ربما يشعر كثيرون بالحرج من القول باستقلاليّة الرواية عن الواقع، قد يكون القول باستقلاليتها النسبيّة أقرب إلى الصواب، إذ لا تستطيع رواية ما أن تتجاهل ما حدث، أو ما يحدث في المكان والزمان الذين تعبّر فيهما وعنهما. لكن الاستقلاليّة تظهر في التغييرات، أي في بطء التغيير الذي يطال الأدب، مقابل سرعة التبدلات في الواقع أحيانًا. وربما يحدث العكس أيضًا، إذ تحدث ثورات في الفن وفي الرواية، بينما يكون الواقع متجمّدًا أو ساكنًا. الطريف في الأمر أنّ الثورات الأدبيّة، أو الفنيّة الكبرى، هي ثورات في الشكل أولًا، أو في طرائق التعبير، لا في المضامين، أو الموضوعات، غير أنّ الموضوعات هنا هي التي تشير إلى تغيّر المواقف الفكريّة والسياسيّة والأخلاقيّة للكتّاب، وهي التي سوف تترك تأثيرًا لاحقًا في شكل التعبير الأدبي أيضًا.
فما يحدث في الحياة العامة من هبّات وانتفاضات بل وثورات، أو تبدلات بطيئة، لا يمكن أن يظهر كتبدّل في الأنواع الأدبيّة المختلفة بصورة مباشرة، كما أن انقسام الثقافة في أي بلد، في المواقف العامة أو الخاصة، لا يظهر حالًا في اختلاف البنية الفنية لكلّ نوع من الأنواع الأدبيّة: شعر، مسرح، قصة قصيرة، رواية، بل في اختلاف الخطاب وطبيعة التوجهات الفكريّة. هذا ما يمكن قوله عن الرواية السوريّة في السنوات العشر الماضية. إذ أن جميع الروائيين هنا استخدموا الشكل الفني ذاته، والراجح أنهم سيستخدمونه لفترة طويلة نسبيًا في المستقبل. وبناء على هذا، فإنّ محور أي حديث عن التغيّرات في الرواية السوريّة سوف يمضي في اتجاه البحث عن مضمون التعبير، أكثر من الكلام عن شكل التعبير. ونحن هنا أمام مفارقة فنية طريفة للغاية، فالروائي المؤيّد للنظام الحاكم، والروائي المعارض للنظام، سوف يستخدمان التقنيات الروائيّة ذاتها من أجل التعبير عن أغراض، أو مضامين، متباينة جدًا، بل متعارضة، وربما تكون متعادية أيضًا. وسوف تكون الموضوعات من جهة، والمضامين من جهة ثانية، حقل الصراع بين الروائيين أنفسهم، لا الأشكال الروائيّة، بينما قد يكون الشكل الروائي نفسه، أو الأشكال الروائيّة المعتادة، الوسيلة الجماعيّة المحايدة للتعبير الأدبي!
نحن هنا أمام فترة زمنيّة في غاية القصر، على الرغم من أنها شهدت أحداثًا تاريخية كبرى؛ تغيّرات سياسيّة حاسمة، تبدلات إثنيّة، وهجرات سكانيّة ضخمة، لا تتناسب البتة مع المرحلة الزمنيّة، وسوف يكون من المشروع حقًا السؤال عن مصير الأدب في العموم، وعن مصير الرواية خاصة، بوصفها النوع الأدبي الأكثر قدرة ومهارة على متابعة هذه الأحداث.
لدينا حزمة من المستجدات الفكريّة التي طرأت على الرواية السوريّة في السنوات العشر الماضية، وهي السنوات الحاسمة في مسألة خيارات الكتاب الروائيين السوريين بحسب ما أرى، وفي التزاماتهم الفنيّة والأدبيّة والفكريّة والأيديولوجيّة.
هو السؤال الذي يتخفّى وراء الكلام عن أثر الواقع في الأدب. ها هو محور الكلام، بينما سوف يُترك أثر الأدب في الواقع إلى زمن آخر قادم، إذ أنّه من الصعب جدًا تتبع هذا الأثر في المراحل الزمنيّة القصيرة، ذلك أنّ المسألة الجوهرية الماثلة أمام الروائي هي قدرته على تمثيل الواقع روائيًا، أو فنيًا، وإعادة إنتاج الحقائق والقيم العامة الإنسانيّة، دون أن ننكر أنّنا أمام صعوبة موضوعية أخرى تتعلق بالأحكام النهائيّة على أمرين يخصان مثل هذه الملاحظات: الأول هو سؤال القيمة المتعلق بجودة الأعمال الروائيّة، والثاني متعلق بالبحث عن الحقيقة، أي عن الرواية أو الروايات التي استطاعت أن تعبّر عن حقيقة الواقع المعيش في السنوات العشرين الماضية. فمقاربة الرواية من باب الموضوعات أو المضامين وحدها تحمل الكثير من المخاطر، لعلّ أبرزها هو تجاهل أو تأجيل البحث عن القيمة الفنيّة لكلّ رواية على حدة، وتساوي جميع الروايات في التقييم، دون الأخذ بالفروق الفنيّة السالفة. ومع ذلك، فإنّ التبدل في الموضوعات الروائيّة بين عقد من السنوات وعقد آخر لا يمكن تجاهله، أو عدم ملاحظته، بسبب قوة حضوره الذي يرشحه لأن يكون ذا تأثير فاعل في تبدل الأشكال الفنيّة للرواية في المستقبل.
الرواية كشهادة على الحاضر
يمكن القول إنّ الروايات التي كتبت عن الراهن، لم يكن من الممكن أن تكتب لولا ما حدث، ومن هذا الباب تستمد كثيرًا من أهميتها كشاهد أو كشهادة على الحاضر، قل مثل ذلك عن روايات فواز حداد، نبيل سليمان، روزا ياسين حسن، سمر يزبك، خالد خليفة، سومر شحادة، ديمة ونوس، نيروز مالك، وغيرهم وغيرهن ممن لا تحضرني أسماؤهم الآن.
فالملاحظ من قراءة العديد من الروايات أنّ لدينا حزمة من المستجدات الفكريّة التي طرأت على الرواية السوريّة في السنوات العشر الماضية، وهي السنوات الحاسمة في مسألة خيارات الكتاب الروائيين السوريين بحسب ما أرى، وفي التزاماتهم الفنيّة والأدبيّة والفكريّة والأيديولوجيّة.
والمتتبع لبعض النتاج الروائي السوري المعاصر، إذ أنّ الاطلاع على كامل النتاج الروائي السوري بات صعبًا، بسبب اتساع مساحة الجغرافيا التي ينتشر فيها الروائيون، وبعد المسافات بين دور النشر والقارئ، أقول إنّ المتتبع لهذه الرواية سوف يلاحظ، وخاصة لدى أولئك الذين أيّدوا الثورة، أو شاركوا فيها، تبدلًا في طبيعة الشخصيات الروائيّة، وموقفها من العالم، تبدّلت الترسيمات السابقة التي كانت تكاد تسود في الرواية، حيث الشخصيّات السلبيّة المحبطة المهزومة، أو تلك الشخصيّات الخائفة، التابعة، أو تلك الشخصيّات اللامبالية التي بات خلاصها الفردي هو شغلها الشاغل، بعد سلسلة الهزائم العنيفة التي مسّت حياتها، في الداخل، وبعد انهيار كلّ مشاريع الأحلام في العالم. فظهرت من جديد في الرواية السوريّة شخصيات تستعيد الحلم، وكان أبرز ما في هذا الظهور أنّنا لم نعد أمام فرد وحيد معزول محاصر يحلم دون أمل، أي أمام البطل الثوري الوحيد المعزول، بل تعددت تلك الشخصيّات، وراحت تعمل معًا، يحدوها حلم كبير، وقناعة عميقة بأنّها قادرة على تغيير العالم. بات التغيير موقفًا حياتيًا لدى الشخصيّات، تشارك في تحقيقه، بأشكال وطرق مختلفة، بحسب طبيعة الشخصيّة، وطبيعة الحدث الذي تشارك في صناعته. ولعل انتشار هذا الواقع الجديد على مجمل مساحة الجغرافيا السوريّة، قد ساهم في منح الروائيين مئات الاحتمالات عن شخصيّات جديدة من الطينة الجديدة ذاتها.
الموقف من المرأة
الأهم والجديد في الرواية هو الموقف من المرأة، وهو يعكس إلى حدّ بعيد ظهور المرأة الجديدة في الحياة السوريّة، حيث انخرطت النساء بفاعليّة مفارقة لكلّ ما كان الواقع السوري يشهده من قبل، في الحدث الكبير الذي شهدته البلاد. ولعلّ التغيير في موقف الرواية من المرأة سوف يزداد أصالة وعمقًا وقوة في السنوات القادمة، بفضل قوة الحضور النسوي في الحياة العامة من جهة، وبسبب تغير موقف المرأة السوريّة ذاتها من العالم. فالمشاركة في المظاهرات، والخروج من البلاد، واللجوء والاستقرار في بلاد أخرى، ومواجهة قوانين جديدة تنظم علاقتها مع الرجل، كل هذا وغيره بدّل طرق مواجهتها للعالم، وغيّر في نظرتها إلى نفسها، وهو ما نشهده في العديد من الروايات المكتوبة في المهاجر التي رحل إليها السوريون في العالم. وربما كانت الرواية السوريّة المكتوبة من قبل النساء قد ذهبت أكثر في هذا الاتجاه، خذ مثلًا روايات روزا ياسين حسن، سمر يزبك، مها حسن، ديمة ونوس، سوسن حسن وغيرهن من الروائيات اللواتي لاحظن هذا التغيّر روائيًا.
في الأشكال الأدبيّة يصعب على الآداب عامة أن تحقّق تغيّرات بنيويّة أصيلة خاصة حين نتحدث عن فترة قصيرة زمنيًا. بل إنّ هذه التأثيرات تظهر في الرواية السوريّة خاصة، وربما ستكون الرواية السوريّة نموذجًا للدراسة في هذا المجال مستقبلًا.
كسر المحظور السياسي، وهو الموقف الذي يظهر في الرواية المكتوبة من قبل روائيين يقطنون خارج سوريا، يمكن أن نلاحظ أيضًا تغيرًا جوهريًا في النظر إلى العديد من المشكلات التي كان يعاني منها المجتمع، ولا تقاربها الرواية إلّا من بعيد. التابو والممنوع والمحرّم في الحياة الاجتماعيّة وفي التوجهات الدينيّة. كما سوف يُلاحظ أنّ التنوع الكلامي، أو التعدّد الحواري بات أكثر حضورًا في النصوص، بعد أن استطاعت التخلّص من أمرين: الأول هو وطأة الأيديولوجيا، أو المواقف السياسيّة الحادة، والثاني هو الخشية والتخوف من تضارب الأفكار في النص، أو احتمال اشتباكها مع القوى الفاعلة في الواقع: المؤسسات السياسيّة والدينيّة والاجتماعيّة.
لعلّ كلّ ما أسلفناه من القول عن الرواية السوريّة يثبت أو يؤكد أن استقلاليّة الأدب النسبيّة، قد لا تظهر في جانب، ولا يمكن إلّا أن تتأثر وتتبدل في جانب آخر. ففي الأشكال الأدبيّة يصعب على الآداب عامة أن تحقّق تغيّرات بنيويّة أصيلة خاصة حين نتحدث عن فترة قصيرة زمنيًا. بل إنّ هذه التأثيرات تظهر في الرواية السوريّة خاصة، وربما ستكون الرواية السوريّة نموذجًا للدراسة في هذا المجال مستقبلًا، كما في مجال آخر هو الانقسام الحاصل بين الروائيين السوريين تجاه الأحداث الجارية، فمن بين الروائيين من لا يعترف بالثورة، وإذا كان لا يرى أن ما حدث هو ثورة بل مجرد إرهاب وتخريب، فإنّ هذا الفكر سوف ينعكس في المحتوى الذي تقدمه رواياته، وقد نكون أمام هذا الواقع في عدد من الروايات التي تصدر عن المؤسسات الثقافيّة الرسميّة، مثل وزارة الثقافة أو اتحاد الكتاب، ومن بينهم من يرى الواقع بغير الرؤية التي يراه بها روائي آخر ممن آمنوا بها، أو شاركوا في صناعتها.
في كلّ الأحوال فإنّ الكلام لا يزال عن الموضوع، أو عن مضامين الروايات، وعن مواقف الروائيين من الأحداث التي جرت هنا، وهي المواقف التي ستحدّد قيمة الأعمال الروائيّة الفكريّة والأخلاقيّة والإنسانيّة عامة، ومدى اقترابها من الحقيقة سواء تلك الحقيقة الواقعية أو تلك الحقيقة الفنيّة والتخيليّة. ومن الجليّ أنّ اختبار الزمن هو العامل الحاسم في تقدير القيمة الفنيّة التي ستكون فيها شهادة البقاء أو وثيقة الخروج، لأي عمل روائي، لا من عالم الفن وحده وحسب، بل من عالم الحق والعدالة والإنصاف وطموح البشر للعيش الكريم، وسيكون علينا جميعًا انتظار أحكامه العادلة.