(درعا)، "لم تثنني اتصالات عائلتي عن التخطيط للهرب من المعركة والانشقاق للمرة الثانية بعد اكتشافي زيف المصالحة التي وثقت بها مع عدد كبير من الشبان، وقمت بإطلاق رصاصة على ساقي مُدَّعياً إصابتي خلال الاشتباكات للحصول على إجازة، وعدت إلى بيتي عازما على عدم العودة للخدمة مجدداً، وحال وصولي صُعقت عند سماع خبر وفاة شقيقي أحمد الذي أصيب أثناء قتاله إلى جانب فصائل المعارضة في ذات المعركة".
هذا ما قاله لحكاية ما انحكت ملهم الرفاعي (30 عاما/ مستعار) وهو أحد الجنود المنشقين حديثا، معللاً أسباب إنشقاقه للمرة الثانية عن جيش النظام بعد انشقاقه الأول قبل 7 أعوام، وكاشفا بذلك الفخ الذي وقع به مقاتلو المعارضة السورية ممن وثقوا بالمصالحات التي رعتها روسيا في الجنوب السوري، حيث وجد ملهم نفسه وجها لوجه في معارك كان أخيه طرفا فيها من الجانب الآخر دون أن يعرف حينها.
وعن تفاصيل الأمر، يقول لحكاية ما انحكت: "وَثِقت مع عدد كبير من الشباب باتفاق المصالحة المزعوم وقررنا الالتحاق بالجيش، بينما قرّر شقيقي أحمد مع عدد من رفاقه الانتقال إلى الشمال السوري والانضمام إلى فصائل المعارضة هناك. لكن ومع اندلاع معارك الشمال السوري مطلع العام الحالي، تعَمّدَ ضباط النظام نقلي مع مئات المنضمين الجدد إلى الجبهات الأمامية من المعارك (ناقضا اتفاق المصالحة)".
وأردف الرفاعي: "شهدت مقتل وإصابة عشرات الجنود من أبناء درعا والمناطق المصالِحة. وأمام هذا الواقع وخوفا من احتجاج الأهالي، عمد النظام إلى تسليم جثث جزء منهم لذويهم وتم دفنهم بمراسم عسكرية وسط تكتم أمني حول مصير عدد كبير من العناصر، مع ورودِ أنباءٍ عن تصفية قادة ميدانيين في جيش النظام لعناصر رفضوا المشاركة في المعركة".
وهنا ظهرت "موجة انشقاق جديدة تصدرها المئات ممن سنحت لهم فرصة العودة إلى مناطقهم في محافظات درعا والقنيطرة وريف دمشق على مدار العامين الماضيين، ورفضوا بعد ذلك الالتحاق بقطعهم العسكرية مجدداً، خوفا من زجهم في معارك محتملة؛ مع احتدام المعارك وتعرّض جنود الصفوف الأولى لمخاطر الموت"، كما يقول ملهم لنا.
وعن التفكير بالانشقاق للمرة الثانية والظروف المصاحبة له، يقول لحكاية ما انحكت: "أقنعت عددا من أصدقائي المشاركين في المعركة بالتفكير جدياً في الانشقاق مرة أخرى، والبحث عن طريقة تبعدنا عن نقاط الاشتباك المباشر مبدئياً، فقررنا دفع رشوة للضابط المسؤول عنا، لكننا عَدلنا عن رأينا خوفاً من رفضه وسجننا بتهمة محاولة الفرار".
قبل انشقاقه الثاني، أصيب أحد رفاق الرفاعي في أحد المعارك ونقل إلى أحد مشافي مدينة حلب، ثم حصل على إجازة مَرضِيَّة ونقل إلى درعا ليكمل علاجه. وهناك أخبر عائلة "ملهم" بِخطة ولدهم، فحاولوا الاتصال به لإقناعه بالصبر وعدم تكرار تجربة الانشقاق، لأنه فور عودتهم إلى بيوتهم، يواجه المنشقون الجدد خيارات صعبة في ظل الواقع الاقتصادي المنهار وعدم القدرة على التنقل خوفاً من الاعتقال على حواجز النظام، فيضطرون للعمل بأجر زهيد أو السفر عبر طرق التهريب.
