يمشي على مهل متفقداً ما أنجز من دمار، متبخترا مع عقيلته وهو يرسم على وجهه ضحكة تشوّه الوجود.
"نعم هنا قتلنا وأشعنا البغض ونثرنا الأشلاء. هنا جربنا طرقا مختلفة من القتل، منها الغاز الذي نهب أحلام وأعمار الأطفال". يضحك مع زوجته وهو يشير الى بيوت كانت تضمّ أرواحاً وعائلات ومستقبلاً حاول الانبلاج، لكنه مسحها بلمح البصر، هكذا بإشارة صغيرة منه.
يضحك ويقول مستهزئا: "إنهم ملكي، وأنا لي القرار في حياتهم وموتهم. نعم هي مدن الصناديق التي أنظر إليها من الأعلى. وحين لا يعجبني ذاك النسق من الأبنية فليذهب إلى الجحيم بمن فيه". يضحك ويهمس في أذنها: أنظري كم هم خانعون وقد جعلت الذل عادة لديهم، هم أناس لا يمكن احتمالهم حتى في ولائهم، فمن لم يمت بالقذائف والرصاص، سنقتله جوعاً، وكمداً على أطفاله وعائلته. سيختارون ما أرى، وما أريد، وما أرغب بالتأكيد، لا لن يختاروا وإنما سيفعلون ما يؤمرون به.
هي تلك اللوحة الفنيّة من ضمن مجموعته التي يسودها احمرار القتل وسواد الكره، وتراكم الحقد. نكاد لا نصدق أن بشراً يستطيع تشكيلها، كيف يتباهى القاتل بجريمته؟ كيف يجبر الضحايا على الانصياع والاستسلام لما فعله بهم؟ أو.. كيف يسوقهم إلى مذبحة يليها الامتهان وهم صاغرون؟
يعود بالمجتمع البشري إلى بدائيته، يعلن أنه المسيطر ولن يقف في وجهه أحد، ومن يفعل بعد كل هذا الفتك؟ فعلياً لم يتبق أحد. يعي تماماً أنّه ليس الأقوى، لكنه يستعين بالكثرة على الشجاعة، وبالخديعة والكذب. هو يشيع جواً موبوءاً بالمقت والإذعان. يقف بينهم ويلقي بكلماته الجزافية ولا يملك مَن حوله إلا التصفيق والإعجاب، متواطئين أو مرغمين، فالمهم أن يلقى التقديس الذي يستحقه، الإكبار الذي يجده في ركل جثث الأطفال والنساء، والتعالي فوق عذابات الناس ومعاناتهم، مرخياً على حياتهم قهراً وحرمان.
هو الواحد ولا سواه، ينطق بما لم ينطق به مخلوق من قبل! يشرح الواضح من الأشياء جميعها، يفسّر المفسّر، يلقي بتعليماته متوعّداً، ويكمل أسطوانة الصمود والانتصار. نعم لقد انتصر، فقد نجح في تشبثه بالحكم وليس من الضروري أو المهم اعتراف أحدهم بهذا، لا بل من المهم أن لا يكون مقبولاً لأحد. هو لم يعتد أن يُرضي أحد سوى من كان سبباً لبقائه في سدّة الحكم. أما هؤلاء الرعاع تحت جناحه، فهو ليس بحاجة إلا لخضوعهم وتقبّلهم ظلماً يكيله لهم كل يوم وساعة.
نعم لقد انتصر، فقد نجح في تشبثه بالحكم وليس من الضروري أو المهم اعتراف أحدهم بهذا، لا بل من المهم أن لا يكون مقبولاً لأحد
يعظهم دائماً لئلا يغيب عن بالهم تسيّده وجبروته، وتكون عظاته مبطنة بوعيد لا يخفى على أحد. لا نعرف عن أسماء أمراضه الكثيرة، لكن ليس أولها ساديةُ الاستمتاع بالعذاب والأنين والظلم، ولن يكون آخرها شيزوفرينيا جنون العظمة، حيث هو ولا سواه من يستطيع أن يكون كفؤاً في كل شيء، وكل ما عداه هم له سدن، نعم هو أو لا أحد.
