مذكرة حرب (7)

روتين الحصار وطفل تحت الأنقاض


"كان التصوير بالنسبة لي هو طبيبي النفسي. عندما أمسك كاميرتي وأبدأ بالتقاط الصور، بشكل تلقائي أقوم بتفريغ مشاعري في تلك الصور لأعبّر عن غضبي وحزني. لم يكن لديّ وسيلة أخرى لأفرغ كل تلك المشاعر". هذا ما يقوله لحكاية ما انحكت المصوّر السوري، سمير الدومي، وهو يوّثق شهادته عن الأهوال والمصاعب التي رآها وعانى منها حين كان مصوّرا في مدينة دوما.

22 كانون الأول 2020

(سمير الدومي: "كنت أشعر بالاختناق أثناء التقاطي لتلك الصور بينما كان الجميع يحاول إخراج الطفل من تحت الأنقاض، كانت نظرات الرعب والخوف عليه واضحة تماماً. أكنت أتخيل نفسي مكانه وألتقط أنفاسي مجدداً مع كل صورة؟/ الحقوق محفوظة للمصور سمير الدومي)
سمير الدومي

مصور سوري ولد في عام 1998 في مدينة دوما قرب العاصمة السورية دمشق. في أواخر عام 2014 بدأ العمل لصالح وكالة الصحافة الفرنسية (أ ف ب) كمصور حر في سوريا، ولا يزال يعمل لصالحها في منطقة النورماندي في فرنسا حيث يعيش كلاجئ الآن. حاز سمير على المركز الأول في محور القصص الإخبارية المصوّرة في مسابقة صور الصحافة العالمية عام 2016.

(هذا المقال جزء من سلسلة مقالات عن التصوير السوري والمصورين السوريين. بتمويل من مؤسسة فريدريش ناومان من أجل الحرية)

كان عمري 13 عاماً عندما بدأ الحراك السلمي في سوريا في عام 2011. في ذلك الوقت، بدأ أشقائي الذين يكبرونني سناً بتوثيق المظاهرات السلمية المطالبة بالحرية من جهة، وانتهاكات النظام السوري لقمع المظاهرات من جهة أخرى. بدأتُ حينها بمساعدتهم لشعوري بالحاجة إلى المشاركة في هذه الثورة رغم صغر سني

 بعد فترة قصيرة، تطوّر الوضع بشكل سريع وأصبحت منطقتنا "الغوطة الشرقية" محاصرة بشكل كامل من قبل قوات النظام السوري في نهاية عام 2012، وذلك بعدما أصبحت تحت سيطرة مقاتلي المعارضة. بشكل رئيسي، فرض النظام قيودًا على حركة المدنيين، وصادر الطعام، وحرم المدنيين بشكل تعسفي من الكهرباء والماء كنوع من العقاب.

(علم الثورة السورية على حائط مهدّم مع كلمة "حرية" داخل مدرسة مدمرة في دوما، سوريا اكتوبر ٢٨، ٢٠١٦. تصوير: سمير الدومي)

 روتين الحصار

لم نكن مستعدين لحصار بهذه القسوة، لكننا أجبرنا على التعايش مع ذلك الوضع الصعب. بدأ الناس بمحاولة إيجاد بدائل لكل شيء من أجل النجاة. كانت أمي تعد لنا الخبز المصنوع من علف الحيوانات بدلاً من دقيق القمح الذي لم يكن متوفراُ. في المرة الأولى، بقيت بلا طعام مدّة ثلاث أيام لأنني لم أحب طعم ذلك الخبز. ولكن بعدها لم يكن لديّ خيار سوى أن آكله لكي أبقى على قيد الحياة. كما كنّا نقوم بقطع الأشجار لاستخدام خشبها للطبخ والتدفئة، ونستخرج الوقود والغاز بعد حرق المخلفات البلاستيكية. لقد دفع الحصار الناس إلى الابتكار والإبداع قدر الإمكان من أجل النجاة. الحرب ليست مجرّد آلة لصنع الموت، فأحياناً، رغم قساوتها تدفع الناس نحو الإبداع، وتدفع الصغار لأن يكبروا بسرعة وقسوة.

(صورة لسماء فوق دوما في ريف دمشق، ١٦ مايو ٢٠١٥. تصوير: سمير الدومي)

 كان من النادر أن يتوقف القصف على منطقتنا يوماً واحداً. كان ذلك روتين حياتنا اليومي. بالإضافة إلى الحصار، كنت أصحو كل صباح على أصوات القصف وغارات الطائرات. كنت حينها أقوم بتوثيق تلك الفظائع: بيوت مدمرة، أشخاص يبكون ذويهم الذين فقدوهم في القصف، وآخرون يسعفون المصابين بعد غارات الطائرات. كما أنني تدربت في قلب الصراع السوري، أحاول دائمًا أن أكون على اتصال بالأشخاص الذين أصوّرهم، أتحدث إليهم، أهتم بمشاعرهم، وأحترم رغباتهم.

(رجل يقطع شجرة ليستخدم الحطب للدفء والطبخ، في ٣ ديسمبر ٢٠١٦ في بلدة حزاما في ريف دمشق. تصوير: سمير الدومي)

كنت أشعر بالخوف كثيراً كأي إنسان أو طفل، أحياناً أحاول إبقاء عيني داخل منظار كاميرتي علّ ذلك يخفّف عني هول صدمة تلك المشاهد. ولكن عبثاً. شاهدت الكثير من الموت حينها، أكثر مما يمكن أن يشاهده طفل عادي. ومع ذلك، كان التصوير بالنسبة لي هو طبيبي النفسي. عندما أمسك كاميرتي وأبدأ بالتقاط الصور، بشكل تلقائي أقوم بتفريغ مشاعري في تلك الصور لأعبّر عن غضبي وحزني. لم يكن لدي وسيلة أخرى لأفرغ كل تلك المشاعر حينها. رغم ذلك، كان لدي مخاوف..

(رجال يبكون قرب جثث عائلاتهم بعد استشهادهم في غارات جوية للنظام السوري استهدفت سوقا في مدينة دوما. ١٦آب/ أغسطس ٢٠١٥. حيث استشهد أكثر من ٨٢ شخص مع ٢٥٠ مصاب في الغارة. تصوير: سمير الدومي)

طفل تحت الأنقاض

في هذه الصورة التي التقطتها في 16 من حزيران عام 2015 تتجلى أكبر مخاوفي. كان هذا الطفل عالقاً بين الركام عقب غارة جوية بأربعة صواريخ أدت إلى هبوط تكتل من الأبنية السكنية. كانت فرق الإنقاذ تعمل بكل جهدها لاستخراج الناس العالقين تحت الأنقاض، لكن لم يكن الأمر سهلاً وكان يتطلب وقتاً طويلاً نظراً للمعدات البسيطة المتوفرة، وقتاً أطول مما يمكن لشخص أن يحبس أنفاسه.

(سوريون ينقذون طفلا مصابا في غارة جوية على مدينة دوما بتاريخ ١٦حزيران/ يونيو ٢٠١٥. تصوير: سمير الدومي)

 كنت أشعر بالاختناق أثناء التقاطي لتلك الصور بينما كان الجميع يحاول إخراج الطفل من تحت الأنقاض، كانت نظرات الرعب والخوف عليه واضحة تماماً. أكنت أتخيل نفسي مكانه وألتقط أنفاسي مجدداً مع كل صورة؟ تلك كانت أكبر مخاوفي حينها، أن أبقى عالقاً تحت سقف منزلي وأموت خنقاً. لحسن الحظ خرج ذلك الطفل من تحت الأنقاض، ولكن مع الأسف لم تكن عائلته محظوظة كفاية لتنجو.

قصف في منزلنا!

توثيقي لتلك الأهوال لم يكن بالأمر السهل، فمعاناة وألم شعبي التي كنت أوثقها كانت معاناتي أيضاً. قبل التقاطي لهذه الصورة بلحظات قليلة كنت في مقهى للإنترنت بالقرب من منزلي. سمعت صوت الطائرة الحربية فخرجت مسرعاً لأحاول رؤيتها لمحاولة تحديد المكان الذي ستنفذ فيه غارتها الجوية. ماهي إلا ثواني قليلة، وإذ بضغط عالي الشدّة يدفعني للخلف، عقبه دوي انفجار ضخم. نظرت إلى السماء وإذ بي أرى دخان القصف ينبعث من منطقة قرب منزلي.

كانت الطائرة لاتزال بالسماء، كنا نعلم حينها أنه إذا سمعنا صوت الطائرة بالأجواء بعد تنفيذها لغارة، فهذا يعني أنها ستعاود قصف المكان نفسه لإيقاع أكبر عدد ممكن من الضحايا من المدنيين وفرق الإنقاذ. كنت خائفاً متردّداً. ولكن ودونما تفكير، ركضت مسرعاً تجاه مصدر الدخان، وصلت إلى شارعي، كان الدخان يملأ المكان. ماهي إلا ثوانِ معدودة لتعود الطائرة لتنفذ غارة أخرى. ارتميت مباشرة في مدخل البناء القريب مني دونما تفكير أيضا، فقط للاحتماء من شظايا الصواريخ.

(امرأة سورية، وهي أخت المصوّر، تغادر بيتها إثر غارة جوية استهدفته من قبل النظام السوري على مدينة دوما، ١ نوفمبر ٢٠١٥. تصوير: سمير الدومي)

 كانت الغارة بعيدة قليلاً، خرجت مباشرة وهرعت إلى منزلي، ملهوفاً، شارد الذهن خائفاً أشد الخوف، من أن يكون أصاب أي مكروه عائلتي. وصلت إلى منزلي. كانت الغارة في بنائنا تماما. صعدت لأتفقد أفراد عائلتي ولكن ما إن أصعد درجاً إلى أن أجد بين يدي أحد أبناء أخي وهو مغطّى بطبقة بيضاء من غبار القصف وبعض الدماء. بدأت بإجلائهم مباشرة خارج البناء وبدأ الجيران يساعدوننا. 

كان كل تفكيري محصوراً بأني أريد الوصول إلى منزلي، أردت الاطمئنان على أمي وأبي. بعد بضعة دقائق صعدت لأجد جميع أفراد عائلتي في حالة صدمة ورعب، تعلو وجوههم طبقة غبار أبيض كثيف. كان الحظ حليفنا حيث كان الجميع مجتمعين على مائدة الإفطار في غرفة واحدة قبل دقائق من الغارة، وكانت تلك الغرفة هي الوحيدة التي لم تتهدم بفعل القصف!

(طاولة إفطار داخل بيت المصوّر في مدينة دوما، ١ نوفمبر ٢٠١٥. تصوير: سمير الدومي)

مقالات متعلقة

سوريا تحت المجهر: البداية (1)

28 تموز 2020
"سوريا تحت المجهر" مشروع جديد تطلقه حكاية ما انحكت تحت إدارة المصورة سيما دياب، يهدف إلى تفكيك الصور ودراسة السياق الذي التُقطت فيه، وفي بعض الأحيان، السياق الذي نُشرت فيه...
الاجتثاث… سوريا اختفت! (6)

15 كانون الأول 2020
"أردت أن أتعمّق أبعد في التغطية من مجرّد ما رأيته وأبيّن أنّ "أزمة اللاجئين" سياسية. فالتغطية اللاسياسية لن تحقّق العدالة. أردت أن أظهر أنّنا لسنا مجرّد أرقام، ولسنا أمّة مفقّرة...
لو ما توّحدنا (5)

08 كانون الأول 2020
"لم تكُن مهمّتي كمصوّرة محلية سهلة في بيئة عنيفة. في إحدى المرّات، اشتبه الجيش السوري الحرّ بأنّني جاسوسة للنظام، واتّهموني بتسريب صور عن اجتماعات زعمائه إلى النظام، مع أنّني لم...
الصورة والمصوّر: ربّما حان الوقت لنمتلك ذواتنا (4)

17 تشرين الأول 2020
رغم فداحة ما جرى ويجري، من زاوية توثيقيّة تأريخيّة، فإن السؤال الأكبر في قضيّة رواية القصّة السوريّة وتمثيل من يعيشونها بها هو: "من الراوي؟" من يتخذ منبراً ويسرد قصّة المجموعة؟...
الوسوم:

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد