(اللاذقية)،
"شو ما صار فينا، قليل علينا، والله يستر من الأعظم".
عبارة أطلقها على أسماعنا مختار إحدى القرى الصغيرة في ريف القرداحة (مسقط رأس الأسد الأب) في حديثه عن واقع حال الساحل السوري بعد أربعة أيام على بدء سريان مفعول قانون قيصر اﻷميركي.
كتابات على جدران القرداحة
ربما منذ عقود لم يحدث أن يعلو صوت سكان الريف العلوي بهذا الشكل العلني ضد حكم عائلة اﻷسد، وفي عقر داره. فمع سريان قانون قيصر بساعات معدودة انشغلت مدينة القرداحة بوجود دوريات أمنية حضرت منذ الصباح الباكر بعد وصول إخبار بوجود كتابات "ضد الرئيس" على بعض الحيطان وحاويات القمامة، حيث أغلقت الطرقات المؤدية إلى مناطق الكتابات لتفتح بعد أقل من ساعة قامت فيها الدوريات بمحو تلك الكتابات دون أن نتمكن من تصويرها وتوثيقها.
وبالتوازي مع انتشار الدوريات، أغلقت غالبية محلات القرداحة أبوابها، خاصة السوق الرئيسي، في حين بقيت محلات بيع القهوة والاتصالات مفتوحة تقريباً، ووصل سعر صرف الدولار إلى ما فوق 3200 ل.س. وتأتي هذه التطورات بعد المعركة اﻷخيرة التي تم فيها "تشليح رامي أمواله وشركاته، وعلى عينك يا تاجر ودون أي وجه حق" كما يقول المختار.
هذا الرأي الذي يتضامن مع رجل اﻷعمال رامي مخلوف يمثّل رأي قسم لا بأس منه من سكان القرداحة ومحيطها، ويتأكد ذلك من اﻹجراءات المتخذة من قبل أسماء اﻷسد ضدّ جمعية البستان الخيرية التي تم إلغاؤها نهائياً ونقل ممتلكاتها إلى مدينة حمص تحت مسمّى "مؤسسة العرين" وبإدارة أسماء مباشرةً، وهو ما مثّل ضربة قاصمة لتاريخ طويل من خدمة أهل المنطقة وعموم السوريين ممن يمكن من الوصول إليها، دون نسيان جانبها الثاني في تطويع الشباب العاطل عن العمل ضمن الميليشيات ما شكل مصدرا ماليا لهم من جهة، ورفد من جهة ثانية المليشيات التي كان يحتاجها النظام في حربه.
تحليق اﻷسواق الجنوني
لم تهدأ أسواق الساحل منذ قرابة شهرين، إلا أن بدء تنفيذ قانون قيصر، أصابها بشبه شلل واختناق. ولم يغفر للسكان فيه أن غالبية البضائع الموجودة في اﻷسواق إنتاجٌ محلّي، إذ وصل سعر كيلو البرغل المجروش إلى 1200 ل.س (نصف دولار فأكثر بسبب عدم استقرار الأسعار)، ومع زيادة إنتاج الخضروات توقع الناس انخفاضها إلا أن هذا لم يحدث، وبنفس الوقت الذي وصل فيه سعر طن اﻷعلاف إلى مليون ومئتي ألف ل.س (أكثر من ٥٠٠ دولار) دون وجوده كثيراً في السوق، واختفى السماد اﻷزوتي الضروري جداً لأشجار والخضار من الأسواق نهائياً بعد السيطرة الروسية على معمل أسمدة حمص.
في جولة سريعة على اﻷسواق تتفاوت أسعار المادة الواحدة بين محل وجاره، تقول السيدة (نوار/ مستعار) لحكاية ما انحكت، وهي موظفة في الريجي منذ عشرين عاماً: "في أول محل كان سعر صحن البيض 2300 ل.س، في الثاني 2500، والثالث باعني إياه ب 2000 ل.س، وأكيد رابح على اﻷقل 300 ل.س، لا رقابة ولا دولة ولا من يهتم، كلهن علينا، من قيصر للقيصر".
أزمات متلاحقة كانت تطلّ برأسها قبل سريان قيصر، أخذت محلها بالتدريج، إذ أن شبح أزمة خبز بدأ بالتوازي مع أزمة مماثلة المواد الغذائية أجبرت نصف محلات المدينة على اﻹغلاق، وخاصة محلات اﻷطعمة الشعبية الجاهزة بعد أن وصل سعر قرص الفلافل إلى 50 ل.س (دولار قبل اﻷزمة).
المعارضة: قيصر ليس وليد اليوم!
يدرك كثيرٌ من الناس أن سريان قيصر ليس السبب الوحيد لما يحدث من انهيار اقتصادي في البلاد، وهو ما أشار إليه (جمال/ اسم مستعار)، وهو أستاذ جامعي في جامعة تشرين محسوب على المعارضة منذ زمن طويل بقوله: "نعرف أن قانون قيصر ﻻ علاقة له بالغذاء والدواء نظرياً، لكن اﻷكيد أن له علاقة بسعر الصرف الذي قفز فوق ثلاثة آلاف ل. س للدولار الواحد، ولحقه ارتفاع أسعار الدواء بأكثر من مئة بالمئة مع اختفاء 400 صنف دوائي من السوق دون أن يدري أحد لماذا، وبالمثل، فإن أسعار الغذاء قفزت هي اﻷخرى أكثر من الضعفين، وهذا على أرض الواقع وليس تكهنات".
يضيف المعارض القديم لحكاية ما انحكت: "فرضت العجرفة اﻷميركية على العراقيين قانون النفط مقابل الغذاء عقدين كاملين لم تتأثر بهما قصور صدام حسين التي نهبها اﻷميركيون بعيد غزوهم العراق، وسقط في هذين العقدين آلاف مؤلّفة من العراقيين قتلى بسبب الجوع، ولم يسقط نظام صدام حسين، في ذلك الوقت قالت وزيرة الخارجية اﻷميركية: لقد كان اﻷمر يستحق، كل ما نخشاه أن تعاد الأسطوانة عندنا ويحدث فينا ما حدث مع العراقيين".
ليس هذا الاعتراض هو الوحيد الذي توّجه المعارضة الداخلية ضد قانون قيصر، يقول يوسف (مستعار/ 45 عاماً) من حزب الشعب سابقاً: "أقرّ قانون قيصر العام 2016 وليس اليوم، وهو موجّه ضد الروسي واﻹيراني بشكل رئيسي وينفّذ فوق المنصة السورية لا أكثر ولا أقل، وإذ يقصد منع اﻹعمار في البلاد دون الدفع إلى انتقال سياسي في سوريا، فإن هذا كله محكوم ببساطة بالتوازن الدولي واﻹقليمي وليس برغبة الشعب السوري الذي أصبح شتاتاً في بقاع الأرض كلها، وعاش أسوأ تجربة منذ عشر سنوات كان يمكن تجنبها لو كان هناك إرادة دولية حقيقية في تغيير النظام السوري، لكن ذلك لم يحدث، ولن يحدث بسبب قانون قيصر، وإن من يتوهم غير ذلك، سيقع في نفس الفخ الذي وقعت به شعوب أخرى ومعارضات أخرى".
الموالاة: كغيره سيزول!
أقام فرع حزب البعث في طرطوس وقفة تضامنية مع الدولة السورية ضد قانون قيصر وفق ما أسماها، وقد أثارت الوقفة سخرية السوريين على مواقع التواصل الاجتماعي حتى من الموالاة نفسها.
"الوقفة التضامنية هذه رفعت سعر الدولار فوق 3200 ليرة، ياهيك أفعال يابلا!"، يعلّق إبراهيم الموظف في مديرية مياه طرطوس، ويضيف ضاحكاً: "الطريقة القديمة نفسها، قام المدير بإجراء التفقد بذات نفسه، وأخبرنا أنه ممنوع الغياب، ومن يغيب يتحمل مسؤولية نفسه، وبالتالي لم يكن أمامنا إلا الحضور والدبكةّ".
إلى جانب ذلك قامت الشرطة المحلية بسحب أوراق جميع السرافيس العاملة إلى مدينة طرطوس (من بانياس وصافيتا والدريكيش) وأجبرت أصحابها على نقل موظفي تلك المدن إلى الوقفة التضامنية، ولكن رغم كل هذا، فإن عدد الحاضرين لم يتجاوز بضعة آلاف، وللمرة اﻷولى لا يتم التصوير الجوي لهذه (الحشود) حيث اكتفى اﻹعلام الرسمي بنقل الصور من الأرض.
على عكس هذه الحال، تحدث لنا أمين فرقة حزبية بعثية في منطقة بانياس قائلاً: "الولايات المتحدة فرضت عقوبات على سوريا منذ عام 1980، يعني أن ما يحدث ليس جديداً، جعنا على أيام الرئيس الراحل حافظ الأسد ﻷجل مواقفنا الوطنية والقومية، ولن نتنازل عن حقوقنا بوجه العدو الغاشم، من أعجبه هذا ليبق ومن لم يعجبه لينقلع من البلاد".
وحين نسأله عن "حقه في طرد الناس من البلاد"، يقول: "هذه بلدنا، ونحن من يقرر سياستها وليس اﻵخرين، ندرك أن الروسي يختلف عن اﻷمريكي، ولولاه لخسرنا البلد، وبفضل تعاوننا مع الروسي واﻹيراني سنتجاوز الحصار كما تجاوزنا حصار الثمانينات، أصلاً إن وضعنا الراهن أفضل من الثمانينيات فاليوم لدينا أصدقاء أقوياء مثل الصين وفنزويلا، ولن نركع مهما فعلوا بنا".
خلاصة سريعة
دون كثير تفاؤل، إن قانون قيصر وفقاً لكثيرين هنا، سوف لن ينفع في تغيير سياسات النظام السوري إلا إذا ترافق مع ضغط دولي على روسيا باتجاه الانتقال صوب حل سياسي يشارك فيه كل السوريين. بالمقابل، فإن العقوبات اﻷميركية الجديدة التي سرّعت الانهيار الاقتصادي، لم تنفع السلطة في محاولة استثمارها في إعادة إحياء مفهوم الوطنية السورية في ظل تشرذمها بين الروسي واﻹيراني والتركي واﻷميركي وغيرهم من الرعاة اﻹقليميين، وهو ما يتضح فعلاً في الضغط الممارس على الناس، الموظفين من جديد، ﻷجل حضورهم وقفات تضامنية، هي في أحد جوانبها كما يقول أحد الموظفين لحكاية ما انحكت: "باب للسرقة والفساد"!