في عزلة كورونا.. إعادة اكتشاف البيت (١٢)

البيت في أهم أفلام السينما العالمية


مع فرض الحظر الصحي يتشارك ملايين الناس حول العالم محاولات إعادة اكتشاف البيت. يَفتحُ هذا الخللَ في الحياة اليومية، أسئلةً حول معنى (البيت) بُنيته ومركزتيه، ومعنى خسارته والحرمان منه. وطالما تتفرد السينما في حضور البيت، عن الشعر والمسرح والرواية التي تمدنا بصور شاعرية عنه، بالتجسيد الفيزيائي الذي تخلقه الكاميرا في تشكيل علاقة مكانية وزمانية لها بعدٌ فلسفي وشاعري، لذا ستكون هذه العلاقة موضوعاً وفضاءً لأعظم الأفلام في تاريخ السينما، وهو ما تتحدث عنه هذه المقالة.

18 نيسان 2020

(ريم يسوف/ اللوحة تنشر بموجب الاستخدام العادل والحقوق محفوظة للفنانة)
عروة المقداد

مخرج سوري له عدد من الأفلام، آخرها "300 ميل".

لطالما كانت العودة إلى البيت إحدى أكثر لحظاتنا سحريةً في الحياة اليومية، ومع فرض الحظر الصحي يتشارك ملايين الناس حول العالم محاولات إعادة اكتشاف البيت. يَفتحُ هذا الخللَ في الحياة اليومية، أسئلةً حول معنى (البيت) بُنيته ومركزتيه، ومعنى خسارته والحرمان منه.  وعلى الرغم من هول مشاهد ضحايا الفايروس في إيطاليا، إلا أنّ صوراً مبهجةً بثّها الإيطاليون من شرفات بيوتهم كسلاحٍ في مواجهة رعب الفايروس، والتخفيف من ضراوة العزل. تحمل هذه المشاهد في عمقها دلاتٍ مختلفة، فخط الدفاع الأخير للإنسان في مواجهة الأخطار الداهمة يتمثل في اللجوء إلى (البيت).

يُشكّل (البيت) رؤيتنا الذاتية عن العالم. فهو كونُنا الأول كما يصفه غاستون باشلار في كتابه (جماليات المكان) "وهو كونٌ حقيقيٌ بكلّ ما للكلمة من معنى". يخلق (البيت) ما يُطلق عليه باشلار أحلام يقظتنا الشاعرية. فالبيت أعطانا الدفء والحماية، ثم منحاه القدرة على التأمل في ذواتنا وفي الكون. منحنا ثبات أركانه القدرة على الإمعان في الأفكار، ترتيبها، ثم الانطلاق بها نحو الحياة.

عكف مُعظم الخاضعين للحظر، على إيجاد طرقٍ لتزجية الوقت الطويل في البيت، التي بدأت من الطبخ وانتهت بمشاهدة الأفلام والمسلسلات، حيث أتاحت المهرجانات والمواقع الإلكترونية المئات منها بشكلٍ مجاني. ولعل السينما هي أكثر الوسائط تعبيراً عن علاقتنا المعقدة بالبيت. فقد شَغلَ فضاءُ البيت، في حيز الصورة ترجمةً عميقة للأفكار الفلسفية والنفسية التي تتناول تلك العلاقة. وتتفرد السينما في حضور البيت، عن الشعر والمسرح والرواية التي تمدنا بصور شاعرية عنه، بالتجسيد الفيزيائي الذي تخلقه الكاميرا في تشكيل علاقة مكانية وزمانية لها بعدٌ فلسفي وشاعري، لذا ستكون هذه العلاقة موضوعاً وفضاءً لأعظم الأفلام في تاريخ السينما.

بيت الطفولة

أفكار حول الإشكاليات السينمائية

05 آذار 2019
النقاش الذي يجري اليوم، سوريا، حول السينما الوثائقية ودورها وهدفها، ليس جديدا، "وإنما بدأ مع الأفلام التي أنتجت عقب اندلاع الثورة السورية 2011، وشكلت انقساما حادا حول هذه الأفلام وصنّاعها"،...

حرماننا من بيت الطفولة يسبغ الحياة بقسوةٍ عصيةٍ على التفسير. لذا فإن علماء النفس يعودون إلى مرحلة الطفولة والمراهقة لفهم سلوكنا ورغباتنا والدوافع الكامنة ورائها. يضيف باشلار (البيت) كموضوع بحث لفهم أكثر عمقاً لتلك الرغبات والدوافع. يتناول أورسن ويلز في رائعته (المواطن كين) العلاقة مع بيت الطفولة بالمعنى الجمالي (الظاهراتي) الذي تناوله باشلار. (رزبود) اللغز الذي سيتركه (كين) على فراش موته، سيكون مفتاحاً لفهم قسوة وأنانية الناشر والسياسي الفاحش الثراء. محاولات كشف لغز تلك الكلمة ستعرّي المعنى الجوهري للبيت وتشكيله لشخصية (كين). إننا لسنا أمام فيلم يتناول حياة ناشر وسياسي كانت له الهيمنة في الحياة الاجتماعية والسياسية الأمريكية المليئة بالفضائح والمكائد، نحن أمام العلاقة الجدلية مع البيت بمعناها الشاعري.

يقفز الصغير (كين) تحت ندف الثلج المتساقطة خارج المنزل الخشبي بسعادة غامرة. تتراجع الكاميرا لتدخل إلى البيت وتكشف عملية التفاوض مع والديه لبيعه ونقل وصايته إلى أحد الأثرياء. (كين) يلعب في عمق الكادر غير مدركٍ وحشة المصير الذي سينتظره. سيحدد هذا المشهد الاستثنائي التغريب الذي سيعيشه أثناء صناعة إمبراطورتيه وعلاقاته العاطفية على مدار الفيلم. يخلق ويلز ذلك التناقض بين بيت الطفولة الحميمي والقصر الموحش.  مشهد لعب (كين) على الثلج أمام بيت الطفولة هو حلم يقظته الذي سيستمر معه حتى نهاية حياته، إنه البيت الأليف الذي أتاح له فضاء اللعب، وأضاف عليه الشتاء مسحة من الحميمية، جعل من الثلج خلفية للنقاء والصفاء والسكينة. المدفأة الضخمة في صالة قصره الواسع لا تستطيع بعث الدفء في محاولاته الحثيثة لامتلاك حيوات الناس. يستحيل بياض ثلج الطفولة إلى سواد الرغبة في امتلاك كل شيء تعويضاً عن خسرانه لبيت الطفولة. القصر المترامي الأطراف الغارق بتماثيل وتحف فنية جامدة، لن تعوضه عن (رزبود) فردوسه المفقود، المقتلع من حناياه، حيث تاه في محاولات العودة إليه دون أن يجد لذلك سبيلاً.

بيت الأحلام

لا تمتلك جميع البيوت شاعرية (بيت الأحلام)، الذي وصفه باشلار بأنه ذلك البيت المؤلف من ثلاث طبقات: القبو والعلية والطبقة المتوسطة. يُحلل كارل يونغ في كتابه "الانسان الحديث يبحث عن الروح"، العلاقة بين تلك الطبقات الثلاث. فيضرب مثلاً لرجلٍ يعيش في منزل مكون من الطبقات الثلاث. الرجل يجلس في الطبقة المتوسطة فيسمع صوتاً مريباً، فيسرع إلى العلية ليتأكد من عدم وجود لصوص وحين لا يجد لصوصاً، فإنه يُقدر أن ما يسمعه مجرد (وهم)، في حين أن هذا الرجل لا يجرء على النزول الى القبو. فالقبو هنا يتصل بالمخاوف العميقة للإنسان.

إن قبو البيت يتخذ ما يسميه يونغ، مخاوف البشرية العميقة المرتبطة بالعبودية والرغبة بالتحرر. ومن القبو تنطلق الحياة صعوداً نحو حلم اليقظة (التحرر من جحيم الفقر)

يؤسس القبو في فيلم "الطفيلي" للمخرج الكوري "جونج بو هو" جوهر علاقة الشخصيات. تحاول عائلة فقيرة اغتنام فرصة الهروب من جحيم قبو تعيش فيه على هامش المدينة، نحو بيت (الأحلام) عندما يتيح القدر أن تتسلل العائلة الفقيرة إلى بيت العائلة الثرية. يذهب ابن العائلة الفقيرة الشاب ( كي وو) لتدريس اللغة الانكليزية لابنة العائلة الثرية، وحين يدخل إلى البيت، تغمر الشمس الكاميرا لحظة دخوله، كما لو أنه يعيش في حلم يقظة. تدور الكاميرا حوله ليتبدى فضاء البيت الواسع الغارق بخضرة الأشجار وزرقة السماء. تفتخر "مدبرة المنزل" بأن البيت يمتلك تاريخاً، وهو من تصميم مهندس معماري ذائع الصيت. إذاً فالمنزل متصل بعمق بالأرض، والقبو الذي سنكتشف أنه يعود الى الحرب العالمية، مصمم للنجاة أيضا، حيث يختبئ فيه زوج مدبرة المنزل الذي يحلم بالصعود إلى بيت الأحلام.

(يؤسس القبو في فيلم "الطفيلي" للمخرج الكوري "جونج بو هو" جوهر علاقة الشخصيات/ المصدر: مواقع التواصل)

إن قبو البيت يتخذ ما يسميه يونغ، مخاوف البشرية العميقة المرتبطة بالعبودية والرغبة بالتحرر. ومن القبو تنطلق الحياة صعوداً نحو حلم اليقظة (التحرر من جحيم الفقر). يتسلل أفراد عائلة (كي وو) إلى منزل العائلة الثرية، ليتولوا إدارة شؤونها. وفي تجسيد لحلم عائلة (كي وو) بامتلاك بيت الأحلام، نراهم مجتمعين في الصالون الفاخر بعد خروج أفراد العائلة الثرية في رحلة تخييم خارج المدينة. تعد عائلة (كي وو) طقساً احتفالياً وتغرق بالسكر والثرثرة. تشتد العاصفة خارج المنزل، فيراقب أفراد عائلة (كي وو) المطر الغزير المنهمر من وراء جدران البيت الزجاجية. إن سمة البيت التاريخية الراسخة هي قدرته على حمايتنا من أهوال الكون وعواصفه وكوارثه، وأيُّ متعةٍ أكثرُ من مشاهدة العاصفة تمرُّ أمام أعيننا ونحن نتمتع بالدفء والثرثرة عن توافه الحياة. لكن الحلم لا يستمر، تهرب عائلة (كيم) تحت أمطار العاصفة الغزيرة التي تغرق حيّهم بالكامل وتجعل من القبو مكاناً مليئاً بمخلفات البشر. يلتجئ سكان الحي إلى إحدى مراكز الإيواء حيث يسأل (كي وو) والده وهما مستلقيان ومنهكان: "ما هي خطتك؟ يجيبه أتعرف ما هو نوع الخطط التي لا تفشل؟ الخطط التي لا وجود لها". تتخذ خططنا في الحياة مساراً عشوائيا عندما يغيب البيت، أساس قدرتنا على تشكيل المستقبل والتخطيط له، أساس أحلام يقظتنا.

شاعرية البيت

يسبغ البيت الشاعرية على حياتنا. اللحظات العائدة للطفولة تمنحنا صوراً كثيفة، تتسرب إلى ذاكرتنا وخيالنا وتمنحنا نوع من القدرة على تجميل واستيعاب العالم. تقترب كاميرا آندري تاركوفسكي في افتتاحية فيلمه (المرآة – (1975 من الأم الجالسة على سور البيت، تراقب السهل الواسع الممتد أمامها. تنتقل الكاميرا إلى لقطة أمامية لنتعرف من خلالها على ملامح الأم الجالسة، حيث يتبدى وراءها البيت كما لو أن حركة الكاميرا تخلق ذلك الدمج بين ملامح الأم وتفاصيل البيت الراسخ في الطبيعة. يحدد هذا المشهد العلاقة في الفيلم بين الأم والبيت وذكريات المخرج الذي يجهد في ترميمها.

(تريللر فيلم المرآة ١٩٧٥ من إخراج أندريه تاركوفسكي)

مع دخولنا إلى البيت الحالم يستخدم تاركوفسكي قصدية شعرية ليؤسس لشعرية البيت في ذهن المتلقي. ذلك أن الشعرية وحدها ستستطيع تكثيف ذكريات البيت. يحدد تاركوفسكي هذا المدخل الشعري في الحوار الدائر مع الأم في المشهد الافتتاحي، حيث يقول نحن عكس الطبيعة في عجلة وتوتر واضطراب لأننا لا نثق بالطبيعة الداخلية لأنفسنا. لكن البيت هو جزء من الطبيعة وهو صلتنا الأساسية مع الأرض.

ويا إلهي أنتِ لي فقط،

وعندما تستيقظين، تغيّرين لغة البشر وتفكيرهم

شكّلتِ لغة الخطاب الفخيمة، بكلامك المهذب

كأحاسيس تبدّلت فجأة بافتتان

حتى الأشياء القليلة، كانت تقف بيننا

وتحرسنا كالماء الصلب المتراصف

حملتنا لا أعلم إلى أين

تتقهقر خلفنا كالسّراب

أعشاب النعنع تحت أقدامنا امتدت

الطّيور كانت تتبع موقع أقدامنا

والأسماك جاءت للنهر تنحني

والسماء كانت مفتوحة لأعيننا

وخلفنا المصير يتلمّس طريقه

كرجل مجنون بيده نصل

ننتقل من الصور الشعرية للقصيدة إلى شاعرية كاميرا تتحرك مع الأم وأطفالها نحو الحريق الكبير. لتنعكس ملامح الأطفال والأم في المرآة، ثم نخرج تحت قطرات المطر نحو البيت المجاور المشتعل بألسنة اللهب. يقف الجميع مدهوشاً أمام ذلك المشهد المفزع لاحتراق المنزل. تتكثف الشعرية في هذا المشهد، حيث سيفتح حلم اليقظة نحو الاستغراق في تفسير العالم. البيت وصوره الشعرية هو موضوع رؤية الذات. إنه حلم تاركوفسكي المرهق عن الحياة، عن منزل الطفولة الذي مهد الطريق أمامه نحو عالم عصي على التفسير، عالم غارق في القسوة يسير فيه الجنود نحو حتفهم غارقين بوحل الحروب المفزعة، حالمين بالعودة الى بيوتهم.

السينما، البيت، التلصص

الجلوس ومراقبة حياة الآخرين هو جزء من علاقتنا الحميمة مع المنزل، الرغبة باكتشاف أسرار الكبار وخوض المغامرات والقفز وراء أسوار المنزل للوصول نحو العمق الكوني وتحفيز المتعة في التغلب على الموت بعيش حيوات لا نهائية. الردة المفاجئة للبيت، أثار الشعور بالهشاشة المفرطة لعالم (الخارج) الغير محمي. ذلك أننا فقدنا القدرة على البقاء في الداخل (البيت) كما أن الخارج بات محكوماً بفضاء ثالث افتراضي (وسائل التواصل الاجتماعي). بالعودة الاضطرارية إلى البيت بدا العجز واضحا عن الالتفات لسحرية المنزل، وبات لابد من استحضار اليومي المعاش في الفضاء الثالث (الافتراضي). فالردة هنا ليست اختيارية وإنما جبرية، وهذه الجبرية تطلبت وسيط ثالث يُنجي من الإحساس بالاعتقال. اللجوء لوسائل التواصل الاجتماعي تنشئ هذه العلاقة التلصصية التي تعود في عمقها إلى طفولتان والعلاقة مع النوافذ والستائر وتلصص الأبناء على الآباء وتلصص الآباء على الأبناء.

(سحر التلصص النابع من البيت هو جوهر متعة السينما، فهي تضعنا في ذلك المكان المحمي المعتم لنتلصص على حيوات الآخرين واكتشاف أسرارهم/ لوحات للفنانة ريم يسوف وهي تنشر بموجب الاستخدام العادل والحقوق محفوظة للفنانة)

سحر التلصص النابع من البيت هو جوهر متعة السينما، فهي تضعنا في ذلك المكان المحمي المعتم لنتلصص على حيوات الآخرين واكتشاف أسرارهم. إنه يمنحنا القدرة على التنقل في كل مرة خارج حدود الفيزياء، والمنطق. ويكثف حيواتنا وينقلنا عبر الزمن. إن التلصص مزيج من الرهبة والدهشة. ألفريد هيتشكوك يبرع في تجسيد هذه المشاعر في فيلم "النافذة الخلفية – 1954"، حيث  يرسم تلك العلاقة المدهشة بين البيت والتلصص. يصاب المصور الصحفي (جيف) بكسر في قدمه فيفرض عليه ذلك الجلوس في المنزل. وفي ذلك الصيف الحار حيث نوافذ الحي مشرعة "يتلصص" جيف من خلال عدسة كاميرته المكبرة على نوافذ جيرانه. يضعنا الفيلم كمتلصصين مع البطل في تلك الرغبة بالاحتماء واكتشاف حيوات الناس وتصرفاتهم المتناقضة. إننا نجلس في بيوتنا ونتلصص على هذا الكون من خلال القصائد والروايات والأفلام. النوافذ هي عيون البيت المشرعة نحو الكون الفسيح.  لكن بيوت المدينة لا تتمتع بهذا القدر من الشاعرية والألفة. إنها تحتم علينا ذلك التغريب في العلاقات. إن التلصص يأخذنا إلى الرعب الكامن في أعماقنا وتناقضات رغباتنا. التلصص سيفضي في النهاية إلى اكتشاف خطيئة ما، جريمة ما نحاول التستر عليها. الكتل الإسمنتية للمجمعات الضخمة تبدو محكومة بعلاقة متأرجحة مع الأخلاق والدين. فقي رائعة كسلوفسكي (الخطايا العشر) تخيم الأسئلة القدرية على شخصيات المسلسل في المجمع الضخم، نحن أمام تشابكات مختلفة ومعقدة للقدر. الخيانة والموت والاختيار. ينقلب سحر البيوت هنا إلى وجع مصيري يرتبط بأسئلة ليس لها أجوبة. بيوت المدن بحسب الكاتب الفرنسي بول كلوديل نوع من المكان الهندسي الذي نؤثثه بالصور والأشياء والخزائن داخل الخزائن. إنهم يضعوننا في هذا النوع من البيوت كي لا نتصل بعمق مع تاريخ الأرض، كي تخيم كآبة مريعة على مصائرنا.

(من فيلم النافذة الخلفية لألفريد هيتشكوك/ المصدر: الأنترنت)

على مشارف الثمانين يعود أكير كورساوا لأحلامه المرتبطة ببيت الطفولة. يشكل العالم في ثمانية أحلام يقظة تمتد على سنين عمره. ومن أمام منزل الطفولة يخرج كورساورا إلى عالم سحري يستغرق فيه لتجميل العالم، حيث الثعالب ترقص، وأرواح بستان الخوخ تحزن على قطعها، وروح العاصفة تجذبه إليها. وعذاب النجاة من الحرب يأخذه إلى نفق يخرج منه جندي، ويقول له أنه عاد من الموت وذهب إلى بيته وأكل فطيرة من يد والدته. القائد المذعور لهذه الرؤية يحاول أن يخبر الجندي ذي الوجه الأزرق الشاحب بأنه روى له هذا الحلم قبل أن يموت. يسير الجندي محزوناً وينظر إلى التلال، ويشير لقائده نحو ضوء يلمع كنجم بين التلال، ويقول له وهو ينتحب: هذا هو بيتي.

أين يكمن الجمال في هذا العالم؟

تنتقل الشعرية في فيلم "باترسون" إلى التفاصيل اليومية في منزل صغير يعج بالأحلام. الأساس الأول للشعر كما يقول باشلار. الاستغراق بأحلام اليقظة التي تمنحنا التدقيق بالتفاصيل اليومية. يمضي الشاعر في شاحنته وفي يومياته الغارقة بالألفة ليؤلف قصائد في غاية العذوبة. تتغذى العلاقة الحميمية بين المنزل المكان لتتحول باترسون جميعها الى وطن.

لا وجود للملحمية في فيلم جارموش، الملحمية في شعرية القصائد التي يؤلفها باترسون، في اليومي المعاش في دائرة تكتمل بين الداخل والخارج. منزل الأحلام وحلم اليقظة الذي يبدأ داخله ليمتد إلى الكون الشاسع.

(تنتقل الشعرية في فيلم "باترسون" إلى التفاصيل اليومية في منزل صغير يعج بالأحلام/ صورة مأخوذة من فيلم باترسون وهي تنشر بموجب الاستخدام العادل والحقوق محفوظة لأصحابها)

هذا المعنى الشعري متضمن في قصائد وليم كارلس، الذي كتب أحد أشهر القصائد تحت عنوان "باترسون" التي يعتبرها البعض أنها قصيدة "أمريكا"، يقول وليم في مطلع قصيدة "باترسون":

قسوة الجمال في السعي،

لكن كيف نستطيع إيجاد الجمال،

عندما يكون محبوساً في العقل

بعيداً عن كل اعتراض.

البيت والمعتقل

حياة البيت تنعدم بمفهومها الإنساني مع الأنظمة القمعية الفاشية التي تحيل يومياته إلى نوع من العذاب الجسدي والنفسي المليء بالغرائز الحيوانية المخيفة وانحطاط السلوك البشري. يتحول البيت في ملحمة بازوليني (120  يوم في سدوم) إلى قصر يخضع فيه مجموعة من الشباب والفتيات إلى أقسى أنواع السادية من قبل مجموعة من الأثرياء الفاشيين. يضج الفيلم بمشاهد مقززة من العنف الجسدي والجنسي، التي تدور في أروقة القصر. ولكن ألا تبدو الحياة بالفعل كما هي في قصر هؤلاء الأثرياء؟ نكدح كل يوم في سبيل الامتثال إلى رغباتهم في هذا العالم؟ الكد اليومي في سبيل حياة تحرمنا من أبسط حقوقنا وتدفعنا لندفن رأسنا في اليومي المعاش. الإهانات التي نتلقاها في كل يوم نخرج فيه من بيوتنا نحو العمل في سبيل إرضاء قيم تنتقص من كرامتنا الإنسانية وتنتهك مساحة الحرية لدينا وتمارس ضغوط جنسية وجسدية علينا.

(من فيلم ١٢٠ يوم في سدوم/ المصدر: الأنترنت وهي تنشر بموجب الاستخدام العادل والحقوق محفوظة لأصحابها)

في المشهد النهائي للفيلم يراقب الأثرياء واحداً تلو الآخر من النافذة الطرق السادية في تعذيب الفتيات والشبان. إنهم يقومن أيضاً بفعل التلصص واحداً تلو الآخر على الساحة التي تقلع فيها الأعين وتقطع فيها الألسن، ويتم فيها اغتصاب جماعي. نحن لا نسمع صوت آلامهم، هذه المشاهد الصامتة لأناس يتعذبون دون صراخ تثير الأثرياء الجالسين على كرسيهم الأشبه بالعرش. ومع هذه المشاهد نسمع مقطع من قصيدة لإزرا باوند:

القبيلة بأكملها تتكون من جسد رجل واحد، ماذا كنت تعتقد؟ أهنالك سبيل آخر؟ اللقب والفنون التعسة؟

فقدان البيت

مع تهدم البيوت وسحقها يغيب المعنى الشعري الحالم عن حياتنا، تصبح محاولة الالتقاء مع الماضي والذات غائمة وضائعة، ويخيم عليها كآبة الفقدان. إن فقدان المنزل هو بالضبط العري الروحي المذل للإنسان. لقد كشف لنا الحظر مساحة التغريب التي نعيشها في هذا العالم. فلا شيء مشترك بين دوله وقاراته، فمنذ سنوات كان ثمة جائحة عالمية قتلت ملايين البشر وأخضعت مئات الآلاف منهم لجحيم المسالخ البشرية دون أن يعتكف أحد في منزله لإيقاف عجلة الحياة.  فقد الملايين أكوانهم الخاصة ورحمهم الشعري وقدرتهم على وضع خطط للمستقبل.