لزوجته مظهر جميل يخفي في ثناياه تلك الشراسة الغير واضحة المعالم. شكل هلامي مسموم ينساب عبر شقوق الوجع، يفاقمها، لم تمر بجرح للناس إلا وألهبت فيه قروحاً والتهابات. يشعر من يقابلها بوطأة ضباب ثقيل، هو مزيج من ذاك التناقض في كلمات الأمل الصادرة عن تعابير جامدة، متركّزة بنظرة متفحصّة تنمّ عن معنى كامن ينضح بمجهوليّة النوايا، وذاك الإحساس بالسطوة العمياء في إصابتها لحيز غير معلوم. ولعل الحكم القاسي بما يخصّها نابع عن مشاركتها الحكم على نحو غير خفي، يتوضّح ذلك في النشاطات والجمعيات والاجتماعات وإلقاء المواعظ والتعليمات.
في انعدام مبررات استحقاق القيادة على أساس منطقي أو عقلاني، يتم اعتماد النهج التقليدي في الصمود أمام المؤامرات العالمية، والتي تستهدف البلاد بشخص القائد، لا بل تحقيقه الانتصار تلو الآخر على قوى عظمى، والذي يتمثّل بالبقاء حاكماً. وكذلك تحقيق النصر على قوى داخلية تحاول النيل من المجتمع والناس بشخصه، هو ذات المبرر لإحكام سطوة أمنية تقمع وتهدد وتبتلي الناس في كل نواحي حياتهم وتضرب بيد من حديد. كم سمعنا عن الظلم والهوان والمعتقلات والتعذيب؟ كم يتربصون بالبسطاء والضعفاء، وكل يريد أن يحيا كانسان، أو يفكر؟
إطلاق اليد بدون أيّ رادع، وبالأخص الأخلاقي، يمنح العته شكلاً بهيميا، ولابد أن يكون الناس له من الشاكرين على سحقهم واستبداده بهم، بل لا بد أن يشعروا بالإجلال لئلا يبطش بهم فوق بطشه ذاك. نعم لقد نافس أعتى المفكرين والفلاسفة في سعيهم لإثبات أن مفاهيم الانسانية تتجلّى بالقيم الأخلاقية التي تسعى إليها المجتمعات لتعلو إلى مقام الحضارة. لقد قلب المعادلة الانسانية رأساً على عقب وأعمل بالقيم القتل تلو الاقصاء ليبقى. هو يضع المدن والناس على الطاولة أمامه ويلعب مع زوجته كإله النّرد، يضحكون لسوء حظ من وقع عليه الاختيار لرفعه عن الرقعة نهائياً. لا يهم كم الدماء التي ستهرق، أو الأرواح التي ستزهق. هي لعبة يتسلّى بها مع زوجه لإمضاء الوقت فقط، وإتمام مهمّة لعبة الحكم، ولا يملّ منها أبداً، دائماً لابد من ضحايا، فلا يوجد سهولة أو تساهل في القيادة.
لا يهم كم الدماء التي ستهرق، أو الأرواح التي ستزهق. هي لعبة يتسلّى بها مع زوجه لإمضاء الوقت فقط، وإتمام مهمّة لعبة الحكم، ولا يملّ منها أبداً، دائماً لابد من ضحايا، فلا يوجد سهولة أو تساهل في القيادة.
كان والده يمارس الحكم بجدّيّة، لم يره أحد يضحك إلا ماندر بابتسامة فيها الوعيد والتهديد، وتنم عن مكنون الحقد واستنفار العداء لأي نمط لم يعهده، أو لم يكن في الحسبان. كان رصيناً في قتله، واضحاً في استهدافه أعدائه من المثقفين والثوريين، وكذلك البسطاء المطالبين بالحرية والكرامة والعيش بسلام. حاصرهم وأشار عليهم بوضوح، وأعمل فيهم القتل والتدمير بكلّ صلابة. أما هو، فينظر لصورة والده ويضحك قائلاً: "لا ياأبي ما هكذا تورد جموع الشعب، الجميع هو عدو أو تابع أو أداة، لا وضوح للصورة ولا ثبات، الكل مشكوك بأمره ولا أمان لأحد، ولن يبق سواي وسأعيد شريط القتل دائماً لئلا يكون لي أحد بالمرصاد".
في إعلان النصر على الضحية في معقل قتلها، شيء ما يستنفر الإنسانية جمعاء على نحو عام كما على نحو خاص، إذ كيف يتهادى المجرم بين أجساد ضحاياه مبتسماً وكأن حفل الصيد انتهى كما أراد؟ أم هي رياضة يمارسها ويستمر في احترافها دون أن يخفي رحمته بالمهللين من الضحايا، فقط لأنه تم تأجيل صيدهم إلى جولة أخرى؟