سوريا وأسئلة كورونا


نتأمل تداعيات هذا الزلزال الكبير الذي ضرب مركبنا الأرضي ككل، لتتوحد البشرية للمرة الأولى، ربما في تاريخها كله، حول عدو واحد. ومع ذلك، لن نعدم أن نجد من يسعى لاستغلال هذا الفيروس لمأرب شخصية ودنيئة بما يدل على أن الوعي البشري لا زال قاصرا عن التفكير بالعالم وطنا للجميع، وبالبشرية كلها أسرة واحدة، أسرة تتعاضد معا لتتخلص من كوابيسها مجتمعة، لا من كابوس الكورونا فحسب

28 آذار 2020

(لافتة مرفوعة في مدينة بنش في الشمال السوري بتاريخ ٢٠ مارس ٢٠٢٠/ المصدر: صفحة "كفر نبل المحتلة" على الفيسبوك والصورة تنشر بموجب الاستخدام العادل والحقوق محفوظة لأصحابها)
محمد ديبو

باحث وشاعر سوري. آخر أعماله: كمن يشهد موته (بيت المواطن، ٢٠١٤)، خطأ انتخابي (دار الساقي، ٢٠٠٨). له أبحاث في الاقتصاد والطائفية وغيرها، يعمل محرّرا في صحيفة العربي الجديد.

حين وقفت أمام سوبر ماركت "ريفي" في العاصمة الألمانية برلين يوم ٢٤ فبراير، متأملا الإجراءات الجديدة المتخذة ضد وباء كورونا، حيث بات هناك حارس يرتدي كفوفا في يديه ويضع كمامة، ينظم الدور أمام الباب ويمنع دخول أي أحد قبل خروج أحد من الداخل، واحد يدخل مقابل واحد يخرج كي لا يجتمع عدد كبير داخل السوبر ماركت، فيما طابور الناس يتزايد خارجا، حيث يلتزم كل منهم بما يقال له، ثم يعود ليترك مسافة متر على الأقل بينه وبين الذي يليه.. كان أول ما تذكرته، حين كانت أمي ترسلني في الطفولة لأقف أمام باب المؤسسة الاستهلاكية للحصول على حصة أسرتنا الشهرية من السكر والرز، حيث أقف في طابور طويل يتدافع فيه الناس تدافعا يمنعني من الوصول إلى البائع، ما يدفع أمي للحاق بي بعد يئسها من إمكانية تحصيلي "تمويناتنا" كما كانت تسميهم.

الكورونا في الساحل السوري

23 آذار 2020
ما هي حقيقة كورونا في سوريا؟ هل يخفي النظام الإصابات حقا؟ ولم؟ وحتى لو أراد إخفائها فهل يسطيع؟ وما حال المشافي السورية اليوم؟ هل هي مجهزة وقادرة على التعامل مع...

ما أتذكره عن سوريا في تلك الأيام، أن الناس كانت تعيش خوفا يوميا من فقدان الأشياء وعدم وجودها في اليوم التالي. وحين نقول فقدان الأشياء، فلا نعني بذلك الأشياء الترفيهية، بل الأشياء المتعلقة بحياة المواطن اليومية، مثل السكر والرز والطحين، حيث كان المواطنون تنازلوا طواعية منذ زمن طويل عن الحلويات والفواكه، إلى درجة أن من كان يجلب إلي بيته مادة مثل الموز في تلك الأيام، كان يعتبر غنيا في عرفنا، وهذا كان حال جيراننا الذين كان أباهم يعمل في الجمارك، حيث نراهم يأكلون البيض والموز وبعض الفواكه فيما نحن تقف على الدور لنحصل على سكر "نسفه سفا"، لتكون هذه حصتنا الوحيدة من حلويات الطفولة!

بين أزمة ثمانيات القرن الماضي وأزمة كورونا اليوم، سيعيش السوريون خلال مسار الثورة السورية وتعرجاتها أهوالا قادمة من يوم الحشر، أهوال تبدو معها تخوفات العالم بأسره اليوم، على الرغم من قوتها ورعبها ومدى تهديدها البشرية جمعاء، وكأنها بروفة اعتادها السوريون الذين عانوا هذا الحجر الذي يقوم به الناس اليوم طواعية لإبعاد المرض عنهم، فيما عاناه السوريون قسرا وموتا واعتقالا، حجر يضاف له الكيماوي والموت جوعا والخوف والتهجير، وهو ما دفع أهالي كفر نبل الذين عوّدنا على السخرية المرة، ليس من أحوالنا فقط، بل من أحوال العالم الذي أسقطوه من أفكارهم وحساباتهم منذ زمن بعيد، ليتكتبوا عبارة مرة الدلالة والتساؤلات: "أيها العالم الذي أتعبه أسبوع من الحجر... تذكروا من يعانيه منذ تسع سنوات"، لنكون أمام أسئلة مرة فعلا: لماذا لم ينتبه الحاكمون لهذا العالم إلى هول ما يحصل في العالم من كوارث في مناطق أخرى، من أفغانستان إلى سورية والعراق ومالي والقارة السمراء واليمن وليبيا؟ ولما لم ينتبه البشر، إذا كان الحاكمون مشغولون بمصالحهم، إلى معاناة البشر في مناطق أخرى؟ هل يجب دائما أن تصيبنا الكارثة حتى ننتبه لما يحصل حولنا؟ لماذا صرفت ملايين الدولارات وترليوناتها على سباقات التسلح فيما البشرية عاجزة عن تصنيع لقاح يقي البشر، وهو لقاح تقول الدراسات أنه كان يمكن استخلاصه عبر استباق حدوث الكارثة التي تجتاحنا اليوم، لو صرفت الأموال على مراكز البحث العلمي المتخصصة بهذا النوع من الفيروسات، بدلا من صرفها في الحروب والتوسع وسباقات التسلح، التي تقف عاجزة اليوم عن فعل أي شيء في حرب البشرية كلها ضد الفيروس، بما يعني أن العالم مقبل على تحولات كثيرة وكثيفة وعميقة، تحولات لا يمكن التنبؤ بها اليوم، نظرا لأننا لا زلنا جميعا في مرحلة الصدمة، نتأمل تداعيات هذا الزلزال الكبير الذي ضرب مركبنا الأرضي ككل، لتتوحد البشرية للمرة الأولى، ربما في تاريخها كله، حول عدو واحد. ومع ذلك، لن نعدم أن نجد من يسعى لاستغلال هذا الفيروس لمأرب شخصية ودنيئة بما يدل على أن الوعي البشري لا زال قاصرا عن التفكير بالعالم وطنا للجميع، وبالبشرية كلها أسرة واحدة، أسرة تتعاضد معا لتتخلص من كوابيسها مجتمعة، لا من كابوس الكورونا فحسب. وهذا ما يدل عليه، الصراع بين شركات الدواء على التنافس على صناعة الدواء، لا لوضعه في خدمة البشرية، بل لاحتكاره وتكديس المزيد من الربح!

كورونا أم اللاجئون.. أيهما أخطر؟

18 آذار 2020
العزلة أمر صعب للغاية، فنحن كبشر نحتاج إلى بعضنا البعض أكثر مما كنا نتصور. وبناء على هذه الفكرة لا يمكننا فصل مشكلة الكورونا عن مشكلة اللاجئين العالقين اليوم على الحدود...

فيما يخصنا سوريا، لا شك أن وقع الجائحة أكبر وأعظم علينا من بقية العالم، إذ رغم أن السوريين يعانون القهر والموت منذ سنوات، ورغم أنهم في حجر إجباري، سواء في سورية أم دول الجوار أم على الحدود اليونانية أم في بلدان اللجوء حيث يعانون التهميش والعنصرية التي باتت تتكاثر كتكاثر كورونا نفسها، إلا أنهم الأقل حماية في مواجهة الفيروس، نظرا لفقرهم وعدم قدرتهم على شراء أبسط مستلزمات الحياة، ناهيك عن كون القطاع الصحي بات مستنزفا بالكامل، على طرفي الصراع، ففي جهة المعارضة لم يترك النظام وحماته الروس والإيرانيين والميليشيات المقاتلة إلى جانبها أي مشفى أو نقطة طبية إلا وقصفوها في حرب انتقام واضحة وعلنية أمام صمت العالم الذي يحتاج اليوم إلى كل ممرض وطبيب، حيث بات هؤلاء الذهب الذي ينبغي حمايته والاستحواذ عليه في الأزمة، فيما كانوا يسكتون عن قتلهم في الأمس! وفي مناطق النظام، حيث الفساد والرشوة من جهة والعقوبات الاقتصادية من جهة أخرى، يفتكون جميعهم بالجسد الصحي الضعيف والمتهالك أيضا جراء الحرب، والذي يزيد الطين بلة، وجود حكومة يعرف الجميع كذبها، لذا لا يمكن تصديقها في أي رقم تصدره.

وإذا أخذنا بعين الاعتبار، التفات كل حكومات العالم إلى تأمين حاجات دواخلها الوطنية المتهالكة والخائفة بفعل الفيروس، فلنا أن نتوقع أن لا يد ممدودة للسوريين اليوم، ما لم نسعى نحن بأنفسنا لتنظيم أنفسنا عبر مبادرات فردية ومدنية علها تخفف مصابنا ومصاب أهلنا السوريين، فهل نفعل؟

مقالات متعلقة

في عزلة كورونا.. إعادة اكتشاف البيت (١٢)

18 نيسان 2020
مع فرض الحظر الصحي يتشارك ملايين الناس حول العالم محاولات إعادة اكتشاف البيت. يَفتحُ هذا الخللَ في الحياة اليومية، أسئلةً حول معنى (البيت) بُنيته ومركزتيه، ومعنى خسارته والحرمان منه. وطالما...
كورونا أم اللاجئون.. أيهما أخطر؟

18 آذار 2020
العزلة أمر صعب للغاية، فنحن كبشر نحتاج إلى بعضنا البعض أكثر مما كنا نتصور. وبناء على هذه الفكرة لا يمكننا فصل مشكلة الكورونا عن مشكلة اللاجئين العالقين اليوم على الحدود...
سوريا وأسئلة كورونا

28 آذار 2020
نتأمل تداعيات هذا الزلزال الكبير الذي ضرب مركبنا الأرضي ككل، لتتوحد البشرية للمرة الأولى، ربما في تاريخها كله، حول عدو واحد. ومع ذلك، لن نعدم أن نجد من يسعى لاستغلال...
الكورونا في الساحل السوري

23 آذار 2020
ما هي حقيقة كورونا في سوريا؟ هل يخفي النظام الإصابات حقا؟ ولم؟ وحتى لو أراد إخفائها فهل يسطيع؟ وما حال المشافي السورية اليوم؟ هل هي مجهزة وقادرة على التعامل مع...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد