(هذا المقال جزء من سلسلة مقالات عن التصوير السوري والمصورين السوريين. بتمويل من مؤسسة فريدريش ناومان من أجل الحرية)
بدأت لأول مرة في حلب في منطقة سيف الدولة (نيسان 2014) بإطلاق النموذج البدائي للطائرة المسيّرة، والتي كانت تحمل كاميرا منفصلة، وبدقة ليست بالمستوى العالي. كانت المرة الأولى تجربةً صعبة وسقطت الطائرة لكني استطعت أن أعيدها دون أن أخسرها، إن قيمتها عالية ولا أستطيع احتمال كلفة إصلاحها أو استبدالها، كانت أغلى شيء أملكه. رؤية الأبنية المصفوفة المدمرة من السماء في المرة الأولى جعلتني مذهولاً، فحجم المأساة ليست كما يصفها من يراها من الأرض. وفي مناطق صعبة الوصول كخطوط النار، كانت الأبنية كما رأيتها من السماء أشبه "بكومات" حجار وتراب.
امتلكت الخبرة الجيدة من خلال التجارب، وأصبحت أحلّق كلّما سنح لي هدوء الرياح وهدوء القذائف والطائرات، لأنه من الصعب التحليق في أجواء غائمةٍ أو ماطرةٍ أو في ظل وجود رياح قوية. وأيضاً الوقوف في مكانٍ مكشوف يجعلني عرضةً لقذيفةٍ أو صاروخ طائرة. خلال معارك فك الحصار عن مدينة حلب، كانت المدينة مغطاة بسحابة من الدخان بسبب حرق الإطارات لحجب القليل من الأنظار عن المدينة وتضليل طيران النظام والطائرات الروسية.
كل المشاهد لها زوايا متعدّدة، رؤيتنا من الأرض مختلفة تمام الاختلاف عن رؤيتنا من السماء. هذا دوار باب الحديد، يسار الصورة هناك قلعة حلب ويمينها شارع أقيول، كان الدوار مكشوفاً من قناص قلعة حلب الذي كان يستهدف السيارات المارة وسكان الحي إلى أن رُفع على الأبنية هياكل معدنية لباصات نقل داخلي احترقت بسبب القصف العنيف الذي شهدته المدينة سابقاً. وظيفة هذه الهياكل حجب رؤية قناص قلعة حلب حتى يتمكن سكان الحي من الخروج إلى الشوارع بأمان. كان استخدام القماش كستائر شائعاً لحجب رؤية القناص. إلا أنّ قناصة النظام في كثير من الأوقات، تعمّدوا إحراق الستائر القماشية عبر استهدافها بطلقات حارقة، فكانت فكرة الباصات التي انتشرت في أحياء المدينة، لم يكن من السهل رفعها بهذا الشكل لكن الحاجة والموت جعلت كل شيء ممكنا.
هنا في حي الميسر الشرقي المتاخم لمطار حلب الدولي ومطار النيرب العسكري. منذ تحرير المدينة كان الحي الهدف الأول لمدافع وطائرات النظام الذي استهدفه آلاف المرات وحوّله إلى حيٍ مهجور. هناك أحياء استراحت بين الفترة والأخرى من الهجمات وعاد إليها سكانها. أما هذا الحي فلم يسترح على الإطلاق من تلك الهجمات، كنت أزوره بين الحين والآخر وأرى دماره إلى أن قرّرت أن أوثقه بالطائرة عام 2016 خلال الحصار الأول لمدينة حلب. المشهد كان مهولاً، حجم الدمار لايمكن أن يوصف أو أن يُقدّر من الأرض كما الحال من السماء. الحي فقد أغلب معالمه، وبقي كأثرٍ شاهد على الوحشية. الأنقاض لم تُرفع من أغلب شوارع الحي خلال فترة التحرير لكثرتها وتكرار تراكمها نتيجة القصف المستمر.
على الرغم من القيمة الكبيرة لهذه الأحياء القديمة حيث كانت أصولنا وتراثنا عميقة الجذور، إلا أنها لم تسلم من قصف الدبابات والطائرات. منذ الأيام الأولى للتحرير في قلعة حلب المحتلة، والتي حوّلها النظام إلى ثكنة عسكرية، دمرت أحياء المدينة القديمة، وأصبحت المنازل غير صالحة للسكن بسبب انكشافها. كانت البيوت العربية على وجه التحديد أقل أمانًا من المباني العالية. إلى جانب ذلك، تعرضت العديد من الشوارع لقناصة قلعة حلب. خلال زيارتي، رأيت فقط بعض العائلات تقف على أرضها. يظهر في الصورة مسجد الميدان الأثري ذو الطابع المملوكي. وقد دمر معظم بنائه جرّاء القصف.
قاومت الأحياء حتى نهاية عام 2016، وأجبر النظام أكثر من 300 ألف شخص ممن بقوا خلال أشهر الحصار الكبير على مغادرة أحيائهم، إما قسرًا إلى مناطق سيطرة النظام أو عن طيب خاطر إلى المجهول. حاول الجميع الصمود، لكن الوحشية التي شهدناها كانت أقوى من القدرة على البقاء.