك نقصًا متجذّرًا في القدرات في قطاع الرعاية الصحية في سوريا. يشكّل ذلك جزءًا مهمًا من هذا المقال لأنّ فيروس كورونا يستنفد قدرات القطاع الصحي ويدفعه إلى الهاوية، وهذا من أبرز مخاطره. لا بدّ أنّ معظم الناس يألفون مفهوم استهداف النظام السوري وحلفائه للمستشفيات والأطبّاء عمدًا خلال الثورة والنزاع في سوريا، لكن ماذا عن المستشفيات في مناطق النظام، حيث لم تتبدّل الإدارة أو الحكم، على عكس المناطق تحت سيطرة المعارضة؟ ماذا يمكنك إخبارنا عن التراجع البطيء للقطاع الصحي في هذه المناطق، ولمَ يشكّل فيروس كورونا تهديدًا كبيرًا؟
كما ذكرت، تعرّضت المنشآت الصحية لتدمير منهجي في المناطق خارج سيطرة النظام، ويدفع جميع السوريين الثمن، ليس فقط المعارضة. فالفيروس لا يفرّق بين الناس بحسب انتماءاتهم السياسية. إذا تفشّى المرض في إدلب، لا شكّ في أنّه سيصل إلى دمشق ودرعا وحماة.
في المنشآت الصحية في مناطق الأسد، تطغى مسائل متعلّقة بالنزاع، وأغلبيتها متعلّقة بالكهرباء ورأس المال البشري. بحسب الأمم المتحدة، 70% من الأطبّاء السوريين لاجؤون أو نازحون داخليًا، لذا يواجه نظام الرعاية الصحية في سوريا مشكلة كبيرة من ناحية رأس المال البشري، بسبب عدد الأطبّاء والطاقم التمريضي المتدرّب، وغير ذلك.
لكن، أضف إلى ذلك المسائل غير المرتبطة بالنزاع. تعاني سوريا من نظام صحي ضعيف منذ زمن طويل، فهو ليس بالجودة التي يتخيّلها كثيرون. إذا قصدت مستشفى حكوميًا في سوريا، عليك أن تنتظر في طوابير طويلة، ناهيك عن المعايير في هذه المستشفيات. أعتقد أنّ السوريين مؤهلون ويبذلون قصارى جهدهم، ويريدون النتائج نفسها كالأطبّاء في إدلب، مثلًا. لكن، في الوقت نفسه، ثمّة درجة كبيرة من البيروقراطية والمركزية في سياسات الصحة، بالإضافة إلى التدخلات المستمرّة من أجهزة الأمن في النظام الصحي.
لا شكّ في أنّ النظام يسيّس جائحة فيروس كورونا لتناول مواضيع مثل العقوبات وللادّعاء أنّ العقوبات السبب الرئيسي وراء عدم قدرته على مكافحة تفشي الفيروس. لكن، يدرك أيّ شخص مطّلع على العقوبات، سواء العقوبات الأميركية أو عقوبات الاتحاد الأوروبي، أنّ النظام الصحي مستثنى منها. لذا، يستعمل النظام الفيروس كورقة سياسية لإلقاء اللوم على العقوبات في تدهور الوضع الصحي.
لكنّ هذه الذرائع غير صحيحة، فالسبب الأساسي وراء تدهور الوضع هي البنية التحتية السيئة أصلًا والاستهداف المنهجي للطاقم الصحي والمنشآت الصحية. ليست العقوبات المسؤولة عمّا آلت إليها الأمور، إنّما أفعال النظام السوري ضدّ النظام الصحي.
س: ليست الحكومة السورية اللاعب الوحيد المتّهم بتسييس الاستجابة في سوريا. انتُقدت منظمة الصحة العالمية أيضًا، تحديدًا لطريقة استجابتها في مناطق النظام والمعارضة. كيف تصنّف استجابة المنظمة؟
أعتقد أنّ منظمة الصحة العالمية تشارك في هذا التسييس لجائحة فيروس كورونا في سوريا، سواء كان ذلك عن معرفة أو غير معرفة. فقول أحد المتحدّثين بإسم المنظمة "لا نتعامل سوى مع دمشق لأنّها الدولة" تصريح في غاية السوء.
[في مقال نشرته صحيفة نيويورك تايمز في 19 مارس/آذار 2020 بعنوان "علينا أن نغسل أيدينا؟ ماذا عن الناس الذين لا يمكنهم تحميم أطفالهم لأسبوع؟"، اقتُبس قول متحدّث بإسم منظمة الصحة العالمية، وهي إحدى وكالات الأمم المتحدة، إنّ "شمال غرب سوريا ليس بلدًا"، عندما سُئل عن أدوات الفحص التي ستصل إلى محافظة إدلب بعد تسليم دمشق التي يحكمها النظام هذه الأدوات.]
يبدو أنّ منظمة الصحة العالمية لا تفهم أُسُس العمل في مناطق نزاع أو الواقع السياسي في سوريا. لذلك، تساعد بعملها رواية النظام، سواء عن معرفة أو غير معرفة.
كيف تتوقّع من شخص كان يفجّر مستشفيات منذ ثلاثة أسابيع أن يعطي هذه المستشفيات نفسها أدوات فحص الأسبوع التالي؟ ما من منطق في ذلك.