(هذه المادة بتنشر بالتعاون والشراكة بين حكاية ما انحكت ومؤسسة شبكة الصحفيات السوريات)
(القامشلي)،"للجمال وجوه عدة عدا جمال المظهر، هذا ما أحاول إثباته، وأظن بأني فعلت".
بهذه الكلمات تصف هيلين عثمان أحد أسباب تسمية المجموعة التي تديرها على منصة الفيس بوك بـ"جميلات روج آفا"، وهي التي لم تكن تتخيل نفسها أنها ستصبح يوماً شخصية مشهورة تدير مجموعة تضم أزيد من 60 ألف امرأة متوزعات على عدد كبير من دول العالم، ويشار لها بالبنان في عديد المبادرات التي عجزت عنها منظمات غير حكومية تعمل في شمال وشرقي سوريا منذ سنوات.
حلم تحقق...
حلم المرأة الثلاثينية بدأ منذ 3 سنوات، حين أنشأت مجموعة على موقع الفيسبوك لعدد من صديقاتها بهدف التواصل فيما بينهن، ولطرح محتوى هادف بعيداً عن "المحتوى السخيف الذي كانت تزدحم به مجموعات نسوية أُضِفتُ إليها". تقول هيلين ضاحكةً، وهي تذكر مثالاً عن هذا المحتوى، وذلك عبر اتصال معها على تطبيق الواتسآب تجنباً لإجراء المقابلة وجهاً لوجه نتيجة حظر التجوال الذي فرضته الإدارة الذاتية في شمال وشرقي سوريا كإجراء احترازي لمنع تفشي فيروس كورونا المستجد.كانت "المجموعة" بداية حلم راودها حين استيقظت في أحد الأيام، وقد وصل عدد المنضمّات إلى ما يزيد الألفين، وعن هذا الحلم تقول هيلين: "أردت الوصول إلى مرحلة ينظر فيها العالم إلى المرأة الكردية، أو بالأحرى إلى المرأة في روج آفا بشكل عام، كامرأة قوية انتزعت أدواراً اجتماعية كانت حكراً للذكور فقط، وهذا ما وصلنا إليه تماماً، وهو ما تحدثت عنه وسائل إعلام هامة كصحيفة التيليجراف البريطانية وغيرها".
التخطيط للأهداف اللاحقة
تزايد عدد المنضمات للمجموعة، دفعها للتفكير أنها أمام مشروع قد يغير من حياتها، فبدأت تخطط لإدارة الصفحة حتى تستطيع ضبط المنشورات التي كانت العضوات تنشرنها، فخصّصت أياماً محددة للنشر العام، كما وضعت شروطاً للانضمام، وأساليب تحقُّق كالتأكد من جنس مقدم/ة الطلب عبر المشرفات اللواتي قد وزَّعت عليهن المهام.
بدأ دخول الانترنت إلى سوريا أواخر القرن الماضي، إلا أنه كان محصوراً بعدد من مؤسسات الدولة، ولم ينتشر الاستخدام الشخصي للأنترنت بشكل كبير إلا في السنوات العشر الأخيرة، كما لم يكن بمقدور السوريين/ات أن يدخلوا إلى وسائل التواصل الاجتماعي المعروفة مثل (Facebook) و(Twitter) و(YouTube) كونها كانت محجوبة من قبل الحكومة السورية، التي فكت الحظر عن هذه المواقع وغيرها إبان الحراك المناهض لها في آذار العام 2011
يعتبر تطبيق الفيسبوك الأوسع انتشاراً في سوريا عموماً، ومنها مناطق الإدارة الذاتية في شمال وشرقي سوريا. وفي الوقت الذي تغيب فيه إحصائيات دقيقة حول عدد مستخدمي "الفيسبوك" في هذه المناطق، إلا أن نسبة لا بأس بها من السكان يستخدمونه كوسيلة سريعة لتلقي الأخبار والتواصل والبيع والشراء بين أبناء المنطقة عبر مجموعات خاصة بذلك.
من خلف الشاشة إلى الميدان
بدأت مجموعة الفيسبوك التي أنشأتها هيلين، والتي حملت اسم "جميلات روج آفا" من النساء في المناطق السورية ذات الغالبية السكانية الكُردية، والمعروفة باسم "روج آفا" أي الغرب، والمقصود بأنه الجزء الغربي من كُردستان، إلا أن انتشار المجموعة تجاوز المنطقة، وسوريا، ووصل إلى عدد كبير من دول العالم، لا بل إن عدد من النساء غير الكُرديات، من دول عربية عدة أصبحن من ضمن أسرة المجموعة.
لم يتوقف نشاط المجموعة عند حدود الفيسبوك، بل نقلن مبادراتهن إلى أرض الواقع عبر مشاركة نساء المجموعة، مالياً ولوجستياً، مثل إغاثة عدد من نازحي مدينة رأس العين وتل أبيض، والذين نزحوا نتيجة عملية "نبع السلام" التي شنتها القوات التركية بمشاركة فصائل سورية موالية لها، على مناطق شمال وشرقي سوريا في شهر تشرين الأول من العام الماضي، حيث تقول رشا محمد، وهي إحدى مشرفات المجموعة لحكاية ما انحكت: "نشرنا الدعوة عبر المجموعة، وتلقينا تبرعات مادية وعينية، ولوجستية أيضاً، فالبعض شاركن في تجميع المواد وترتيبها، وأخريات قدمن منازلهن كمستودعات مؤقتة للمواد المراد توزيعها، أو قمن بتأمين وسائط نقل بشكل مجاني".
"الجميلات" في مواجهة كوفيد 19
تستضيف المجموعة عدداً من الأطباء والطبيبات بشكل دوري في اختصاصات عدة، خصوصاً تلك المتعلقة بأمراض النساء والأطفال، ومؤخراً للتوعية بمخاطر فيروس كورونا المستجد.
وقد شارك طبيب الأسنان جوان تمو، عبر بث مباشر استمر ساعة ضمن المجموعة لتقديم النصح حول سبل الوقاية من الفيروس من طريقة غسل اليدين ومدته، واستخدام المعقمات وطرق مزجها إلى طرق تعزيز المناعة.
وعن ذلك يقول تمو لحكاية ما انحكت: "نهيتهنّ عن زيارة طبيب الأسنان إلا في الحالات الإسعافية وبشرط استخدام حاجز بين المريض والطبيب" ويرفق ذلك بصورة توضح شكل الحاجز ويضيف: "نسبة إصابة طبيب الأسنان تصل إلى 100% لذا يعتبر ناقلاً "ممتازاً" للعدوى".
كما قامت هيلين وزميلاتها مؤخراً بتوزيع سلل غذائية على بعض العائلات التي توقفت عن كسب رزقها اليومي بسبب الحظر المفروض، ووزّعن كمامات ومعقمات في الحدائق العامة.تعرض المجموعة كذلك منشورات علمية وثقافية، في محاولة لإضفاء نوع من الفائدة العلمية عليها، إضافة إلى كونها وسيلة للتواصل الاجتماعي والترفيه، وذلك بمراعاة أعمار عضوات المجموعة التي تتراوح بين (١٣) و(٦٠) عاماً.
ملكة جمال القامشلي
لم تقتصر المجموعة على العمل الميداني والهادف، بل كان لها بعض النشاطات الترفيهية مثل انتخاب ملكة جمال "القامشلي" حيث كان هناك اقتراح لانتخاب ملكة جمال المجموعة. لكن وبسبب اعتراض بعض المشاركات بسبب صعوبة تمييز الصور الحقيقية عن المعدلة منها بواسطة برامج تحرير الصور (الفلاتر)، كان القرار بإقامة حفلة جماعية في إحدى الصالات، وانتخاب ملكة الجمال في الحفل، وتقرر أن يكون اللقب باسم "ملكة جمال القامشلي" وليس ملكة جمال المجموعة وحسب.
التغطية الإعلامية الكبيرة للحفل أبرزت مشكلة غير متوقعة لهيلين، وهي اعتراض عدد من مسؤولي الإدارة الذاتية على إقامة هكذا مسابقة، بحجة أنها تسليع للمرأة، وخروج عن التقليد المتبع لصورة المرأة في مناطق الإدارة الذاتية بكونها امرأة مقاتلة وغير مهتمة بقضايا متعلقة بجمال الشكل.
"الجميلات" ووحش الانتحار
شهدت مدينة القامشلي خلال شهر شباط الفائت 4 حالات انتحار، كانت اثنتين منها لعضوتين في المجموعة، ما استدعى استدراكاً سريعاً باستضافة عدد من الاختصاصيين/ات النفسيين/ات لإقامة جلسات عبر خدمة البث المباشر، بهدف زيادة الوعي ومنح الدعم اللازم لصاحبات الميول الانتحارية، وقد حدث بالفعل أن تواصل عدد من الفتيات المقبلات على الانتحار مع هيلين وتم احتواء أوضاعهن.
"لا أستطيع التخلص من تلك الفكرة؛ كلما اقترب مني زوجي أتذكر حادثة اغتصابي" تقولها سيدة ذات ميولاً انتحارية لهيلين، رافضةً التواصل مع اختصاصية نفسية بهذا الشأن، ما اضطر هيلين إلى لعب دور الوسيطة بينهما "كنت أبحث عبر الإنترنت عن الأساليب الناجعة للتعامل مع هكذا حالات، كما إنني كنت أستشير اختصاصيات نفسيات، وأتصرف مع الضحية وفق الإرشادات التي أتلقاها، إلى أن تحسَّنت بشكل ملحوظ".
تقدم سمر الصاري، الاختصاصية النفسية في معهد العلاج السلوكي التحليلي التابع لجامعة غوته الألمانية، استشارات نفسية مجانية لعضوات المجموعة عبر تطبيق سيجنال "الأكثر أماناً من واتس آب" على حد قولها، وذلك للحفاظ على أكبر قدر ممكن من الخصوصية، وتقول لحكاية ما انحكت: "المشاكل الزوجية وعلى رأسها الخيانة الزوجية من طرف الرجل أو الغيرة المرضية للرجل، ومشاكل المراهقات الناجمة عن علاقات عاطفية غير ناجحة، والخوف من الفشل الدراسي كانت من أبرز الأسباب وأكثرها تكراراً، والتي دفعت الفتيات للتفكير بالانتحار، وتوجههن أو توجيههن لتلقي الاستشارة النفسية".
منافسة "غير شريفة"
لم تنجُ هيلين من محاولات الإساءة من صفحات منافسة، فقد دفعت الغيرة عدد من الصفحات إلى محاولة التشهير بها، والنيل من سمعتها، خصوصاً وأن المجتمع الشرقي لا زال يُوْلِ الاهتمام الكبير لهكذا قضايا، كما إنها تتعرض لضغوط اجتماعية بسبب المكانة التي وصلت لها بفضل شهرة المجموعة، فلا يكاد يخلو يومها من نميمة قيلت أو شائعة أطلقت، ما يضعها وأفراد أسرتها تحت ضغوط نفسية تنعكس سلباً على حياتهم اليومية.
"الميم" في المجموعة
تحاول هيلين التطرق إلى مواضيع مسكوت عنها في المجتمع بغية طرحها للنقاش العام، فحاولت طرح منشور لتعرف مدى تقبل المجتمع للمثلية الجنسية، لكنها واجهت معارضة كبيرة في التعليقات، مما دفعها لحذف المنشور وتأجيل طرح هكذا قضايا إلى حين نضوج الظروف بشكل أفضل فهي تعتقد "بأنه من المستحيل للمجتمع تقبل هذا الموضوع في الوقت الحالي".
تجربة واعدة رغم التحديات
تجربة هؤلاء النساء في مجموعة "جميلات روج آفا" أثبتت قدرة المرأة على المبادرة والتكاتف وتقديم يد العون والتنظيم وقيادة مجتمع مليء بالتحديات؛ تجربة هي الأولى من نوعها في المنطقة. ورغم النواقص التي تعتريها إلا أنها تشكل أرضية مهمة لمنصات تواصل تساهم في رفع السوية المجتمعية لمناطق شمال وشرقي سوريا، وصلة وصل بين النساء اللواتي بقين في البلاد، واللواتي هاجرن إلى خارج الحدود، وهي تجربة تستحق العمل عليها للوصول إلى مستوى أكثر احترافية، وكذلك لتكون قاعدة صلبة لمنصات مجتمعية أخرى.
تختصر هيلين تجربتها بالقول: "إنها هبة من الله أن يكون لي دور في تقديم المساعدة لمن يحتاجها، ولن أتراجع مهما كلف الأمر".