لا بدّ لكلّ عاقل حصيف مستبصر في الآليات الداخليّة التي تحوّر أدمغة ووعي أبناء الشعب الواحد، وتحولهم إلى متقاتلين في صراع ذي ناتج صفري لكلّ المنخرطين فيه، كما هو الحال في العديد من الصراعات الأهليّة والحروب المذهبيّة والطائفيّة في غير موضع عربي جغرافيًا وتاريخيًا، قد يكون أكثرها علقميّة جلجلة الشعب السوري المظلوم المكلوم، من التفريق بين مجموعتين أساسيتيّن، الأولى هي عديد البشر من المفقرين المهمشين الذين يتم تحويلهم إلى جنود ووقود لتلك الحروب الوظيفيّة، والثانية هي الفئات المستفيدة من تلك الحروب، سواء كانت القوى الرأسماليّة المعولمة الكبرى، ممثلة بجيوش وأجهزة استخبارات دولها، أو عبر نواطيرها المفوضين بتنفيذ إرادات أولياء أمورهم في المنطقة العربيّة.
فيما يخص المجموعة الأولى، فإنّ ظروفها الموضوعيّة التي يتم حشرها فيها، ظروف تنطوي كلّها تحت مظلة الخوف المقيم، والشدّة النفسيّة التي لا تبارح وجدان من حلّت في خاطره وعقله و جنانه، بالتوازي مع عمليات تنميط عقائدي ممنهج تهدف إلى "غسيل أدمغة" أولئك الأفراد، للاعتقاد بأنّ "معركتهم الوجوديّة الوحيدة" هي مع "أولئك الآخرين الأعداء" الذين لا مخرج للصراع معهم سوى "كغالب أو مغلوب"، حتى وإن تصادف كونهم في أيام غير بعيدة شركاء في المجتمع والوطن الافتراضي، في سير "جهادي قويم" على دأب قابيل في علاقته مع قتيله وشقيقه هابيل.
من الناحية البيولوجيّة النفسيّة، فإنّ الزناد القادح لكبح كلّ آليات العقل العاقل وقشرة الدماغ الجديد القادرة على التفكر والتحليل والمحاكمة المنطقيّة واتخاذ القرارات الصائبة و"الحكيمة" هو وضع صاحبها في ظرفي الخوف والشدة النفسيّة، إذ يقتضي ذلك تفعيل آليات الحفاظ على النوع البدائيّة، خاصة تلك الموجودة في الدماغ القديم للبشر، وأعني بالتدقيق هنا تلك البنى التشريحيّة الموجودة في منطقة اللوزة الدماغيّة Amygdala، والتي تعمل بآليات بدائيّة فطرية تقتضي إمّا "الصراع أو الهروب" في وقت الملمات، وتقتضي تبسيط آليات المحاكمة والاستناد إلى آليّة نفسيّة بدائيّة أخرى تُدعى "التصنيف التبسيطي"، والتي تبدو حاجة ملحّة في ظرف الصراع، لاختلاق مجموعة تصنيفيّة مبسطة يتم حشر كلّ "الأعداء" فيها، حيث أنّ الدماغ القديم أو ما يدعوه بعض العلماء "دماغ السحالي" المسؤول عن الآليات السلوكيّة الأساسيّة لحفظ النوع غير قادر على أيّ محاكمة منطقيّة معقدة، وهو بحاجة إلى معطيات مبسطة، ليتخذ بناء عليها قراراته ذات الطابع "الارتكاسي الانفعالي" في كثير من الأحيان "للصراع مع ذلك الآخر"، والذي يتخذ شكلًا مريعًا من العنف والهمجيّة والوحشيّة في غالب الأحيان، خاصة مع تعقد آليات القتل والتعذيب والإفناء التي وصل إليها البشر في عالمنا المعاصر.
إنّ الزناد القادح لكبح كل آليات العقل العاقل وقشرة الدماغ الجديد القادرة على التفكر والتحليل والمحاكمة المنطقية واتخاذ القرارات الصائبة و"الحكيمة" هو وضع صاحبها في ظرفي الخوف والشدّة النفسيّة، إذ يقتضي ذلك تفعيل آليات الحفاظ على النوع البدائيّة.
التوصيف السالف الذكر لا يعني تبرئة لأفعال أولئك الجنود المتقاتلين في الصراعات والحروب الأهليّة والمذهبيّة والطائفيّة في أيّ مكان من أرجاء الأرضين من الجرائم التي يقترفونها، وإنّما محاولة لمقاربة الخيارات المحدودة المتاحة لهم في سياق ما اختطه لهم بشكل عقلاني مبرمج عن سبق الإصرار والترصد من مكاتبهم الفارهة تنفيذيو المجموعة الثانية الآنفة الذكر، و أعني بها لزيادة الإفصاح فئة أمراء صناعة الاقتتال الأهلي والمتكسبين من سيل دمائه، والتي لا يعاني أيّ من أفرادها من هول "الخوف الداهم" و"الشدّة النفسية الماحقة" التي تذري كلّ قدرات الدماغ الجديد الكامن في الفص الجبهي Prefrontal Cortex في أدمغة بني البشر الذي يميزهم عن باقي أقرانهم في مملكة الحيوانات، والذي يعمل بكلّ طاقاته عند أولئك الأفراد للتخطيط والتنفيذ والبرمجة لتلك "الأفعال الشيطانيّة" في قيادة أبناء الشعب والمجتمع الواحد لقتل بعضهم بعضًا، لتحقيق مكاسب وأهداف متسقة مع خططهم المغرقة في ذرائعيتها المخاتلة تكتيكيًا و استراتيجيًا.
من الناحية الأخلاقيّة والقانونيّة العادلة فقد يستقيم القول بأنّ المسبب الحقيقي لتلك النماذج المهولة من الصراعات هو المجموعة الثانية سالفة الذكر، والتي لا بدّ من تحميلها الوزر "الكلياني" لأفعالها "الشيطانيّة"، واعتبار أفراد المجموعة الأولى التي أشرنا إليها سالفًا في عداد ضحاياها غير المباشرين، الذين لم يترك لهم من خيار سوى "الانغماس" في مفاعيل ذلك الوزر "ورجسه الخبيث".
* تعبر المادة عن رأي كاتبها، وليس بالضرورة عن وجهة نظر موقع حكاية ما انحكت.