(تم دعم هذا التقرير من خلال برنامج من خلال برنامج Check Global COVID-19 microgrants وبدعم من موقع ميدان)
"الأرقام الواردة في هذا التحقيق تغطي حتى منتصف اكتوبر"
بعد نشر سلسلة من التحقيقات التفصيلية (الساحل السوري، الشمال الغربي، شمال شرق، دمشق) والمواد والحكايات والشهادات والدراسات والحوارات) عن واقع فيروس كوفيد ١٩ في مختلف المناطق السورية، نخلص هنا إلى تقرير توصيفي عام للوضع حتى الآن.
سؤال صامت!
في شهر أيار الماضي، كان هناك سؤال صامت في عيون الكثير من السوريين المشككين دوما بالأرقام الرسمية، يهمسون به أحيانا للمقربين "أين هي حالات الإصابة بكورونا"؟
إجراءات الحظر بدأت في مناطق سيطرة النظام في الشهر الثالث، بعد انتشار شائعات، ومن ثم تأكيدها، بأن الوباء دخل البلاد مع المقاتلين القادمين من إيران. بدت الإجراءات مهلهلة، يخترقها فساد النظام المحوري لتركيبته المافيوية، فالاستثناءات الأمنية من منع التجوال المسائي تملأ الطرقات، دور العزاء لدى المتنفذين حيث لا تتجرّأ قوات الشرطة على منعها، والحواجز الطرقية التي تراقب عدم تنقّل المدنيين بين المدن، يمكن شراءها بسعر شطيرة شاورما، ناهيك عن تنقّل المجندين بطول البلاد وعرضها.
تخبرنا الدكتورة خلود سابا الباحثة في الصحة العامة في جامعة ادنبرا باسكوتلندا، في حديث خاص لحكاية ما انحكت، أن التعاطي الأمني مع الأوبئة هو "أسوأ تعاطي لأنه يؤدي للإخفاء والكذب وضياع المعلومة" وأضافت أنه في سوريا "لا يوجد نظام لجمع معلومات ومشاركتها، وهو أساسي في محاربة الفيروس لمعرفة البؤر وخريطة انتشارها. الإرشادات الأساسية لمجابهة الأوبئة تعتمد خطوات التعرف عليها وفحصها وتتبعها واحتواءها، بينما الدولة عنا لا تجيد سوى الإنكار".
إجراءات الحجر القسري للأفراد بعيدا عن ذويهم ومنازلهم التي اتبعت في بدايات الربيع، وطلب السلطات من الناس التبليغ عن أي أحد يشتبه بظهور الأعراض عليه، أدى لوصم المرضى وخوفهم من الإعلان عن حالتهم، ما زاد صعوبة معرفة انتشار الوباء. برأي الدكتورة سابا، لم يكن هناك اختلاف كبير بين المناطق السورية، ولا حتى بين دول المشرق بالمجمل بذلك. لكن ما يميز الحالة السورية برأيها هو "النقاط العمياء" في البيانات، وهي تلك المتعلقة بتحركات الأفراد والقطع العسكرية بين مختلف المدن وحتى عدة دول أخرى دون أي رقابة طبية.
مع ذلك، يبدو أن إيقاف المدارس والجامعات والحد الكبير من عمل الأسواق والمطاعم والمنع القانوني للحركة بين المدن، أتت في وقت مبكر بما يكفي ليحمي سكان تلك المناطق من الانتشار الواسع للوباء، رغم كثرة الخروقات.
كانت الأرقام الرسمية متواضعة جدا بالطبع، ولكن لم يكن هناك انتشار ملموس للوباء بين الناس يجبر أحدا على تكذيبها.
مناطق "الإدارة الذاتية"
مناطق سيطرة الإدارة الذاتية في الشمال الشرقي لم تأمن من استهتار العقلية العسكرية بالصحة العامة، حيث رفض النظام التنسيق مع مؤسسات الإدارة الصحية، وبقي المسافرون يدخلون مدينة القامشلي قادمين من مطار دمشق دون حجر، فضلا عن القوات الأميركية والروسية في الجزيرة السورية، والتي لا رقيب على تحركاتها وانتشار الإصابات بين أفرادها. حتى وصل الأمر إلى أن مكتب منظمة الصحة العالمية في دمشق لم يكلّف نفسه عناء إخطار الإدارة بتأكيد أحد الإصابات بالوباء بعد ظهور نتيجة فحص المسحة الذي أجري في دمشق. بعد ذلك الحدث أصدرت الادارة بيانا حمّلت فيه المنظمة مسؤولية انتشار الوباء في مناطقها. بالمقابل، يبدو أن الإدارة تمكنت من إقناع السكان بالإلتزام ببقية إجراءات الوقاية العامة لدرجة لا بأس بها، فبقي الانتشار بحدوده الدنيا في المنطقة ذات البنى التحتية الصحية الأضعف في سوريا. فرغم أن استهداف تدمير البنى التحتية الطبية بالقصف الجوي للنظام وحلفاؤه كان أقوى على مناطق سيطرة المعارضة في الشمال الغربي، إلا أن الخدمات الطبية الحكومية من مشافي ومستوصفات ومعاهد تعليم عالي وجامعي طبي لم تكن يوما كافية في الشمال الشرقي الذي عانى إهمالا ممنهجا من الحكومات البعثية المتتابعة، حيث أن الأرقام المتوفرة ترجح وجود ٥٦ مشفى بسعة ١٠٧٠ سرير وحوالي ٣ آلاف طبيب/ة في المنطقة التي يقطنها حوالي ٤ مليون نسمة.
إدلب وجوارها
في الشمال الغربي أغلقت المعابر مع مناطق سيطرة النظام، بوصفها مصدر الوباء، وبقيت الحركة التجارية المخفّضة جارية عبر الحدود التركية. الخوف تملّك القطاع الطبي والمنظمات المدنية العاملة في المنطقة نتيجة معرفتهم بقلّة عدد المراكز الصحية التي نجت من الاستهداف الروسي المتتابع خلال السنين الخمس الأخيرة، الأمر الذي خلّف أضرارا في ٧٠ مركز صحي في العام الماضي لوحده. الحديث عن "نخبوية" نصائح التباعد الإجتماعي والتنظيف التي أصدرتها منظمة الصحة العالمية كان على كل لسان في المنطقة التي تضم حوالي مليون نازح موزعين في ظروف سكنية مؤقتة وغير صحية، ومخيمات عشوائية أو لا تحقق الحد الأدنى من معايير الماء والإصحاح (الصحة) حيث كثيرا ما يصل الاكتظاظ في الخيمة الواحدة فيها إلى ١٥ شخص.
مع ذلك، بقيت المنطقة شبه خالية من الوباء لعدّة شهور خلال فصل الربيع، في ظل حجر عام ومنع تنقل بين المدن والبلدات وإيقاف للعملية التعليمية. أما عن التنسيق الطبي مع مناطق النظام، فأخبرنا مدير أحد مشافي إدلب (تحفّظ عن ذكر اسمه) أنهم قد لمسوا تعاونا أكبر من السابق من بعض الموظفين الصحيين العاملين في مناطق النظام بمبادرات فردية وبغض النظر عن التعليمات حسب رأيه، إذ يقول لحكاية ما انحكت "من الواضح أنهم يحسون أن الموضوع جدي هذه المرة" بعد أن مروا بتجارب سابقة في التنسيق المعرقل أمنيا وسياسيا بينهم مثل حملة التلقيح ضد شلل الأطفال في ٢٠١٤".
الحكومة السورية.. رفع الحظر
مع حلول حزيران قرّرت حكومة النظام السوري إنهاء الحظر دفعة واحدة وإعادة الحياة لطبيعتها السابقة دون أي إجراءات وقائية تذكر، ماعدا ارتداء المراجعين الكمامات في مؤسسات الدولة وقياس درجة حرارة طلاب الجامعات عند دخولهم الحرم الجامعي، والتي يمكن تجاوزها بالفساد والرشوة كما أشار تقريرنا من دمشق.
وبحلول شهر تموز وصل انتشار الوباء في دمشق إلى كل حارة فيها. انتهت التساؤلات الصامتة السابقة واستعد الناس لمواجهة الوباء بالطريقة التي واجهوا فيها كل انهيارات البنى التحتية السابقة: "الدوبارة" السورية.
الجاهزية الصحية: صفر!
كان واضحا من أعداد المنافس وأسرة الحجر الصحي و العناية المركزة، أنّ البلاد لا جاهزية طبية لديها لتقديم الخدمات للمصابين. فالعاصمة التي تتمتع بأقوى بنية تحتية خدمية لا يزيد عدد مشافي الدولة فيها عن ١٥، متضمنة مشافي متخصّصة مثل مشفى العيون والأمراض العقلية، لتخدم حوالي ٦ ملايين نسمة. وبقي واضحا من استمرارية منظومة الفساد البيروقراطي في إجراءات الاستجابة الرسمية أن شيئا لن يتحسّن، خاصة مع تكرار تداول التساؤلات من العاملين بالقطاع الطبي حول مصير المساعدات الطبية التي استلمتها حكومة النظام من حلفائها الاستراتيجيين ومن منظمة الصحة العالمية، وهم يعملون في ظروف خطرة لا تتوافر فيها غالبا أدنى أدوات الحماية، حتى وصل عدد الوفيات المعلن عنها بين الأطباء فقط، نتيجة تعاملهم مع الفيروس، إلى أكثر من ستين طبيبا.
كان واضحا من أعداد المنافس وأسرة الحجر الصحي و العناية المركزة، أنّ البلاد لا جاهزية طبية لديها لتقديم الخدمات للمصابين
تسليع حاجات الناس الملحة وتحويلها إلى مصدر دخل فاسد لدى العاملين في تنظيم الخدمات وإدارة الاستجابة، كان أسلوب تعامل النظام (كالعادة) ومؤسساته مع الجائحة، سواء من حيث احتكار الأدوات والفحوصات وتراخيص بيعها، أو فرض فحص إجباري على المسافرين مقابل ما يعادل مرتب ٤ شهور لخريجي الجامعات، أو عدم استقبال المرضى المحتاجين لمنافس في المشافي الحكومية دون دفع رشاوي باهظة. فظهر أنه من أصل حوالي ١١٠ منافس في مدينة دمشق، لا يوجد أكثر من ربعها في المشافي الحكومية، ولا نية حتى لرفع العدد وإن توفرت الميزانية لذلك، حيث صرح مدير مشفى ابن النفيس الحكومي لجريدة الثورة الحكومية أن المنافس ليست من أولويات المشافي ويفضل الاستثمار بشراء معدات أخرى.
بالمقابل ترى الدكتورة خلود أن "التركيز على أعداد أسرّة العناية والمنافس ليس هو المشكلة. الأرقام دون سياقها لا تفيد، وربما تستعمل لإعطاء مصداقية دعائية لهذه الجهة أو تلك. بوجود وباء من اللازم أن يكون هناك نظام عام للجميع، للحالات الحرجة ولغيرها. الأوبئة لا تواجه بشكل فردي وإنما جماعي. الدولة الفاشلة “failed state" لا يمكنها أن توفر حماية اجتماعية لأي أحد". وتضيف أن من المفارقات السورية أنّ شدة إهمال وعزل بعض المناطق، خاصة الريفية، جعلها أوفر حظا في الحماية من وصول العدوى، من المدن المكتظة دون خدمات أو معلومات صحية كافية، وهو ما ظهر جليا في تحمّل العاصمة النسبة الأعلى من الإصابات.
انهيارات اقتصادية فتراجع وكورنا!
تزامن الأمر مع انهيارات اقتصادية متتابعة: الاستعصاء المصرفي والحكومي الحاصل في لبنان وانهيار الليرة الشقيقة هناك، الفضائح المالية المنشورة على العلن في فيديوهات ابن خالة بشار الأسد، رامي مخلوف، وخلافاته الاحتكارية مع زوجته أسماء، عقوبات قيصر، فضلا عن الآثار المتراكمة لسنين الحرب، أدوا مجتمعين لوقوع أحد أسرع التدهورات التي شهدتها الليرة السورية منذ عام ٢٠١١، رغم الهدوء العام للجبهات العسكرية.
انعكس الأمر فورا على القطاعات الطبية، فأدى لإضراب شبه عام للصيدليات نتيجة امتناع معامل الأدوية عن الشراء بسعر الصرف الرسمي الذي أرادت الحكومة إلزامها فيه في تعاملاتها التجارية الخارجية، ومطالبتها بالسماح برفع أسعار الأدوية بما يتناسب مع ارتفاع تكلفة إنتاجها بالنسبة لليرة السورية (فرق سعر الصرف كان حينها بين ٤٣٥ و ٣٦٠٠ ليرة للدولار الواحد). في النهاية حصلت المعامل على أذن برفع أسعار بعض الأدوية: الباراسيتامول مثلا ارتفع من ٥٠ إلى ٨٥٠ ليرة سورية (الخمسين ليرة اليوم تعادل 0,02 دولار بينما ال ٨٥٠ تعادل 0,37 دولار). رواتب الموظفين لم ترتفع بالمقابل طبعا، فوصل مرتب الموظفين الأعلى تأهيلا، كالمهندسين والأطباء ودكاترة الجامعات، إلى حوالي ٣٠ دولارا شهريا، بعد أن كان يصل إلى حوالي ٦٠٠ دولار قبل عقد من الزمن.
زاد إغلاق الحدود خلال الحجر الأمر سوءا، لاعتماد كثير من السوريين على إرسال النقد مباشرة (كاش) مع المسافرين، لعدم ثقتهم بشركات التحويل والصرافة وكبر الفارق بين سعر الصرف الرسمي الذي تلزمهم الدولة بالتعامل به، والسعر الفعلي بالسوق خارج سوريا
لا يجد المراقبون الاقتصاديون سبيلا لإحصاء وعزل أضرار الوباء المالية عن الأضرار الناتجة عن بقية المصاعب الاقتصادية التي أصابت البلاد منذ مطلع العام. فأثر إغلاق المنشأت الاقتصادية خلال فترة الحجر مثلا، لا يوجد حتى الآن أكثر من تكهنات حوله، حيث يرجح أن الاضرار بلغت بليون دولار في الشهر. عن ذلك أخبرنا الدكتور في التنمية والعلوم السياسية بجامعتي لوزان والمعهد الجامعي الاوروبي في فلورنسا ،جوزيف ضاهر، أن الكوفيد عمق مشاكل اقتصادية سابقة لكنه لم يخلق شيئا جديدا، فعدم استقرار سعر الليرة مثلا مشكلة بدأت مع الثورة والتدهور القوي الاخير بدأ فعليا منذ نهاية العام الفائت حين كان الدولار يعادل أقل من ٦٠٠ ليرة ليصل إلى ١٢٠٠ في الشهر الاول من العام. ويقول متابعا أن "الحوالات تحديدا أثر عليها الكوفيد بوضوح، لأنها تأثرت بالاقتصاد العالمي المتدهور وليس فقط ضعف الأداء الاقتصادي المحلي، ولن نرى في المستقبل القريب تعافي سريع للاقتصاد العالمي" مشيرا إلى أن "آخر التقديرات التي صدرت عن صندوق النقد الدولي IMF (في العام ٢٠١٦) كانت تقدر حجم الحوالات السنوية بحوالي ملياري دولار (٤ مليون يوميا)، ما يمثل حوالي ١٠٪ من الناتج المحلي الإجمالي GDP. الآن سمعنا بعض التخمينات على لسان أحد دكاترة كلية الاقتصاد بدمشق بأنها قد نزلت إلى النصف، دون أن نعرف كيف توصل إلى حساب هذا الرقم".
زاد إغلاق الحدود خلال الحجر الأمر سوءا، لاعتماد كثير من السوريين على إرسال النقد مباشرة (كاش) مع المسافرين، لعدم ثقتهم بشركات التحويل والصرافة وكبر الفارق بين سعر الصرف الرسمي الذي تلزمهم الدولة بالتعامل به، والسعر الفعلي بالسوق خارج سوريا.
المجتمع المدني.. أي دور؟
اشتغل المجتمع المدني بنظام الدوبارة كعادته، ظهرت فورا مجموعات على الفيسبوك لتداول الأدوية، كي لا يتم رمي دواء صالح لم يعد مالكه بحاجته بينما يحتاجه مريض آخر لا يجده في الصيدليات، و انخرطت الجمعيات الخيرية والفرق التطوعية الناشئة بمبادرات فردية في مهمة توفير إسطوانات الأكسجين إلى منازل المرضى، كي لا يحتاجوا لمغادرة منازلهم.
"الناس صايرة بتتصل ب"عقمها" بدل الإسعاف" تقول لحكاية ما انحكت المسعفة السابقة سوزان (اسم مستعار) واصفة يأس الناس من الخدمات الطبية الرسمية واعتمادهم مبادرات المجتمع المدني كبديل أكثر فعالية: "بيبعتولهن الأوكسجين عالبيت وغالبا ببلاش، وبيلبوا بسرعة إجمالا، بس إن كمان الطلب أكيد فوق قدرتهن عالاستيعاب، شو بدهن يلحقوا ليلحقوا".
"نتعالج بالبيت أشرفلنا" كان عنوان الساعة في أوج ذروة الانتشار خلال شهري تموز وآب الماضيين، خاصة بعد الاعتراف الرسمي بعدد كبير من الوفيات بين العاملين في القطاع الصحي جرّاء تعاطيهم مع المصابين، وعدم الاعتراف بالبقية، حتى وصل الأمر لمطالبة الأطباء علنا عبر مواقع التواصل الاجتماعي بإغلاق مشفى المواساة الحكومي وتعقيمه، بعد أن أصبح بؤرة انتشار يتجنبها الأصحاء قبل المرضى.
قالت هالة م. (اسم مستعار) لحكاية ما انحكت، وهي مدرسة في مدرسة ثانوية في دمشق عن إصابتها وابنتها الجامعية بالكورونا في شهر تموز قائلة: "من البيت للعيادة للصيدلية للبيت، معنا كماماتنا وأدويتنا، لا فتنا مشافي ولا قربنا عليهن، ضلينا بالبيت ٣ أسابيع وخالصين، هي هي".
في بقية المناطق ساعد تأجيل الذروة على تحسين البنى التحتية ورفع الجاهزية بعض الشيء، وإن بقيت دون الحاجة بمراحل. وصلت أجهزة الفحص إلى الشمال الشرقي قادمة من كردستان العراق قبل أن تصل تلك التي كانت منظمة الصحة العالمية قد وعدت الإدارة الذاتية بها.
تسليع حاجات الناس الملحة وتحويلها إلى مصدر دخل فاسد لدى العاملين في تنظيم الخدمات وإدارة الاستجابة، كان أسلوب تعامل النظام (كالعادة) ومؤسساته مع الجائحة، سواء من حيث احتكار الأدوات والفحوصات وتراخيص بيعها، أو فرض فحص إجباري على المسافرين مقابل ما يعادل مرتب ٤ شهور لخريجي الجامعات، أو عدم استقبال المرضى المحتاجين لمنافس في المشافي الحكومية دون دفع رشاوي باهظة
وتمكنت المنظمات الصحية من تطبيق بعض إجراءات التعقيم والتوعية، وتمكن السوق من تأمين الطلب على الكمامات ومواد التعقيم بعد أن كانت قد بلغت أسعارا خيالية في بداية الحجر. تم تأهيل مراكز عزل صحي وتوسيع في المشافي واستيراد المزيد من المنافس، حتى زاد عدد المنافس المتوفرة في مراكز العلاج المجاني في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام على عددها في المشافي الحكومية في مناطق سيطرته. حيث يقدر عدد المنافس في الجزيرة ما يربو عن ٦٢ منفسة وفي الشمال الغربي يقارب المئة، بينما تقبع غالبية منافس مناطق النظام في المشافي الخاصة ذات الأسعار الخيالية وفق أسعار الصرف الجديدة. كما أن انتشار الوباء في المناطق الشمالية بقي أقل بكثير مما وصلت إليه الذروة في العاصمتان والساحل، حتى إن ضاعفنا الأرقام الصادرة عن الجهات الرسمية في تلك المناطق عشر مرات.
الإشاعات والمعلومات الطبية المغلوطة التي انتشرت في الربيع تم تفنيد الكثير منها عبر حملات التوعية، وأيضا نتيجة تصريحات الهيئات الصحية الدولية التي تكشف ما لديها تباعا من معلومات أوضح حول طبيعة الفيروس. التأخير وفر وقتا لتداول الناس لهذه المعلومات وإن بقيت بعض الشائعات تلقى رواجا، كتلك المتعلقة بتقديم الإجراءات الوقائية المنزلية (المتوفرة لدى معظم الناس) بوصفها إجراءات علاجية، يغذيها الحاجة الملحة لدى الكثيرين لتصديقها.
خطوة فعالة ولكن!
يوضح الفرق الهائل في انتشار الإصابات بين مناطق النظام والمناطق الأخرى، والذي تجلى بصورة فاضحة في تعليق أعمال اللجنة الدستورية السورية في جنيف بعد اكتشاف ٤ إصابات بفيروس كورونا بين المشاركين، جميعهم قدموا من دمشق.
إن إغلاق المعابر مع مناطق سيطرة النظام كان خطوة فعالة. لكن أول إصابة أعلنت في الشمال الغربي دخلت من تركيا، تبعها حالتان لسيدتان دخلتا تهريبا إلى إدلب من دمشق، ما دفع بالسلطات المحلية لفرض حظر قصير على كامل القرية.
تتفاوت الثقة بالإجراءات الرسمية والقطاع الصحي بين هذه المناطق. ففي حين يغلب اليقين بفساد تلك المؤسسات في مناطق النظام، تتراوح التوجهات في مناطق الإدارة الذاتية ومحيط إدلب بين مشكك بقدرات القطاع الصحي المنهك بالاستهداف الممنهج عبر سنين، ومشكك بدقة تطبيق الإجراءات الوقائية، خاصة في أوساط تخشى الفاقة والبطالة أكثر مما تخشى الوباء. ومع الأخذ بعين الاعتبار أن الشريحة السكانية الأكثر وصولا لوسائل الاتصال (وهي في مناطق سيطرة النظام) تعبّر عن شكوكها وأخبارها بتداول أوسع على الغالب، مع ذلك، تبقى الإحصائيات الرسمية الهزلية للنظام حول أعداد الإصابات والوفيات موقع تندر لا مثيل له في المناطق الخارجة عن سيطرته، حيث لدى السكان في هذه المناطق ثقة أكبر بمدى شفافية الإحصائيات المعلنة من قبل السلطات المحلية.
"الأمر المشترك بين كل المناطق كان أن الناس لم تتوّجه للقطاع الطبي حين بدأت المشكلة" تشرح الدكتورة خلود، وتتابع قائلة: "الكل يعلم أنه قطاع إن توفرت خدماته فقدرته على حصر المشكلة شبه معدومة".
تتفاوت الثقة بالإجراءات الرسمية والقطاع الصحي بين هذه المناطق. ففي حين يغلب اليقين بفساد تلك المؤسسات في مناطق النظام، تتراوح التوجهات في مناطق الإدارة الذاتية ومحيط إدلب بين مشكك بقدرات القطاع الصحي المنهك بالاستهداف الممنهج عبر سنين، ومشكك بدقة تطبيق الإجراءات الوقائية، خاصة في أوساط تخشى الفاقة والبطالة أكثر مما تخشى الوباء
تكمل سابا بالمقارنة "الاتفاق الوحيد كان على ضرورة عزل المرضى، حتى دون نظام دعمهم الاجتماعي"، وهو أمر تراه سلبيا ومكلفا "لولا التعاضد الاجتماعي والعناية المنزلية بالعائلة كانت نسب الوفيات أعلى بكثير. مريض الكوفيد بحاجة عناية كبيرة تستهلك موارد طبية كبيرة في المشافي. هذا العمل قامت به نساء سوريات، منها من أصيبت ودفعت الثمن صحيا ومنها شابات أجسامهن قوية قاومت. الحد الأدنى هو توفير معلومات لهم، لعائلات المرضى والصف الأول من العناية الصحية من ممرضين وقابلات وغيرهم. الدولة فقط كذبت وأعطتهم معلومات خاطئة".
طبيعة الفيروس وتحولاته.. مدار جدل
بغض النظر عن المنطقة، بقيت "الطبيعة المتحورة" للفيروس حديث الساعة خلال الصيف، حيث تتقاطع الشهادات من العاملين بالقطاع الصحي والمصابين حول كون الأعراض الأكثر انتشارا وقوة هي أعراض مرتبطة بالجهاز الهضمي وليس التنفسي (إسهال، إقياء، تشنج كولون) ما خفّف الطلب على المنافس وأنابيب الأكسجين بالنسبة لعدد الإصابات، وبالتالي قلّل عدد الوفيات لتمكن الغالبية من استدراك الأمر ومعالجة أنفسهم منزليا.
أما الأعراض التنفسية، فظهرت بشكل أقل حدة. مع ذلك، تكررت ملاحظة سرعة تدهور الحالات التنفسية الحادة بحيث تكون فتاكة في ظل عدم توفر المنافس إسعافيا.
تخبرنا الدكتورة كندة ع. (اسم مستعار) عن حالة أحد معارفها: "عمره بأواخر الستينات، كانوا برحلة على مشتى الحلو، بالنهار ما كان فيه شي، المسا بلش يسعل وارتفعت حرارته بالليل. لوصلوا تاني يوم الصبح على حلب، داروا عالمشافي كلها مافي منافس، للمسا ما عاد اتحمل، اتوفى. ما في شي فيكي تعمليه، مريض قصبات وما في منافس".
أما عن "الإشاعات الطبية" المتداولة بين الأطباء أنفسهم، فيبدو أن هناك قناعة بأن اختلاف الأعراض عائد لاختلاف في "أنواع" الفيروس، حتى ذهب البعض إلى القول أن الاصابة بأحدها لا يمنح مناعة من النوعين الأخرين، في ظل تخبط دولي حول فعالية الأجسام المضادة التي ينتجها المتعافون، من حيث طول مدة المناعة التي تمنحها على الأقل.
"مأساة بكل معنى الكلمة" تعلّق على ذلك الدكتورة خلود "النخبة عندنا تعطي معلومات خاطئة ولا جهة تحاسبهم. المشكلة لدينا ليست إشاعات الإنترنت وضعف الوعي بين الناس كغير دول، لا يمكننا أن نضع اللوم على الناس". تكمل شارحة "لكل بلد عاداته الاجتماعية في تعريف الفرق بين الرشح والانفلونزا مثلا. الكوفيد ليس فيروسا تظهر أعراضه بطريقة موحدة وإنما تختلف بحسب العمر والحالة الصحية وغيرها، لذلك لا يمكننا اعتماد مقارنات الأعراض التي يقوم بها الناس بين بعضهم أو حتى الأفراد العاملين بالقطاع الصحي. الأمر بحاجة سلطة طبية موحدة تقوم بوضع معايير standerdization للأعراض العامة في كامل البلد قبل أن نقول أن كوفيد سوريا مختلف عن كوفيد العراق أو غيره".
الوضع الآن (اكتوبر ٢٠٢٠)
في نهايات شهر أب/ أغسطس المنصرم، بدأ العاملون بالقطاع الصحي في دمشق بالحديث عن تراجع واضح في أعداد الإصابات، متفائلين بانحسار الذروة. أكد لنا الدكتور حسام ب. (اسم مستعار) المختص بأمراض الأذن والأنف والحنجرة في بدايات أيلول أن: "متوسط عدد المصابين عندي بالعيادة كان يتراوح بين ٦-١٠ يوميا في تموز، الآن يمكن واحد كل يومين أو ثلاثة". كما أن الجمعيات الأهلية العاملة على تقديم الدعم الطبي أيضا أعلنت انخفاض الطلبات اليومية على خدماتها في نفس الفترة. أكد ذلك تقرير رويترز الأخير على لسان أحد مديري المنظمات غير الربحية الدولية العاملة في سوريا، الذي قدّر انخفاض عدد الوفيات اليومي من ذروته في تموز وأب بمعدل ١٢٠ وفاة يومية إلى نصف ذلك في أيلول.
لم يعن ذلك أن القرارات الحكومية المستهترة بضرورات العزل الاجتماعي توقفت، حيث أصرّت وزارة التربية على إعادة افتتاح المدارس في الوقت المعتاد دون أي تأجيل رغم تعالي الأصوات المطالبة بذلك، في ظل انعدام إجراءات تخفيف الاكتظاظ في الصفوف الدراسية، وعلى الرغم من ملاحظة العاملين في المشافي زيادة طفيفة في الإصابات بين الأطفال.
منذ مطلع أيلول سبتمبر، عادت الأرقام المعترف بها في الإحصاءات الرسمية للتصاعد مرة أخرى، وإن عزا البعض ذلك إلى زيادة القدرة على إجراءات مسحات أكثر، الأمر الذي يبقى أيضا طي الكتمان والتستر الحكومي، حيث لا يتم الإعلان عن القدرات الاختبارية لعدد المسحات اليومي.
في الطرف الأخر، أصر الروس على إغلاق المعابر الحدودية الشمالية أمام مرور المساعدات الدولية في وسط الجائحة، ردا على عقوبات قيصر وفق تصريحات السفير الروسي في الأمم المتحدة، بحيث لم يبق سوى معبر باب الهوا لتمر المساعدات عبره، ومن ثم تعاني الأمرين للوصول للمستفيدين في بقية المناطق الخارجة عن سيطرة حليفهم في دمشق.
في الشمال الشرقي، أعادت الإدارة الذاتية إغلاق المعابر الحدودية أمام المسافرين بعد أن بدأت أرقام الإصابات بالارتفاع بشكل طفيف في بداية الصيف، لكنها عادت وسمحت باستئناف العمل في صالات الأفراح ودور العبادة في أيلول، ما أدى لزيادة الاعتراضات من أبناء المنطقة العالقين خارجها جراء إغلاق المعابر، فصدر قرار بفتح المعابر أمام العالقين فقط حتى نهاية الشهر. وصلت الأرقام الرسمية للإصابات في المنطقة إلى أكثر من ألفين وثلاثمئة إصابة وحوالي ثمانين وفاة حتى منتصف أكتوبر.
أما في الشمال الغربي، بدأت الإحصائيات بالتصاعد بشكل ملحوظ منذ بداية أيلول، حتى وصل عدد التحاليل الإيجابية في أحد الأيام إلى أكثر من ربع العينة المحلّلة في ذلك اليوم، دون أن يزد عدد الوفيات الكلي الناتج عن الوباء حتى تلك اللحظة عن أربع حالات فقط (وصل ل١٤ وفاة منتصف أكتوبر)، في المنطقة التي يقطنها حوالي ٤ مليون شخص. سجل وجود حالات إيجابية في ١٨ مخيما بنسبة حوالي ١٠٪ من المسحات المجراة.
يبقى الانهيار الاقتصادي وتراجع قيمة العملة المذهل خلال العام الفائت المشكلة الأكبر بنظر السوريين في طول البلاد وعرضها، فيغلب الخوف من الفاقة والجوع القدرة على الالتزام بإجراءات التباعد والعزل، أججه تخفيض الحصص في السلل الغذائية الموزعة من برنامج الغذاء العالمي والحرائق الأخيرة في الساحل.
في خضم كل ذلك، يمر ارتفاع حالات العنف والقتل الأسري والجندري، خاصة أثناء الحجر في الربيع، مرور الكرام، حيث لا مكان لها قط في سلم الأولويات على تنوع مشاربه خلال السنين الماضية. ويجمع العاملون على توثيق الأوضاع الانسانية في السجون والمعتقلات في كل المناطق على عدم احترام الحد الأدنى من الشروط الوقائية في المعتقلات السياسية في كامل البلاد لمنع انتشار الوباء بين المعتقلين في ظروف صحية متردية جدا بالأصل، دون أن يتمكن أحد من توثيق مدى انتشار الوباء في تلك الأقبية التي لم يسمح حتى للعاملين في مواجهة الجائحة وتوثيقها بالوصول إليها.