اغتراب السينما السورية (8)

10 شباط 2020
لعل ما هو أكثر إحباطا فيما يتعلق بالسينما السورية، هو أن الجمهور الأكثر صلة وقرابة لهذه السينما لدرجة التماهي، هم آخر من سَيتسنى لهم فرصة المشاهدة. كما أن تلك الفرصة...

للمرة الأولى يقترب الموت من الناس بهذا الشكل الجماعي. الموت يواجهنا جميعاً، ولن تعود الحدود أو المرتبة الاجتماعية أو الثروة قادرة على حمايتنا ولو جزئياً. لم يعد الموت مجرد أخبار بعيدة تقع في الطرف الآخر من العالم. لكن ماذا عن أولئك العائدين من صراع مرير مع الموت؟ نبدو نحن السوريون مثل الفارس (أنطونيوس) العائد من الحروب الصليبية إلى بلده في رائعة انغمار برغمان (الختم السابع). يجتاح الطاعون البلاد، ويهبط ملاك الموت ليقبض أرواح الآلاف. يظهر الموت مكللاً بالسواد بوجه أبيض شاحب للفارس قرب شاطئ البحر. فيسأله الفارس: هل أنت قادم من أجلي؟ يجيبه: لقد كنت قربك منذ فترة طويلة. في رحلة العودة الطويلة إلى البيت، يلعب الفارس مع الموت لعبة مليئة بالأسئلة حول معنى الحياة والغاية منها. لكن في النهاية لا يستطيع الفارس الهروب من الموت فيلاقيه عند وصوله إلى بيته مهدوداً راغباً في الراحة. يثير الفيلم سؤالا ً حول معنى التفكير في الموت والهروب منه؟ إنه فقط يثير الخوف الكامن فينا ويسلبنا الانتباه للحياة القصيرة التي نمر فيها.

ملاحظات لا بد منها:

*تستند هذه المقال في مجملها على كتاب غاستون باشلار (جماليات المكان) حيث يحاول باشلار دراسة البيت من خلال الشعر والنماذج الأدبية.

*تتجنب المقال الدخول في تفاصيل قصص الأفلام وفردها تلافياً لاحراق احداثها.

مقالات متعلقة

كورونا أم اللاجئون.. أيهما أخطر؟

18 آذار 2020
العزلة أمر صعب للغاية، فنحن كبشر نحتاج إلى بعضنا البعض أكثر مما كنا نتصور. وبناء على هذه الفكرة لا يمكننا فصل مشكلة الكورونا عن مشكلة اللاجئين العالقين اليوم على الحدود...
سوريا وأسئلة كورونا

28 آذار 2020
نتأمل تداعيات هذا الزلزال الكبير الذي ضرب مركبنا الأرضي ككل، لتتوحد البشرية للمرة الأولى، ربما في تاريخها كله، حول عدو واحد. ومع ذلك، لن نعدم أن نجد من يسعى لاستغلال...
لا استسلام أمام كورنا.. الصراع من أجل لقمة الخبز

07 أيار 2020
حكاية تروي تفاصيل كفاح ونضال منيرة يوسف من مدينة القامشلي مع الحياة وصعوباتها في بلد الحرب منذ أعوام. هذه الحرب التي دمرت الكثير، ومنها إرادات الناس قبل أن تحطم حيواتهم....
الترويج لثقافة العنف ضد النساء بالفكاهة

24 تموز 2020
كان من الملاحظ خلال فترة الحجر تزايد انتشار عدد من التعليقات "البوستات"، التي تحمل طابعاً تمييزياً ضد النساء، وتسخر منهن ومن صفاتهنّ وخصائصهن الجنسية والجسدية، ومن الأعمال المنزلية التي يقوم...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد