(هذا المقال جزء من سلسلة مقالات عن التصوير السوري والمصورين السوريين. بتمويل من مؤسسة فريدريش ناومان من أجل الحرية)
تقتضي علاقات النفوذ والسلطة في سوريا أن يفرض النظام "قصّةً" للبلد، علينا جميعاً كمواطنين الالتزام بها وبإعادة إنتاجها. هذه النسخة المقبولة من سوريا هي البلد القديم مهد الحضارات ذو الشعب البسيط والمضياف الذي يحب قائده ويعادي الإمبريالية ويدعم قضايا يدعمها اليسار العالمي كفلسطين، هي سوريا ذات لون واحد، تتعايش فيها الأديان وتحضن المعابد المتنوعة بعضها في لوحات الإعلانات، وذلك في تعبير مبتذل عن الوحدة والهوية الوطنية.
المكافئ البصري لهذه البلد هو قائد منقذ يحبّه الجميع، وشعب لا يخرج عن التوافق، يعيش أفراده جميعاً في إحدى المناطق الصالحة للسياحة. يحافظ النظام على هذه الصورة بالعنف المباشر وغير المباشر، عبر الأجهزة الأمنية والمؤسسات الثقافية، عبر الرقيب والمحرّر. ولعل كل من حاول تغطية مواضيع سياسية في سوريا قبل عام ٢٠١١، يدرك شبه استحالة المهمّة، لأن القاعدة الرئيسية في البلد هي: التصوير ممنوع حتّى يثبت العكس، حيث تحتكر الحكومة "قصّة" البلد بحرص شديد داخلياً وخارجياً. ولهذا لم يوجد عمل إعلامي مستقل عن السياق الحكومي. كما أنّ النشر في وسائل أجنبيّة يجعل المرء عرضة لتهمة حقيقيّة هي "الاتصال بجهات أجنبية" لا تقلّ عبثيّة عن "إضعاف الشعور القومي"، حيث تستخدم السلطة هذه التهم للتحكم بالخطاب العام كرادع لمن يجاهر بمعارضة سياسات الحكومة أو طبيعة الحكم. لكنّ تأثير هذا النفوذ لا يقف عند ما ينشر أو لا ينشر، بل يدخل عالم المصوّر وغرض التصوير، فيصبح المارّة رقباء مؤقتين لصالح الإجماع العام المفترض، ويصبح مجرماً من لم يبلّغ عن صورة مسروقة، حيث رغب السوريون وقتها أن يوثّق واقعهم بما فيه من حبّ ورداءة، لكنّهم خافوا أن يصوّروا ويتصوّروا، وخافوا أن يقولوا ويُسمعوا.
بطبيعة الحال لم يستطع مصوّر الشارع النشر في وسائل الإعلام السورية ليروي قضايا الشعب أو أن يمثّل هويّةً سوريةً بعيداً عن دعاية النظام السياسية. مصورو الوكالة السورية الوحيدة للأنباء (سانا) نفّذوا ما تطلبه وظائفهم في ”الدولة"، أي الحفاظ على الهوية البصرية السائدة، صورة النظام عن البلد. أمّا الآخرون، فإمّا هاجروا أو التزموا بعدم النشر، وبقيت معظم الصور أسيرة الأرشيف أو شاركت في معارض فنيّة ذات طابع جماليّ بحت. عُومل التصوير كأحد الفنون البصرية بتجاهل إحدى أهم وظائفه، توثيق الواقع، خاصّةً توثيق واقع الفئات التي لا تملك صوتاً أو تمثيلاً إعلامياً. حتّى الأعمال ذات البعد السياسي يمكن تفريغها من محتواها وتقديمها في غاليري يرتاده أغنياء المدن كفنّ جماليّ بحت يظهر براعة المصوّر أو جمال المادّة. يمتد التهميش إلى الصورة ليصبح الفقير عنصراً من عناصرها، لا صوت له، لا كياناً معقداً ذا وجه وشخصيّة.
على عكس السائد في مهنة التصوير عالمياً، لم يعتد السوريون وجود "المصوّر المتجوّل" أو "مصوّر الشارع" كجزء من الحياة اليوميّة. فمنذ ظهور الفوتوغراف، كان الفنّ الأصلح تقنيّاً لتوثيق الواقع بشكل مباشر. يمكن تعلّم مبادئه التقنيّة بسرعة وتطوير مهاراته بالممارسة. وما إن أصبحت الكاميرا محمولة، حتى استخدمها المصوّرون لتوثيق الواقع وتعزيز اتصال البشر بعضهم ببعض. مع بداية القرن العشرين ظهر "مصوّر الشارع"، المصوّر الموثّق لليوميّات وأسلوب الحياة والأحداث التي يمرّ بها مجتمع ما. ليس هدفه الرئيسيّ نشر الصور في الصحافة لرواية خبر، بل توثيق الواقع ذاتياً وجماعياً. ورغم عفويّة ما يصوّر، فإن هذه المهنة ازدهرت في المجتمعات القادرة على حماية حريّة التعبير، وتطورت في البيئة التي تحتضن الخلاف السياسي وانتشرت في وسائل إعلام تقيّم بمصداقيتها وإمكانية وصولها إلى الأخبار. ورغم أنّ المصوّر استفاد ماديّاً من دورة الإعلام القصيرة كالجريدة اليوميّة التي تحتاج صوراً كلّ يوم، عانت المهنة من النظام الاستهلاكي كالعديد من المهن الأخرى، إذ إنّ الطلب يتحكم بالمنتج الفنّي، والمطلوب هو الأكثر إبهاراً وغرابة. وبعد عقود من احتضان المجلّة والناشر والغاليري ومقتني الفنّ والصور الوثائقية، أتى الهاتف الذكيّ والأنترنت أو "ديمقراطيّة الصورة"، وأصبح بمقدور أيّ إنسان التقاط صورة ونشرها والوصول إلى جمهور عريض دون تحرير أو رقابة. ظهر جيل مسلّح بهاتف ذي كاميرا متصل بوسائل التواصل الاجتماعيّ. إنّه الجنديّ الخارق في معركة الصورة التقليدية التي تمرّ عبر الصحافة.
نسمع دائماً أنّنا نحمّل يوميّاً على شبكة الإنترنت ما يعادل جميع الصور الملتقطة في القرن العشرين. من سيحرّر هذه الصور؟ من سيتأكّد من مصداقيتها؟ ثمّ من سيتحكم بمشاهداتها؟ الإجابة واحدة، لا أحد، بل الجميع. لم يتجّهز البشر لزمن مشاع الصورة، بل وكما نفعل دائماً، طرحت التقنية أولاً ثمّ بدأنا اكتشاف مشكلاتها بالتجريب. ولعلّ أكبر مشكلاتها هي غياب المحرّر، وحضور اللوغاريتم. غاب من يحدّد قيمة الصورة على أساس فنّي أو خبري أو حتّى سياسي ليعوّضه الأساس التجاري البحت المبنيّ على عدد المشاهدات والتّفاعلات. "اقتصاد الانتباه" يدفع دائماً وسيدفع دائماً نحو الإبهار، لأنّ الإبهار هو العاطفة المثالية لتوليد الأرباح، لأنّها تشجّع الاستهلاك السريع، والجهوزية لاستهلاك المزيد. إن أرادت منّا الإنترنت أن ننشر صور قطط، فسنفعل هذا بالضبط!
من هنا، فإن الثورة/ الحرب هي شكل "السوق" الذي دخله المصورون السوريون ببراءةِ متظاهري ٢٠١١. انصبّ الاهتمام الإعلامي على دولة اشتهرت بالتعتيم. لتدخل الكاميرا في قاموس السوريين كأول سلاح في المعركة، فأصبح التصوير ممارسة ضروريّة في زمن الثورة، وبدل الريبة من المصوّر أصبح سماع دعاء "الله يحميك" معتاداً في المناطق الثائرة.
في البلد بدا أنّ الكاميرا قد تكسر الحواجز الطبقية والمناطقية، بدا أنّ السوريين يخلقون هويّة جديدة، طارئة، لكنّها شديدة التأثير. صورة السوري الثائر بعد ٤٠ عاماً من الصمت. لديه العديد من الصفات العظيمة كإنسان مقهور يثور في وجه السلطة، لكنّه بلا وجه أو اسم. لم يكن آمناً أن يظهر أيّ وجه في أي صورة أو فيديو. ولم يساعد في هذا فقدان النظام السيطرة على مناطق واسعة من الدولة، لأن المصوّرين خاصّة، والإعلاميين عامّة، استهدفتهم جميع الأطراف المشاركة في الحرب. فتحوّلت العلنيّة إلى فخٍّ قد يكلّف المرء حياته. أصبح اضطهاد الإعلاميين جزءاً متوقعاً من الصراع السوري، سواء عبر العنف المباشر بالاغتيال والاعتقال أم عبر الرقابة الشديدة على مخرجات المؤسسات الإعلاميّة "المستقلّة" أو "البديلة".
بعد العام الأوّل، ومع انتشار العنف المضاد وتراجع النشاط السياسي السلمي، تطوّرت الدعاية السياسيّة في سوريا وتراجع النشاط الإعلاميّ الحرّ، وأصبح الشباب الناشطون في المظاهرات مصوري كتائب أو وكالات. وللمرّة الأولى أصبح التفرّغ لمهنة التصوير الصحفي خياراً حقيقيّاً، فصورة الحرب السوريّة مرغوبة بسبب دائرة التغطية. لكنّها لم تكن صورة سوريا، بل صورة الحرب السوريّة، صور العسكر والدمار والإرهاب واللجوء والتشرّد، ولم يخرج الإنسان السوري من السياق السياسي إلّا في ما ندر. أصبح للمصوّر السوريّ خياران يعرفهما أيّ مصوّر في أيّ مكان من العالم، إمّا أن نستخدم الكاميرا للتوثيق والتعبير عن المجتمع أو أن نستخدمها كسلاح في حرب إعلاميّة. إمّا أن ندير الكاميرا باتجاه ما يهمّنا ونراه ضرورياً أو أن نصوّر ما يطلبه المحرّر القاطن في بيروت أو نيويورك أو موسكو أو اسطنبول. ولأنّ الإبهار مربح، والمبهر هو صورة الحرب، ولأنّ الشجاعة أبرز سمات مصوّري سوريا، استشهد العديد من المصوّرين بشكل غير مسبوق وفي ظروف يمكن تجنّبها عبر التدريب والتخطيط.
لم ترحم الحرب ولا الوكالات العالميّة المصوّر المحلّي، كما أنّ صناعة الإعلام أثبتت وجود خللٍ جذريّ في نموذجها الحاليّ. فهي مبنيّة على التوتّر القائم بين الرغبة والحاجة في قول الحقيقة وتوثيق الواقع وبين الربح الماديّ، واختارت أغلب الوسائل الكبرى الانسياق إلى معركة الانتباه والسبق الصحفي على حساب المعلومة، ودفع ثمن إنتاج هذه المواد التي نستهلكها على شاشاتنا العديد من الشباب المتحمّسين لرسالتهم وقضيّتهم. حيث لم يحز المصوّر الصحفيّ السوريّ كعامل على أبسط حقوق المصوّر الأوروبيّ أو الأمريكي، بدءاً من الحماية الجسدية بالدرع والخوذة وإشارة "صحفي" الشهيرة، مروراً بالتدريب على العمل في مناطق النزاع وانتهاءاً بشروط التوظيف الشريف، كالراتب والتأمين الصحّي والمعدّات. اشتغل أغلب المصورين السوريين كمتعاقدين مياومين يبيعون بالقطعة ويتحملون مسؤولية أمنهم وأمانهم وتنقلاتهم ومعداتهم وطعامهم، وفي الوقت ذاته باعوا الصور إلى الوكالات التي تبيعها بهوامش غير عادلة إلى وسائل الإعلام، فلا يتحكم المصوّر باستخدام الصورة أو نشرها. أي أنّ المؤلّف المسؤول عن إنتاج الصورة يتنازل عن محتوى الصورة وسياقها ومكان استخدامها. وهو في العرف الصحفي تنازل عن حقوق المؤلّف كاملة بشروط عمل استغلالية استعمارية لا تقترب من العدل.
ليس القصد هنا أنّ المصوّر السوريّ بريء من الحرب الإعلامية، على العكس تماماً، تفنّن السوريون بالكذب على وسائل الإعلام أو على الأقل باستخدام الإعلام كسلاح في المعركة حتّى أصبح لوسائل إعلام أوروبيّة وأمريكية أو حتّى روسيّة مصداقيّة تتجاوز جميع الإصدارات المحليّة. غيّرت الحرب في سوريا كيفيّة تغطية الحروب بشكل عامّ وكشفت تعقيد العلاقة بين الإعلام والمجتمع في عصرنا. وليس القصد أنّ هناك سوريا في الواقع ليست بالسوء الذي تظهر به في الإعلام، بل على العكس، فالدمار الهائل الممتدّ على مساحة سوريا والمعاناة اليوميّة لسكّانها هي أهمّ أجزاء تلك "القصّة"، وبرغم فداحة ما جرى ويجري، من زاوية توثيقيّة تأريخيّة، فإن السؤال الأكبر في قضيّة رواية القصّة السوريّة وتمثيل من يعيشونها بها هو: "من الراوي؟" من يتخذ منبراً ويسرد قصّة المجموعة؟ من هم أبطالها؟ وما هي أهمّ أحداثها؟ ما هي أسبابها؟ كيف نفهم ما جرى من منظورنا المحلّي؟ خسرنا الكثير كأفراد وكشعب، لكنّنا لم نخسر قصّتنا بعد. ربما يكون لهذا التناقض جانب إيجابيّ، فضياع القصّة على جبهات الحرب الإعلامية أبرز الحاجة لها. ربّما يمكن لنا أن نروي قصّتنا ونربح وجوهنا. لسنا فقط مقاتلين ومدنيين، إسلاميين وآخرين، مؤيدين ومعارضين... جميع هذه التصنيفات التي تلغي الفردانيّة والقرار الشخصيّ تزول بتغيّر الروايات الإعلاميّة، ربما يكون الوقت حليفنا في امتلاك المفردات المناسبة والبيئة المناسبة لرواية القصّة.
حتّى الآن، يحصل السوريّ على الحق في الظهور كفرد عندما يُقتل (يستشهد)، أو يُعتقل دون خبر (الاختفاء القسري)، أو عندما ينفى مع أهله. على الفرد السوري أن يحارب ويخسر شيئاً عزيزاً كي يكسب وجهه واسمه ويمثّل نفسه، ربما كانت هذه الفردانية العظيمة المكتسبة بالنضال أكبر المكافآت. لكنّها كانت تميّزاً لا يُحسد أحدٌ عليه. وحتّى إن حصّلها المرء بأمان، فهو سيكون في وضعية المجيب على أسئلة الآخرين وتنميطهم. ولأنّ وسائل الإعلام لا تروي قصّتنا، بلّ تشاهد قصّتنا من زاويتها وترويها في سياق الوسيلة السياسيّ والتجاري. ولأنّك "ستخسر" كل شيء قبل أن تتمكن من تملّك ذاتك، ربّما حان الوقت لنمتلك ذواتنا، فهي كلّ ما بقي لنا بعد عشر عجاف.