(هذا المقال جزء من سلسلة مقالات عن التصوير السوري والمصورين السوريين. بتمويل من مؤسسة فريدريش ناومان من أجل الحرية)
كيس الخوف
امتلأت أسرّة المشفى جميعها، حتى أصبحت أرضها السرير الوحيد الباقي، عدد كبيرٌ من الجرحى الذين يصعب على الإنسان إحصاؤهم. إنها دوما، وإنه الثاني من شباط عام ٢٠١٥، وإنه يوم الإثنين، أما عن الجرحى، فهي لا تعرف الإحصاء أبدا.
خدرٌ وسط الحواس، يبعثر داخل قلبك ألف سؤالٍ يتيم الإجابة، حتى أنك لا تجد غيرَ التصوير منفسّا عن الجواب، ومهربًا من التفكير.
كنت أراقب الجرحى، فأشاهد في وجوههم، احتمالاتيَ المستقبلية كأنها مرآةٌ لما سيأتيني. سؤالٌ بسيط عما هو التالي بعدها، فيكون تاليك ماضٍ تراه، لم تجفّ دماؤه بعد.
تنهار قِوى عينيَّ، فكيف لي بحمل الكاميرا! ما أثقل الضوء عندما ينزف، وما أثقل ترف البصر الذي يصبح نقمة على العينين وحاملها!
يده أمسكت كيسَ الدم، وحضنه أمسك الرجلَ الجريح، عينيه تتناوبان البحلقة بين الكيس والجريح، ويده الأخرى تسنده، كان يعصر كيس الدم والجريح بكلتا قبضتيه.
كنت أشعر بالدم يتدفق بين المسافة المحصورة بين عيني وذاك الكيس، والجريح جسرًا بيننا، كان المسعف يعصر عينيّ فيما عصر، ثم يحضنهما فيما احتضن.
أحاول الهرب بعيني، أهرب نحَو اليمين؛ قرب باب الغرفة المفتوح، ثم تتسلّق عيناي رجلاً يحمل كيس الدم بقبضته، ثم الجريح الممدّد على حضنه بالقبضة الأخرى، ثم لطفلين آخرين، ثم أغرق باليسار المكتظ بالجرحى، لأعود نحو اليمين مرةً أخرى،لا مفرَّ من المشهد إلّا نحوه.
كُتبَ الألم على عينيَّ عدّة مرات، آناء الحدث والتصوير والفرز، والانتقاء والنشر، ثم عند سرد كل ما حدث. هكذا هو الألم، مهما قدم، فهو جديد، لا يسقط بالتقادم ولا يشفيه الزمن، فكلّ أيامنا بعد الفجيعة فجيعة. وكل هذا لا يعادل قطرة احدة من جريح، من رأى جريحًا ليس كمن يُرى جريحًا أبداً..
كان الخوف يتسرّب داخلي تسرّبَ الدم داخل ذاك الجسد، أشعر بالخوف يرقص فوق أعضائي، يعزف ارتعاشاته فوق يدي وفكي السفلي، حول قدمي اليسرى ووسط قلبي، وبين شفتي، وعلى كتفيَّ، وخلال عينيً وما مُدّ لي من البصر. كنت فقط، أرتجف.
أمسك بالكاميرا أخيرًا، أحاول إظهار الطفلين ضمن الكادر دون أن أستطيع، نصف الطفل الآخر لازال خارجًا، بقعة الدم أمامي لازالت ناقصة، أدفع بعدسة الكاميرا نحو اليمين، يرجعها الخوف نحو قبضة الرجل. كلّ صورنا ضيّقة، لا تقوى على خيانة الحدث بنقل جزئه، فأيّ غالقٍ يحتمل هذه الأضواء جميعها، وأيّ كادرٍ سوف يتسع؟
تملكت القدرة أخيرًا على كبس الزر عدة مرات. اعتقدت أنّي صوّرت الرجل، ثم أدركت أنّي كنت أصوّر خوفي، ولا شيء غير الخوف.
كوب الماء
ليست كلّ الصور تقع داخل كوادرها، بعضها يقع خارجاً ليصل القلب قبل العين، ويد الطفل مرسومةً وسط عينيَ فأراها في كل شيءٍ، تحاول التقاط الضوء أمام يديَ التي تحاول التقاط صورتها، كِلا اليدين تبحث عن ضوئها، أصبحت يده ضوءاً، وغدت يدي جرحًا!
كلٌ منا يصبح ما يبحث عنه، لازلت عند أخشاب النافذة المتكسّرة، أتذكر صديقيّ وأشتاق حديثنا وصراخنا، تسلّلنا خلسةً وقفزنا الجدران المدمرة، تناوبت أعيننا أمام منظار الكاميرا، وقهقهاتنا، ودخان سجائرنا، وحتى لفحة البرد والقشعريرة التي انتابتنا جميعا أمام حجارة ذاك الطريق الطويل الطويل...
أتذكر أني كنت مسعفًا حين جاء أحدُ صديقيَّ طلبًا لإسعاف قدمه من رصاصة القناص، فطلبت منه إسعاف عينيّ من رصاصة كاميرته، لنخرج في اليوم التالي نحو سوق المدينة.
يتكلم الجسد، وتكون يد الطفل جرحه ووجهه، يصرخ بها ويتكلم من خلالها ويطلب العون والثأر، يحاول إمساك الضوء ويبحث فيها عن أمه، فيرفعها استغاثةً، وينزلها عجزاً، فيفردها له الخذلان ثم يقبضها له الغضب، لتكون لسانه وحصانه وهويته ولغته ووطنه ووشمه الدائم وذكراه وتذكاره الذي بقي له، يتذكر فيها نفسه، فلا يَنسى ولا يُنسى.
كيف لا تتساقط الشظايا من أسفل الكادر في كل مرةٍ أطيل التحديق بكل قطعة من ذاك الشارع، وكيف لا تسيل الدماء أسفل الكادر في كل مرةٍ أطيل التحديق بكل جرحٍ وسط تلك الكف، لذا أحمل الصورة برفقٍ، حجرًا حجرًا، وجرحًا جرحا.
حجارة القصف أمست قصفًا آخرَ بكل مرةٍ أراه، وجروح الطفل تزاحمت أمام عيني فلم أعد أرَ شيئا بعدها، يصبح الحجر والجرح بعدها البيكسل الذي يؤلف الصور ويحكيها.
كنت أسمع من كَفّهِ صوتَ ضيقِ فمه، لم يسطع على غير الميم حينها، ميمٌ وراءَ ميمٍ وراء ألفِ ميم، ثم بدأت الميمَ بعدها تخرج من قبضته.
أراقب تشقّق جدران منزلي كلّ ليلة، أمعن النظر نحو السقف، قائلا: كم من شهيدٍ كان السقف آخر عهده بما رأى، وآخر الأضواء التي لمح!؟ كم شهيد كانت يده آخر الكلمات التي صرخ، وآخر الرسائل التي ترك!؟
أشتاق صديقيَّ، فقد قُتلا فيما بعد، أحدهم برصاص القناص، وآخرٌ تحت التعذيب.
ألملم نفسي، أمسك كوب الماء فأحدّق بقبضتي، أتذكر جروح الطفل التي كانت فيما مضى قبضةً ويَداً، أسأل نفسي: ماذا إن صار الألم على فمي قِفلا يمنعني الكلامَ والضحك والألم؟! هل أصرخ من كفي حينها؟! كيف أطلب فقط كوبًا صغيرا من الماء؟!
تبغٌ ودم
بعد نهاره الطويل، يجلس صديقي الطبيب بزاوية الغرفة يتأمل السجائر، وقد صارت رماداً على حواف المنفضة، فيقترب ويأخذ منها النفس العميق، علّ الرماديَّ من الروائح يُنسيّه الأحمر الدموي بين جدران حنجرته وأزقة رئتيه، وثنايا قصباته التنفسية.
كان صديقي يصرخ بكلماتٍ مصمتة، بلا أي حرف جر أو فعلٍ أو ضمير، دون أي تشبيهٍ أو بلاغة أو استعارةٍ شعرية:
بين الجموع تصدح كلمات كـ "صورة شعاعية"، "صدر"، "عالصفر"، "عالـ٩٩"، "عال٢٠٠"... تتساقط كالقذائف بين مسامع الجميع: "آمبو"، "منفسة"، "قثطرة"، "كيس دم"، "ضماد"... "شهيد"..
يصرخ صديقي "أوه سلبي"، فتسير الجملة قافزةً وكأنها قطعة جمرٍ يتلقفها فمٌ فيرميها لآخر، إلى أن تعود إليه مرّةً أخرى، فيصرخها مجددًا حتى يصفعه الصدى حين يعود إليه، بأنّ الزمرة المطلوبة غير متوفرة!
ثمّة من كان يصرخ عن ابنه، وآخرُ يصرخ عن سريرٍ فارغ، ورجلٌ صامتٌ يراقب السماء ويحوقل بالله وينتظر قدوم سيارة الإسعاف.
كنت مع رفاقي في السيارة التي انتظرها الجميع، كنا نحمل معنا سيدةً من مكان القذيفة، كانت تلبس الأسود العتم، تحمل حقيبتها بيد، وخيبتها بالأخرى، ويحوم حولها الناس، يخاطبونا بأيديهم كي نأتيهم.
أكمامها سوداءَ، كانت تلمع، تمشي برداءٍ ممزّقٍ، ليس من فعل الفقر ولا من اهتراء الزمان عليه، دون أن أعرف حينها؛ أهو الفقر أم الزمن؟!
كانت خيانة القذيفة من مزّقت أسفل ثوبها، كما مزقت ساعدها، لتلمع بقع الدم فوق أكمامها تحت الشمس..
قبل تلك الرحلة، أثناء ساعات مناوبتنا الأولى، وقبل سماعنا صوت القذيفة، كان صديقي الطبيب يبحث بين بقايا السجائر عن تبغٍ يصلح للاستعمال مرة أخرى. على مسمع موسيقى هادئة، يجلس الجميع وسط غرفة الاستراحة تلك، نسمع الأغنية بأذن، وبالأخرى نراقب الأجواء مخافة غدرها.
أشعل صديقي الطبيب سيجارته تلك وقبل السحبة الأولى، دبَّ صوت متقطع، تضخّم بشكل تدريجي، ترك الجميع سجائرهم المشتعلة على حواف المنفضة، وخرجوا للإسعاف..
نافدةٌ وقدم
كنت أركض نحو ما سمعت، قدمٌ تسبقني، وأخرى تعيدني، كانتا أثقل مما أستطيع، ترتجفان، أمهلهما بعض الوقت كي لا أقسو عليهما، وأتابع الركض.
أخرج من مدخل بيتي، لأدلف مدخل البناء الذي يليه فورًا، وأعيد التنقل بين المداخل، هكذا حتى نهاية الطريق، فأصِل الرصيف الآخر ركضًا، كان لابد لمجازفةٍ كتلك أقطع بها الطريق والخوف معًا.
كنت نائماً بقمة الخوف والتعب، سمعت صوت انفجارٍ بسيط، ثم مرت دقيقة بملامح سنة، ثم عدّة انفجاراتٍ ضخمة متتالية، لتنتفض ستارة نافذتي بغبارها داخل الغرفة.
حاولت لملمةَ نفسي، بين حافة الحلم ووادِي الحقيقة، أنتظر انقضاء الكابوس، أكذّب صراخ الجيران، كما كذّبت الصوت الهائل بعد القصف، فغريزة البقاء تدفعك للتصديق.
كان الصوت الأول للحظة رمي الصواريخ بمظلاتها، أمّا الأصوات الضخمة المتتالية، فكانت لارتطام الصواريخ بأهدافها المدنية وانفجارها بهم. أما تلك الدقيقة التي انتظرتها، كانت المدّة الفاصلة بين آن القصف والانفجار، بين المسافة من طائرة الحرب حتى هدفها المدني.
وصلت الرصيف الآخر وركضت بين أفواه المداخل واحداً واحداً حتى بلغت مكان الصواريخ لألمح سيارةً صغيرة بنافذتها التي تحمل ساقين اثنتين بعمر التسعين، لفتاة لم تبلغ العاشرة بعد، حمراءٌ حروفُ كعب قدمها، حافيةً وتنتعل الدم فقط، تنزف خرائط جرحها أسفل القدم وتدهس بها حدود البلد بكل ما فيه.
يدها ساكنةٌ أمام النافذة، وأخرىً تختبئ خلفها، ما الذي لا يجعلني مكانها، ممدود الساقين من نافذةٍ كتلك، أخطأني الصاروخ وأصابها، فأصابت قلبي الذي لم يجد حتى الآن نافذةً يتدلى منها.
ما أشبه نافذة الأمس باليوم. بعد تلك النافذة بثلاث سنوات، ومن فوق كرسي مترنحٍ يرتجف في باصات التهجير القسري، كنت أتذكر قدمّي الطفلة ونافذتها عندما تأملت الدنيا من نافذة ذاك الباص.
تختلف النوافذ إلا أنّ الجرح واحد، كم كان الكون واسعًا جدا خارج الغوطة وبعد تلك النافذة، وكم كان ضيقًا علينا، ضيقًا لم يتسع لقدمي طفلةٍ داخل سيارة إسعافها.
زحليقةٌ ومنّبه
يد الله الممدودة، للسعي نحو الوصول لآدم الذي يحتاجها ويجلس دون أي اكتراث، مدّها الله فأخذها مايكل أنجلو ورسمها، يد الله امتدت نحونا، وكنّا نيامٌ ننتظر آدمًا كي يمسكها.
أستيقظ كل يوم دون رنين المنبه، كلّ الساعات تشابهت علينا، لا رأس لسنتنا ولا نهاية، تنتهي أعوامنا كل مساء، مؤلم هذا الإحساس الزائد بالزمن.
قبل يوم واحدٍ من عاصفة ثلجية ضخمة، كنت أمشي قرب حديقة صغيرةٍ فأبصر بعض الصبية يتناوبون الصعود فوق زحليقةٍ مهترئة. أحدهم في الأعلى يمد يده نحو الأسفل ليساعد طفلًا آخر، فأمد عينيّ ويلتصق قلبي بكفه عند كل مرةً يقبض أحد كف الآخر.
أتقلب بين تمثال الحرية المنحوت على أجساد المسعفين،
وقبلة غوستاف كليمت وسط عناقٍ ذائب بين أبٍ وابنه،
وصرخة إدوارد مونش على وجه رجلٍ دوميِّ يصرخ النجدة،
ويد بيكاسو يخاطبني بها طفلٌ من فوق سرير الإسعاف!
وطفلٌ يعيد خلق آدم فوق زحليقته المهترئة..
هل أنا محاصرٌ لا يستطيع الخروج من تلك اللوحات، أم معمارّي لا تغادره تفاصيل الدم والحصار؟
أفهم أنني جسد واحد، وسط جسد واحدٍ، تتسابق عيناي لتأكل إحداهما قزحية الأخرى ويهرع رأسي لنهش رأسي من الضجر، فتتسابق قدماي ركضاً نحو فسحة أملٍ كيدِ طفلٍ ممدودةٍ لآخر.
للأيام نزفٌ لا يفارقها، يصير الأمس فيها أقرب، ويصبح الغدُ بعدها أبعدْ.
غادرت أيامنا الأسماء فصار التقويم اعوجاجًا لا يسير بخطٍ واحد، بل أشبه بالمتاهة. كنت أريد لساعة الأطفال فوق تلك الزحليقةِ أن تكون آخر ما أرى، وخانني حلزون الوقت النذل ذاك.
أيامنا بأسماء المجازر، تواريخنا أرقام الشهداء، حتى أنّ الكرة الأرضية أصبحت سطحًا يمتد على رقعة الغوطة المحاصرة من حيٍّ جوبر حتى مزارع الريحان، من شمال دوما إلى جنوب مرج السلطان، وحولها العسكر من كل حدب وصوب، وخلفهم بشرٌ يعترفون بكروية الأرض هناك.
كان الطفل يمد يده لي، علّني أستطيع الخروج من أرضي المسطحة. لم أمتلك حينها يدي؛ فأمدها لأرضي غايته، مددت كاميرتي فقط، فازددت غرقًا بهذه الأرض.
عدت أدراجي نحو البيت، أضع رأسي فوق وسادةٍ من آلاف الصور التي تمد يدها نحوي وتخاطبني، أنام فوقها وأنتظر رنين منبّه الهاتف المعقود عند الساعة السابعة صباحاً لأحد أيام ٢٠١١، أعيش عند الحد الفاصل بين صوت المنبه والمنام، ولا أفيق حتى الآن، ولا أراني أنام...