ثمانية أعوام مضت على اعتقال صديقي وأستاذي دون أن يبرح مخيلتي، يأتيني في المنام بين ليلة وأخرى، يحدثني، يناقشني في قضايا المعتقلين... ثماني سنوات مضت ومازال "خليل" حاضراً بقوة، وكأن اعتقاله حدث للتو، لم أستطع أن أنساه حتى ولو ليوم واحد، كيف لي أن أنساه؟ وهو الذي فتح لي قلبه قبل مكتبه، وألحّ عليّ وشجعني لأكون محامياً مثله، وساعدني خلال فترة التدريب في مكتبه، ولم يبخل عليّ بعلمه وخبرته، كان يُعاملني كشريك له، وعندما نلتُ لقب أستاذ في المحاماة، لم أستطع الفكاك عنه، فبقيت في مكتبه، وتقاسمنا معاً العمل في المكتب.
كان له الفضل في انخراطي بقضايا الدفاع عن حقوق الانسان وحرياته حتى قبل أن أتدرب في مكتبه بسنوات عديدة، حدث ذلك على ما أذكر في إحدى ليالي صيف 1992 عندما طلبَ منّي أن أرافقه إلى مكتبه القريب من ساحة الشهبندر بدمشق لكتابة مذكرة دفاع عن عشرة معتقلين اتهموا بتشكيل "لجنة الدفاع عن حقوق الإنسان في سوريا"، كان يتلو عليّ نص المذكرة، وأنا أخطها حرفاً حرفاً، وكلمة كلمة، على آلة كاتبة يدوية صغيرة، وأصابعي ترتجف من الخوف مع كلّ كلمة كنتُ أخطها لما فيها من جرأة غير معهودة لم يسبق لي سماعها أو قراءتها، ومع الوقت تلاشى الخوف رويداً رويداً، واندمجت كلياً في روح تلك المذكرة التي فتحت عيوني وعقلي على ما يعانيه أصحاب الرأي الحر والكلمة الحرة في سجون الأسد الأب.
وبعد انتقال مكتبه إلى "حيّ الدويلعة" القريب من باب شرقي، بدأت أتردّد إلى مكتبه يومياً بحكم قربه لمكان سكني الذي لم يكن يبعد أكثر من ثلاثين متراً، وخلال زيارتي المتكرّرة لمكتبه كان "خليل" يُطلعني على بعض قضايا معتقلي الرأي والضمير التي كان يتولىّ الدفاع عنهم أمام محكمة أمن الدولة العليا سيئة الصيت، حيث لفت انتباهي ذلك العدد الكبير من المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي والضمير الذين كان يدافع عنهم: معتقلات ومعتقلين سوريين/ات ينتمون/ينتمين إلى مختلف التيارات السياسية والإثنية، عرباً وأكراداً وأرمن وأشوريين/يات، مسيحيون/يات ومسلمون/ات، شيوعيين/ات وناصريين/ات وإسلاميين/ات وبعثيين/ات ونشطاء/ ناشطات حقوق إنسان، ومن جنسيات عربية فلسطينية ولبنانية وأردنية وعراقية..
بعد موت حافظ الأسد وتوريث ابنه كرسي الحكم في عام 2001، انتشرت المنتديات السياسية في مختلف المحافظات السورية فيما بات يُعرف "بربيع دمشق"، كان أبرزها في دمشق "منتدى جمال الأتاسي للحوار الديمقراطي"، ومنتدى الحوار الوطني للنائب السابق رياض سيف و"مركز حقوق الإنسان" الذي أنشأه الأستاذ خليل معتوق في منزله. هذا الأمر لم يرق للسلطة الحاكمة التي أمرت إغلاقها جميعاً باستثناء منتدى "جمال الأتاسي" الذي أغلق في العام 2005. وترافقت عملية إغلاق المنتديات بشن حملة اعتقالات غير مسبوقة طالت أبرز نشطاء المجتمع المدني ومنهم الدكتور عارف دليلة والأستاذ حبيب عيسى وفواز تللو، وتمت إحالتهم إلى محكمة أمن الدولة العليا التي أصدرت أحكاماً قاسية بحقهم، وقد تولىّ الدفاع عنهم ثلّة من المحامين والمحاميات، وفي مقدمتهم كان المحامون خليل معتوق وأنور البني وحسن عبد العظيم وهيثم المالح والمرحوم بهاء الركاض وإبراهيم ملكي ورزان زيتونة وفيصل بدر وأيضاً كاتب هذه السطور.
بعيدا عن العمل السياسي
في هذا الوقت أعلن الأستاذ خليل معتوق انسحابه من الحزب الشيوعي واعتزاله العمل السياسي نهائياً وتفرّغه تماماً للدفاع عن حقوق الإنسان بعيداً عن أي عمل سياسي، حيث كان يشعر أنّ اشتغاله بالسياسة سوف يضعف من حماسته في الدفاع عن حقوق الإنسان السوري، وبالتالي سيضعف من استقلالية موقفه، وأذكر ما قاله حينها في تبرير قراره: "إن العمل في مجال حقوق الإنسان يجب أن يكون منزّهاً عن أي ميل أو هوى في السياسة لأي اتجاه كان". وقد لاقى موقفه هذا ترحيباً من نشطاء حقوق الانسان داخل سوريا وخارجها، لأنّ من شأن ذلك، أن يعزّز من صدقية عمل المدافعين عن حقوق الإنسان في سوريا ويدعم موقفهم ويمنحهم القوة أيضاً.
خليل معتوق: "إن العمل في مجال حقوق الإنسان يجب أن يكون منزّهاً عن أي ميل أو هوى في السياسة لأي اتجاه كان".
ولم يتأخر "خليل معتوق" بالتعاون مع زملائه المحامين للدفاع عن مجموعة معتقلي إعلان دمشق بيروت- بيروت دمشق، وفي مقدمهم المحامي الأستاذ أنور البني وميشيل كيلو ومحمود عيسى وحسين خليل وسليمان الشمر، هذا الإعلان الذي دعا إلى إعادة تصحيح العلاقات بين سوريا ولبنان. وبينما نحن منشغلون بالدفاع عنهم، شنّت المخابرات السورية حملة اعتقالات واسعة طالت عدداً كبيراً من قيادة التجمع الوطني لإعلان دمشق إثر اجتماع عقدوه في دمشق، من بينهم د. وليد البني، محمد حجي درويش، أكرم البني، رياض سيف، فايز سارة، د. طلال أبو دان، علي العبد الله، مروان العش ياسر تيسير العيتي، جبر الشوفي، أحمد صالح الخضر، الشهيد مشعل تمو... وأذكر أن الأستاذ خليل معتوق بذل حينها جهوداً مضنية لتنظيم عملية الدفاع عنهم مع عدد كبير من المحامين/ات الذين تطوعوا/ن للدفاع عنهم من مختلف المحافظات السورية.
الثورة والاعتقال
ومع بداية الثورة السورية في أذار 2011 ازدادت الضغوط على هيئة الدفاع عن معتقلي الرأي والضمير نتيجة اشتداد الحملات الأمنية التي طالت المئات من السوريات والسوريين الذين كان يتم اعتقالهم يومياً على خلفية التظاهرات والاعتصامات التي كانت تشهدها البلاد. ورغم المرض الذي ألمّ بالأستاذ خليل معتوق، إلا أنّ ذلك لم يمنعه من متابعة جهوده بالدفاع عن المعتقلين مع زملائه، واستمرّ الأمر على هذه الحال حتى تاريخ 2/10/2012، عندما فوجئنا بخبر اعتقاله مع صديقه، محمد ظاظا، بعد خروجه من منزله بصحنايا باتجاه مكتبه في حي البرامكة بدمشق، ليتحوّل من مدافع عن المعتقلين إلى معتقل يحتاج إلى من يدافع عنه.
إن الحديث عن اعتقال صديقي وأستاذي المحامي خليل معتوق لا ينفصل أبداً عن المأساة السورية المتواصلة على امتداد الأراضي السورية المستمرة منذ أن اغتصب عسكريو البعث الحكم في سوريا، هذه المأساة التي وصلت خلال حكم الديكتاتور بشار الأسد إلى مستويات مرعبة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً. كما لا ينفصل الحديث عن مأساة عشرات الآلاف من المعتقلين في سجون الأسد الذين سعى "خليل" نفسه وبرغم مرضه للدفاع عنهم بكل قوة حتى لحظة اعتقاله.
خليل معتوق هذا المحامي الإنسان، أصبح اليوم يمثّل ضمير كل سوريّة وسوري وكل إنسان يتطلع نحو الكرامة والحرية، هذا الإنسان الذي انحاز منذ نعومة أظفاره للدفاع عن المظلومين والمضطهدين. إنه بحق "أيقونة الحق والشجاعة في مهنة المحاماة والدفاع عن حقوق المظلومين"، كما وصفته الكاتبة الدكتورة هيفاء بيطار في إحدى مقالاتها.
يمثّل ضمير كل سوريّة وسوري وكل إنسان يتطلع نحو الكرامة والحرية، هذا الإنسان الذي انحاز منذ نعومة أظفاره للدفاع عن المظلومين والمضطهدين.
لقد سعينا وما زلنا نسعى جهدنا لمعرفة مكان اعتقاله ورفيقه أو على الأقل معرفة ظروف وأسباب اعتقالهما دون جدوى في ظلّ إصرار الأسد التكتم على مسألة اعتقالهما ورفض الإفصاح عن أيّة معلومة عنهما كما هو حال عشرات الآلاف من السوريين والسوريات الذين يرزحون في أقبية وزنازين المخابرات السورية، في الوقت الذي لم يجد فيه نظام الأسد أي حرجٍ في إطلاق سراح من أجرم بحق الشعب السوري!!
إن قضية المعتقلين والمختفين قسرياً في سجون الطاغية بشار الأسد والميلشيات المسلحة هي الأشد إيلاماً في المأساة السورية، ويجب ألا تغيب عن بالنا واهتمامنا كأولوية في مسار حل القضية السورية ككل.
ويجب ألا نكفّ عن حملات المناصرة والضغط حتى إطلاق سراحهم جميعاً، وأنّ نملأ الدنيا صراخًا لأجلهم، فهم الذين دفعوا ومازالوا يدفعون في كل لحظة، أثماناً باهظة من حريتهم لكي ننعم بالحرّية ومن حياتهم لكي نحيا. ولا يجب أن يتوقف صراخنا حتى تتحرّر كل المعتقلات والمعتقلين ويتحرّر معهم كل السوريات والسوريين من جحيم الأسد والميلشيات المسلحة.