حسب مكتب توثيق الشهداء بدرعا فقد قتل 33 جندي من أبناء محافظة درعا الملتحقين بالجيش عقب اتفاق المصالحة بعد نقلهم إلى الشمال السوري وزجهم في معركة استعادة النظام لعدد من مدن وبلدات ريف إدلب الجنوبي
وبحسب مكتب توثيق الشهداء بدرعا فقد قتل 33 جندي من أبناء محافظة درعا الملتحقين بالجيش عقب اتفاق المصالحة بعد نقلهم إلى الشمال السوري وزجهم في معركة استعادة النظام لعدد من مدن وبلدات ريف إدلب الجنوبي، وأبرزها مدينة سراقب خلال شهر شباط/ فبراير 2020، بالمقابل قتل 11 مقاتلاً من أبناء درعا المنضمين إلى فصائل المعارضة بإدلب.
هذه المعركة وغيرها وضعت أبناء درعا بعد اتفاق المعارضة في مواجهة بعضهم البعض بعد القتال لسنوات جنباً إلى جنب داخل صفوف الجيش السوري الحر، حيث فرضت المصالحة انقسامهم بين منضمين لجيش النظام ورافضين غادروا للشمال للانضمام لصفوف المعارضة، خاصة بعد عدم التزام النظام بما ورد في اتفاق المصالحة.
اتفاق المصالحة
أواخر شهر تموز/ يوليو 2018 عقد اتفاق المصالحة بين فصائل المعارضة وقوات النظام بوساطة روسية عقب تمكن النظام من استعادة مناطق واسعة في ريف درعا. كان أهم بنود الاتفاق فرض الاستقرار الأمني والعسكري في محافظتي درعا والقنيطرة، وتسوية أوضاع ضباط وعناصر الجيش المنشقين، وتسليم فصائل الجيش الحر سلاحها الثقيل، إضافة إلى نقل رافضي المصالحة إلى الشمال السوري والسماحَ لهم بحيازة سلاحهم الخفيف واصطحاب عائلاتهم معهم.
يقول لحكاية ما انحكت، الناطق باسم مؤسسة "تجمع أحرار حوران الإعلامية"، عامر الحوراني: "وعدت روسيا آلاف الشباب الموقعين على الاتفاق بضمان عدم ملاحقتهم أمنياً بموجب حصولهم على بطاقات التسوية، وإتمام خدمتهم العسكرية ضمن القطع العسكرية المنتشرة جنوب سوريا، فور التحاقهم بتشيكلات الجيش، كما قدمت ضمانات للجنود المنشقين العائدين للخدمة ضمن ثكنات الجيش بباقي المحافظات، بتسريحهم من الجيش فور إتمام مدة خدمتهم، ثم سهلت انضمام عددٍ من قادة الفصائل المعارضة إلى تشكيلات جيش النظام وفروعه الأمنية تحت مسمّى فصائل المصالحة، فشرع أولئك القادة باستقطاب المنشقين والمطلوبين للخدمة العسكرية، في حين شكك قادة آخرون بجدية الاتفاق، ورفضوا الانخراط بصفوف قوات النظام".
وأردف الحوراني: "نتيجة مطالبتهم المتكررة بإخراج المعتقلين وتحريض القاعدة الشعبية على تنظيم المظاهرات المطالبة بإيقاف انتهاكات النظام ومليشيات إيران في المنطقة، وأبرزها استمرار الاعتقالات والخطف والإخفاء القسري وتدبيرالاغتيالات التي طالت عدداً منهم، بات كل من يرفع صوته، ويحاول التفاوض مع الروس بخصوص تواجد إيران وأتباعها، هدفاً لتلك المليشيات التي تغلغلت في المنطقة دون رادع خلال العامين الماضيين، فإيران تتعمّد انتهاك الاتفاق من خلال بعض الجهات كالفرقة الرابعة و حزب الله، فهي تخشى تمدّد نفوذ روسيا على حساب تواجدها في المنطقة، خاصة بعد تشكيل روسيا للفيلق الخامس برئاسة عدد من قادة وضباط الجيش الحر سابقاً".
وأشار الحوراني إلى اغتيال القيادي السابق في الجيش الحر "أدهم أكراد" (المعروف بخطاباته المتكررة خلال المظاهرات التي تخرج بشكل دوري للمطالبة بوقف انتهاكات الاتفاق وإخراج المعتقلين) مع ثلاثة من رفاقه، قرب بلدة تبنه على الطريق الدولي بين دمشق ودرعا أثناء عودتهم من العاصمة، بعدما حضروا اجتماعا طالبوا فيه بإخراج المعتقلين يوم الأربعاء ١٤ تشرين الأول/ أكتوبر ٠٢٠٢.
"خلال عامين من عقده، لم يلتزم النظام بمعظم بنود الاتفاق، مما يرجح انهياره نهائياً، في ظل استمرار العقلية الأمنية التي يتبعها" هذا ما قاله عضو في اللجنة المركزية المعنية بتوثيق انتهاكات النظام والتفاوض مع الجانب الروسي لضمان تنفيذ بنود الاتفاق وإخراج المعتقلين (أغفلنا اسمه لضرورات أمنية)، متوقعاً تأزم الأوضاع عقب إقرار مجلس الشعب المرسوم التشريعي رقم 22 الخاص بإلغاء الهيئة العامة للمصالحة الوطنية، بعد مرور عامين على تشكيلها بموجب المرسوم التشريعي رقم 19 لعام 2018، وتصريح رئيس لجنة القوانين المالية في المجلس النائب، عمار بكداش، لجريدة الوطن السورية "أن إلغاء الهيئة هو قرار حكيم لأن وجودها لم يعد له فائدة، وإمكانية إلغاء لجان المصالحة كافة، فبحسب النظام الداخلي للمجلس يحق للأعضاء التصويت على إلغاء أي لجنة لا يرون فائدة منها"، وبالتالي من "المحتمل إنهاء دور اللجنة المركزية المفاوِضة، ما ينبأ بعودة التوتر للمنطقة" وفق ما يقول مصدرنا.
بالأرقام.. هشاشة الاتفاق وانتهاكات لم تتوقف
احصائيات هامة قدمها المسؤول في "مكتب توثيق الشهداء" بدرعا لحكاية ما انحكت، عمر الحريري، تؤكد هشاشة اتفاق المصالحة بعد أن باتت الاغتيالات كابوسا يؤرق حياة المدنيين بدرعا على مدار العامين الماضيين، خاصة قادة المعارضة سابقاً، حيث قال :"منذ سيطرة قوات النظام على محافظة درعا في شهر آب/ أغسطس 2018 حتى منتصف تشرين الأول/ اكتوبر ٢٠٢٠ وثق قسم الجنايات والجرائم في مكتب توثيق الشهداء في درعا 76 عملية ومحاولة اغتيال طالت قياديين سابقين في فصائل المعارضة في محافظة درعا، أدت لمقتل 42 منهم في عمليات تمّت بإطلاق النار المباشر أو تفجير العبوات الناسفة أو الإعدام الميداني بعد الخطف".
وأشار الحريري إلى تقرير لجنة الحقوق الدولية التابعة لمجلس حقوق الإنسان والمعنية بتوثيق الانتهاكات على الأراضي السورية الصادر منتصف شهر أيلول/ سبتمبر حيث ذكر في النقطة 17: "زادت التقارير عن عمليات القتل المستهدف للأفراد في جميع أنحاء محافظتي درعا والسويداء، فيما بدا أنه أعمال انتقامية من قبل العديد من العناصر المسلحة المحلية، فكان هناك ما لا يقل عن 53 عملية قتل من هذا القبيل في جميع أنحاء درعا بين يناير/ كانون الثاني ويونيو/ حزيران، استهدفت أطباء، وفاعلين سياسيين مؤيدين ومعارضين للحكومة، وقضاة، وأعضاء الجماعات المسلحة الذين "صالحوا" أوضاعهم، وأعضاء جهاز الأمن. في جميع الحالات الموثقة تقريبًا، نفذ رجال على دراجات نارية باستخدام أسلحة صغيرة عمليات القتل، مما جعل التعرف على الجاني أمرًا صعبًا".
وحول الجهة المسؤولة عن مجمل الاغتيالات يقول الحريري: "تتنافس عدة أطراف على في سطوتها على الأرض، أهمها قادة فروع النظام الأمنية، وقادة حزب الله اللبناني عبر تجنيد المنضمين لصفوفهم من أبناء درعا بغية التخلص من الشخصيات الرافضة لنهجهم، خاصة قادة وعناصر فصائل المعارضة الذين رفضوا الانضمام لهم، أو المنضمين للفيلق الخامس الذي يحد من نشاطهم في مناطق نفوذه ويمنعهم من نشر الحواجز فيها، وتجنباً للمواجهة المباشرة، يلجأ النظام وأعوانه إلى الاغتيالات كوسيلة للتخلص من منافسيهم، فترد الأطراف الأخرى بعمليات مماثلة، بينما تنشط جماعة تطلق على نفسها المقاومة الشعبية وتتبنى بعض العمليات عبر تسجيلات مصورة، كما تنسب عمليات أخرى لتنظيم داعش عبر صور وبيانات مكتوبة لا يمكن التأكد من صحة ارتباط ناشريها بالتنظيم".
صراع النفوذ بين إيران وروسيا
تجلى الخلاف بين روسيا وإيران على كيفية إدارة مناطق التسوية بدرعا خلال العام الحالي ٢٠٢٠، نتيجة ارتفاع وتيرة العمليات العسكرية التي استهدفت ضباط وعناصر تابعين للفرقة الرابعة وفرع المخابرات الجوية (المدعومة من قبل إيران) من جهة، وقادة في الفيلق الخامس (المرتبط بالقيادة الروسية) من جهة أخرى، واتهام كل طرف بتدبير الطرف الآخر لها.
"خلاف ظاهري إلى حين التفاهم على مناطق النفوذ النهائية لكل طرف" هذا ما يقوله لحكاية ما انحكت الناشط الحقوقي، عاصم الزعبي، متابعا: "إن معظم الضحايا المستهدفين من أبناء درعا المجندين لديهم مقابل مغريات الرواتب والسلطة، بالتالي مجريات الوقائع على أرض الجنوب السوري ذاهبة بأهله إلى معارك استنزاف مسبقة الصنع والتخطيط بغرف المخابرات المظلمة، خاصة الصدام الذي سعى النظام ومن خلفه حزب الله لتكريسه بين محافظتي درعا والسويداء، عبر تحريضهم لمليشا الدفاع الوطني في السويداء، وبإشراف قياديين من حزب الله على تدريب مجموعات جديدة لتلك القوات داخل منطقة القريا التي شهدت حدودها مع مدينة بصرى شرق درعا اشتباكات مع عناصر الفيلق الخامس، بحجة تمركز الفيلق في نقاط متقدمة داخل أراضي السويداء، خَلَّفت عدد من القتلى والجرحى في صفوف الطرفين في 3 تشرين الأول/ اكتوبر الحالي".
فيما يقول محمد المقداد (٢٥ عام/ مستعار) وهو طالب جامعي من بصرى الشام انضم لصفوف الفيلق الخامس: "لا تزال اليد العليا في الصراع هناك لروسيا التي عمدت إلى تشكيل اللواء الثامن التابع للفيلق الخامس، ففضل آلاف الشباب من أبناء درعا الانضمام لصفوفه، بدلاً من الالتحاق بالجيش السوري"، شارحاً لحكاية ما انحكت أسباب التحاقه بصفوف الفيلق الخامس: "سدّت جميع الدروب في وجهي بسبب تخلفي عن الخدمة العسكرية، فليس بإمكاني السفر والتنقل بين المناطق أو التقدم لأي وظيفة شاغرة أو حتى استكمال دراستي الجامعية دون استخراج وثيقة "لا حكم عليه" أو "بيان الخدمة"، واللتين يُمنَع إعطاءها للمتخلفين والمطلوبين؛ فنصحني أحد أقاربي الملتحقين بالفيلق منذ تأسيسه بالانضمام إليهم، حيث يحصل كل عنصر على ٢٠٠ دولار كراتب شهري، إضافة لاحتساب سنوات الخدمة العسكرية، بعد تسليم دفتر الخدمة واستلام بطاقة أمنية تمنح حاملها حرية التنقل بين الحواجز والمناطق الواقعة تحت سيطرة القوات الحكومية، دون التعرّض للمساءلة بصفته أحد جنود الجيش، وبذلك سأتمكن من الوصول لجامعة دمشق بعد 5 سنوات من الانقطاع والتسجيل فيها من جديد".
بدورها سعت المليشيات التابعة لإيران وأبرزها الفرقة الرابعة وحزب الله إلى تجنيد الشباب، وبناء القواعد العسكرية وتجهيز المعسكرات غرب درعا، وتثبيت الوجود شرقها من خلال تعزيز حواجزها العسكرية التي تتعرض للاستهداف بشكل متكرر، وآخرها اتخاذ الفرقة الرابعة من قصر المعارض وليد الزعبي القريب من المجمع الحكومي ببلدة المسيفرة مقراً جديداً لها يوم الجمعة ١٣ تشرين الثاني/ نوفمبر ٢٠٢٠، وتعزيزالحواجز المحيطة ببلدة الكرك الشرقي بعد تعرض حاجز الفرقة الرابعة على الطريق الواصل بين بلدتي الكرك والغارية الشرقية لهجوم شنَّه ملثمون، ما أسفر عن مقتل المقدم سوحان حسن عثمان وأربعة من عناصر الحاجز يوم الأحد 8 تشرين الثاني/ نوفمبر٢٠٢٠.
في هذا السياق روى لحكاية ما انحكت، وليد الأحمد (١٨ عام/ مستعار)، وهو شاب من ريف درعا الغربي قصة انضمامه إلى معسكر الفرقة الرابعة في منطقة زيزون غرب درعا بداية شهر أذار/ مارس ٠٢٠٢ حيث قال: "خططت لمغادرة درعا باتجاه لبنان كحال الكثير من أصدقائي الذين غادروا سوريا قبل دخولهم سنَّ التكليف العسكري بشهور، خشية سوقهم إلى الخدمة العسكرية، لكن إغلاق الحدود الرسمية بسبب جائحة كورونا وعدم قدرتي على تأمين المبلغ المطلوب للسفر عبر طرق التهريب حال دون ذلك حينها، ولم يبقَ أمامي سوى الانخراط ضمن صفوف الفرقة الرابعة، كونها تتخذ من منطقة سكني مقرات رئيسية لعناصرها، بعد أن علمتْ من أحد المنتسبين أنّ قادة تلك التشكيلات وعدوهم بعدم نقلهم خارج محافظات الجنوب السوري مطلقاً، واقتصار مكان خدمتهم على الثكنات والحواجز العسكرية المنتشرة فيها، رغم قناعتي التامّة بأنّ وجودهم في المنطقة مسخرٌ فقط لخدمة أجنداتٍ دول أخرى تتحكم بمصيرهم".
تجنيد الشباب للقتال خارج الحدود
تطورت محاولات تجنيد الشباب، لكن هذه المرة للقتال خارج الحدود، حيث شهد الجنوب تطورا ًلافتاً عقب زيارة ضابط روسي رفيع المستوى، ويدعى الكولونيل "ألكسندر زورين" بمهمة رسمية من موسكو أواخر نيسان/ أبريل ٢٠٢٠ بحسب نشطاء ووجهاء محليين.
وفي هذا الإطار يقول الباحث السياسي وأحد وجهاء عشيرة الحريري (أكبر عشائر درعا) الأستاذ، نصر الدين فروان، لحكاية ما انحكت: "أوكلت القيادة المركزية لقاعدة حميميم الروسية مهمة تجنيد المقاتلين جنوب سوريا إلى الجنرال ألكسندر زورين، نظراً لدرايته بحالها ونجاحه في مهام سابقة فيها، كان أبرزها الإشرف على عمليات المصالحة بين النظام وفصائل المعارضة في غوطة دمشق ودرعا والقنيطرة قبل عامين، ولديه أدق المعلومات حول تردي الأوضاع المعيشية والأمنية في المنطقة، ما يجعلها بيئة خصبة لتجنيد الشباب".
وأكد فروان اجتماع زورين مع عدد من قادة فصائل المصالحة المرتبطين برئيس فرع الأمن العسكري لؤي العلي، ومطالبتهم بإغراء شباب درعا والقنيطرة بفكرة القتال في ليبيا إلى جانب قوات خليفة حفتر المدعوم من روسيا. وفعلاً تم تقديم العرض لعدد كبير من الشباب، ليوافق في النهاية قلّة من الشباب على تلك العروض، بعد وعدهم بالحصول على رواتب مغرية تتراوح بين 800 إلى ألف و500 دولار أميركي لكل عنصر متعاقد، يرافقها مغريات أخرى كشطب أسماء المطلوبين لدى فروع النظام الأمنية وضمان عدم ملاحقتهم مستقبلاً". علما أن حكاية ما انحكت حاولت توثيق عدد من ذهب إلى ليبيا من أبناء درعا، إلا أنها لم تتمكن من ذلك، لأن أغلبهم مجندون في الجيش يتعاقدون سرا دون الكشف عن وجهتهم.
وأشاد الحريري بدور الفعاليات المدينة والعشائرية في حوران من خلال عقدها اجتماعاً طارئاً للردِّ على محاولات استدراج شبابها وزجهم في معارك خارج الحدود، وذلك بتاريخ ٢٦ نيسان/ أبريل 2020، والتوقيع على بيان رافض لتلك الدعوات جاء فيه: "إنَّ فعاليّات وأهالي حوران مجتمعة تدين وتستنكر وبقوّة تلك الدعوات المشبوهة لجرِ شباب حوران لقتال أشقائهم في ليبيا، وتعلن تضامنّها ووقوفها الكامل إلى جانب الشعب الليبي المظلوم الذي فُرضت عليه الحرب بالوكالة، ونحذّر كافة القائمين على هذه الدعوات ّمن عواقبها التي ستحوّل شباب سوريا إلى مرتزقة مرتهنين لشركات القتل واستخبارات العالم القذرة".
رحلات الهروب المكلفة
دفعت مشاريع التجنيد وتردّي الأوضاع المعيشية آلاف الشباب من أبناء الجنوب، وتحديداً محافظة درعا إلى سلوك دروب التهريب باتجاه لبنان أو تركيا مروراً بمناطق سيطرة المعارضة شمال سوريا، مقابل دفع مبالغ كبيرة قد تصل إلى خمسة آلاف دولار للوصول إلى تركيا وألف دولار للوصول إلى لبنان.
بهذا الخصوص، قال مدير شبكة نبأ الإخبارية الأستاذ محمد العويد لحكاية ما انحكت: "لم تكن رحلات الهروب أقل خطراً من البقاء، فلم تخل من احتمالات الاعتقال أو الموت. وإذا ما استمرت تلك الظاهرة، سيكون من السهل تمرير المشاريع الرامية إلى التفريغ التدريجي للمنطقة، فعمليات التهريب تتم عبر وسطاء مرتبطين بضباط الجيش الذين يسهلون بدورهم حركة الشباب المطلوبين وعائلاتهم بين الحواجز الأمنية، ويشرفون على تأمين وصولهم إلى مقصدهم نظير الحصول على مبالغ طائلة قد تصل إلى 3 آلاف دولار للفرد الواحد، حيث بات التهريب أحد المداخيل الاقتصادية الكبيرة لضباط النظام، خاصة المسؤولين عن الحواجز القريبة من الحدود أو المتاخمة لمناطق سيطرة المعارضة شمال سوريا".
وأشار العويد إلى حادثة مروعة حصلت يوم الثلاثاء11 آب / أغسطس ٢٠٢٠، حين انفجرت مجموعة من الألغام بين مناطق سيطرة النظام ومدينة عفرين أثناء عبور ما يقارب ١٠٠ شخص تم تهريبهم على دفعات من درعا، ثم جمعهم ليلاً لنقلهم إلى عفرين.
وأكد العويد نجاة العشرات ووصولهم إلى عفرين، بينما ظل مصير 47 شخص مبهماً، بعد مداهمة قوات النظام لمكان الانفجار، وسحب جثث القتلى واعتقال الجرحى بعد معالجتهم في مشافي مدينة حلب.
يروي محمد العامر (٢٥ عام/ مستعار) لحكاية ما انحكت رحلة هروبه إلى لبنان حيث يعيش اليوم، ويقول: "بسبب تعرضي للملاحقة الأمنية على مدار الأشهر الماضية، قرّرت الهروب إلى لبنان، وبعد يومين من خروجي من درعا عن طريق مهربين أوصلوني إلى منطقة وادي خالد غرب محافظة حمص مقابل الحصول على ٤٠٠ دولار نهاية أيلول /سبتمبر ٠٢٠٢، تم تسليمي لمهربين من الجانب اللبناني لتأمين دخولي إلى مدينة طرابلس، ومنها إلى بيروت أملاً بالحصول على فرصة عمل".
ويضيف العامر: "في الوقت الذي حالفني الحظ بالوصول إلى مقصدي، تعرّض العديد من الهاربين إلى لبنان للخطف من قِبَلِ عصابات تمتهن احتجاز المارين عبر الحدود سرا، بهدف طلب فدية مالية قد تصل إلى خمسة آلاف دولار عن كلِّ محتجز مقابل تركهم ومتابعة طريقهم".
من جهته، قرّر علي (٣٠ عام/ مستعار) الهجرة إلى أوروبا مرورا بتركيا بداية شهر تشرين الأول/ اكتوبر ٠٢٠٢، بعدما باع منزله وسيارة الأجرة التي يعمل عليها، وترك وزوجته وأولاده الخمسة عند أقاربهم. ويعلل ذلك بالقول لحكاية ما انحكت: "بات العيش في سوريا أشبه بالجحيم، ولم يعد بإمكاني العمل وتأمين قوت عيالي في ظل انعدام الأمن ونقص الخدمات وشح المحروقات والارتفاع الجنوني للأسعار، اتخذت قرارأً مصيريا ببيع كل ما أملك والمغامرة وحيدا آملاً بالخروج من هذه المحنة، ثم انتشال عائلتي من الجحيم في حال وصولي إلى ألمانيا، حيث يقطن أخي الذي أغراني بفكرة الهجرة ووعدني بتأمين فرصة عمل هناك".
بعد الوصول إلى تركيا، سافر علي بحراً على متن قارب سياحي بكلفة 8 آلاف يورو، بهدف الوصول إلى إيطاليا رفقة مجموعة من الشباب السوريين معظمهم من المطلوبين الخدمة العسكرية، إلا أن تعطُّلَ محرك القارب أرغمهم على اللجوء إلى إحدى الجزر اليونانية، حيث فرضت عليهم السلطات الحجر الصحي ونقلتهم إلى مخيم مكثوا فيه لأسبوعين.
تمكن علي ورفاقه من الهروب من المخيم والوصول إلى ألبانيا ومنها إلى كوسوفو ثم صربيا، وصولا إلى مخيم على الحدود المجرية الصربية، ليتفاجؤوا بوجود حوالي ألف شاب سوري داخله بداية تشرين الثاني/ نوفمبر ٠٢٠٢، بعدما حالت إجراءات السلطات المجرية المشددة على الحدود مع صربيا دون إكمال طريقهم، ولازالوا ينتظرون هناك أملاً بالحصول على فرصة للعبور بأقرب وقت.
يغامر عشرات الشباب بأرواحهم لخوض رحلات مشابهة يومياً، حالمين بمغادرة وطنٍ بات من المحال العيش فيه بنظرهم، فالبقاء سيفرض عليهم العيش دون فرص عمل متكافئة مع الغلاء الفاحش، أو التحوّل لمرتزقة لصالح الدول المتنازعة على أرضه، وربما إجبارهم على قتال رفاقهم المنضمين لفصائل المعارضة شمال سوريا، ومن بين هؤلاء ملهم الرفاعي الذي ختم قصته بالقول: "بعد أن كانت عائلتي ترفض انشقاقي الثاني، غيّروا رأيهم وشجعني والدي للهروب باتجاه لبنان، وقرر اللحاق بي مع بقية أفراد العائلة كي لا يخسر ما تبقى له من أبناء في حروب الآخرين".