تأخرت قليلاً في قراءة كتاب "أليجيتر وقصص أخرى" (Alligator and Other Stories)، وهي مجموعة قصصيّة من تأليف ديما الزيّات صدرت في النصف الأول من العام 2020، أي في الوقت الذي بدأ فيه الوباء بالانتشار.
صادفت الكتاب للمرة الأولى في شهر كانون الثاني من العام 2022 في مكتبة ما في بيروت. بعد عامين من العيش في عدد من الإغلاقات المتعلّقة بانتشار الوباء، وبعد الانهيار الاقتصادي في البلاد، وبعد انفجار الميناء وما عقبه من أحداث، بدا أنّ الشعور بالوحدة وعدم الاستقرار الذي وجدته في مجموعة الزيّات القصصيّة قد لمست شيئًا ما بداخلي. أختٌ مُحبّة تغسل جسد أخيها الميت قبل دفنه، ثلاثة فتيان يكافحون من أجل ترفيه أنفسهم في صيف ما من سبعينيات القرن الماضي في مدينة نيويورك، فيما خاطف شهير سيء السمعة طليق خارج مبنى بيتهم، أفراد عائلة تتصارع مع المجتمع المحيط بها بسبب إعدام زوجين سورييين أمريكيين في عشرينيات القرن العشرين في فلوريدا، امرأة سوريّة مُسنّة منفيّة بسبب الحرب تلقي محاضرة على حفيدة أختها حول "معنى أن تكون سوريّة"، فقط بهدف التنقيب عن صدمة (تراوما) مدفونة بعمق خلال كلّ تلك السنوات. شخصيّات المجموعة القصصيّة تخفي ذواتها الحقيقيّة وتتنقّل بين الهويّات غير الواضحة، حيث يبدو أنّها لا تتلاءم تمامًا مع محيطها. على الرغم من الجذور، لكن يبدو أنّها في بعض الأحيان شظايا خافتة عمّا كانت عليه من قبل.
أخبرتني ديما في مكالمتنا عبر تطبيق زووم، من منزلها في لوس أنجلوس: "أحد الأشياء التي أحاول القيام بها في هذه المجموعة القصصيّة هو إظهار كلّ الطرق المختلفة لتكوني عربيّة أو أمريكيّة-عربيّة". على الرغم من أنّ الزيّات وُلدت وأمضت طفولتها المبكرة في دمشق، لكنّها نشأت وترعرعت في سان خوسيه/ كاليفورنيا، وعملت لاحقًا في صناعة السينما ثمّ في الصحافة. "لقد غادرتُ دمشق عندما كنت في السابعة من عمري، والذكريات التي أمتلكها مدفوعة بالأحاسيس، لأنّني كنت صغيرة جدًا". تتذكر كعكات أعياد الميلاد التي كان يبيعها خبّاز محلي، وصنع أشياء من الورق المقوى، وزيارة الجيران لبعضهم البعض في شارع صغير.
توجد تفاصيل قليلة مثل هذه مبعثرة في جميع قصص مجموعتها، غالبًا ما تكون إشارات إلى الخلفيّات الشخصيّة المُعقّدة لشخصياتها: تسجيلات فيروز، مصحف، مقال مدرسي. ثمّ هناك الأجزاء والخبرات التي لا تزال غير ملموسة: امرأة شابة تفضّل عدم الكشف عن تفاصيل حول خلفيتها حين يشارك زملاؤها في العمل وجهات نظر عنصريّة عن العرب، وصمت امرأة أخرى على مدى عقود حول صدماتها (التراوما) الشخصيّة بعد أن عاشت معظم حياتها ضمن حدود دولة بوليسيّة.
في هذا الحوار، تحدثت مع ديما عن أصل الإلهام الذي دفعها لكتابة مجموعتها القصصيّة، بالإضافة إلى قصتها الخاصة. كيف تعاملت مع الأمريكانيّة (مهما يعني ذلك) وعن الأمريكانيّة، وعن كيفيّة تشابك هذه النضالات مع كتاباتها وكيف الخروج منها.
تمّ تحرير هذه المحادثة بشكل طفيف من أجل سلاسة القراءة.
لقد ولدت في دمشق ولكنك نشأت في كاليفورنيا. هل يمكنك التحدث قليلاً عمّا كانت تبدو عليه طفولتك. كيف كانت قبل وبعد انتقالك إلى الولايات المتحدة؟ ما هي الأشياء والأماكن والمشاعر المحدّدة التي تأخذينها من تلك الفترة عندما تكتبين؟
غادرت دمشق عندما كنت في السابعة من عمري، والذكريات التي أملكها مدفوعة بالأحاسيس، لأنّني كنت صغيرة جدًا. أتذكر أنني كنت أعيش في حارة صغيرة، شارع صغير، حيث كان الجيران صاخبين دائمًا وكان الجميع يتحدثون مع بعضهم البعض. لعبنا كثيرًا خارج البيت. أتذكر الكثير من المرح والضحك. كان هناك مخبز في مكان قريب. كلّما جاء عيد ميلاد ما، كان الخبّاز يسير في الشارع حاملًا الكعكة التي أعدّها لحفلة ذلك الشخص، وكان يتبعه الكثير من الأطفال. أتذكر حين جاء موعد عيد ميلادي، تناولت كعكة بيضاء بالكامل ترصّعها نجوم وأقمار بيضاء، وبينما كان الخبّاز يحملها، عرفتُ أنّها لي، وأنّها ذاهبة إلى بيتي.
أتذكر أنّ الحارة كانت حيّة بهذه الطريقة، كثير من الناس يدخلون ويخرجون من المنازل. أعتقد أن هذا كان أكبر اختلاف بالنسبة إليّ عندما انتقلنا إلى الولايات المتحدة. كلّ شيء مغلق نوعًا ما. على الرغم من أن عائلة أمي كانت تعيش في شمال كاليفورنيا، حيث عشنا، فقد كان كلّ شيء هادئًا.
أفكر في طفولتي في منطقة ضواحي في الولايات المتحدة، كيف كان الهدوء سائدًا في الحيّ، وكيف كانت المنازل الفرديّة متباعدة عن بعضها البعض.
نعم. ومع ذلك، كلّما تقدمتُ في السن، كلّما أحببت أنّني نشأتُ في سان خوسيه. إنّها هادئة ومليئة بـ"الأُسر النواة" (العائلات الابتدائيّة)، مثل العديد من الأماكن الأمريكيّة، لكنها كانت متنوعة للغاية. ذهبت إلى المدرسة مع الكثير من الأطفال الذين كان آباؤهم من الجيل الأول من المهاجرين؛ لم يكن من الغريب التحدّث بلغة أخرى أو التحدّث إلى الآباء الذين لا يتحدثون الإنجليزيّة بشكل جيد أو يجلبون طعامًا غريبًا إلى المدرسة. لم أشعر حقًا بالغرابة لكوني سورية.
سؤالك كان أيضًا حول الأشياء. هناك شيء واحد أتذكره بقوة من تلك السنوات الأولى في سوريا وهو المدى الذي كان علينا أن نصنع فيه وسائل الترفيه الخاصة بنا. أتذكر أخي وأختي يصنعان ملابسًا صغيرة من الورق المقوى. كنا حقًا نتنافس حول هذا الموضوع. أعتقد أن والدي قد عاد إلى المنزل مرة مع بعض الورق المقوى الإضافي أو شيء من هذا القبيل، وكان لدى أخي نظرة فنيّة حقًا، وقد بدأ في صنع الأشياء من ذلك الورق المُقوّى. أتذكر أنّني كنت أرتدي أحذية من الورق المقوى. اجتمع جميع أطفال الحيّ ليحكموا على من صنع أفضل الأحذية. في ذلك الوقت، كان ذلك أروع شيء رأيته في حياتي، كما لو كانوا فنانين ذوو خبرة. عندما انتقلنا [إلى الولايات المتحدة]، توقف ذلك. أصبح الأمر يتعلق باللعب بالأشياء التي نشتريها.
تدور أحداث قصة "الاختفاء" في مدينة نيويورك في السبعينيات، بعد اختطاف صبي صغير. ثلاثة أولاد محصورون في مبنى شقتهم طوال الصيف لأنّ أمهاتهم يخفن من الخاطف، الذي ما يزال طليقًا. إحدى التفاصيل الصغيرة من القصة التي أحببتها حقًا كانت الأم التي كانت تغني أغنيات فيروز في المنزل. إنّه شيء صغير، لكنه يرسم المشهد بطريقة ماديّة للغاية بالنسبة لي. قرأت مؤخرًا "وداعًا بابل" (Bye Bye Babylon)، رواية مصوّرة لـ"لمياء زيادة" عن نشأتها في السبعينيات في بيروت. لقد أدهشني كيف أنّها تستخدم هذه التفاصيل الصغيرة مثل شعارات محل بقالة أو رسومات علب السجائر لتحكي لنا قصة غنيّة وذات معنى. كيف تختارين التفاصيل الصغيرة من حياتك اليوميّة أو من ملاحظاتك من أجل رسم هذه الشخصيّات النابضة بالحياة؟ ما هي الثقافة الماديّة التي تستمدين ذلك منها؟
في قصة "الاختفاء" تخيّلت أنّ هذه العائلة كانت في الولايات المتحدة لفترة طويلة، وأردت قصة لا تكون فيها عروبتهم محوريّة للغاية. أردت أن أظهر كيف يكون العرب أمريكيين بطرق غير واضحة. تلك القصة، كما تحدثنا عنها، تحمل لي هذه النبرة من الأمريكانيّة؛ ومع ذلك، فإن إدخال تفصيل أنّ هذه المرأة تستمع لفيروز، يجعل القرّاء يدركون أن هذه ليست، في الواقع، العائلة البيضاء التي ربّما كانوا قد افترضوها.
كانت فيروز أو أم كلثوم أو أسمهان، العظيمات، بالنسبة لي، أصواتًا مميزة في حياتي. الجميع يعرف تلك الأغاني. إذا اجتمعت مجموعة من النساء للرقص أو الغناء، فهؤلاء هنّ المغنيّات اللاتي استمعنا إليهن. كانت شخصيّة الأم في القصة تستمع لفيروز، ومن غيرها؟ هي أو أم كلثوم.
لقد فكرت كثيرًا أيضًا في التفاصيل التي لم تدخل في تلك القصة. في أيّ وقت ذهب أيّ فرد من عائلتي إلى سوريا، يعود/تعود [إلى الولايات المتحدة] حاملًا/ة حقائب مليئة بالجلابيات التي كانوا يوزعونها على جميع النساء في العائلة، وجميع صديقاتهن. لذلك تخيّلت الأم في هذه القصة وقد احتفظت بهذه الرموز الماديّة لكونها عربيّة. طريقة لبسها، الموسيقى التي استمعت إليها، وربّما الطعام الذي صنعته. تخيلتها تصنع الفاصولياء، أو تجلس، كما رأيت الكثير من أقاربي يجلسون ويقطعون نهايات حبّة الفاصولياء الخضراء، ويضعونها في مصفاة قبل أن يذهبوا لغسلها. بالنسبة لتلك الأم، وكونها من الجيل الثاني أو الثالث، فإنّ الأشياء الوحيدة التي لا تقول إنّها عربيّة هي تلك الأشياء الماديّة.
قلت في مقابلة سابقة إن قصة "الاختفاء" كانت لها نبرة من "الأمريكانيّة" استوعبتها أثناء نشأتك في كاليفورنيا. كيف تعرّفين الأمريكانيّة (Americana)؟
بينما كنت عالقة في منزلي، شاهدت مع أختي الصغرى الكثير من "نيك آت نايت" (Nick at Nite). وفي المساء، بثّت قناة نيكولودين (Nickelodeon) الكثير من البرامج الأمريكيّة الكلاسيكيّة مثل "ذا دايك فان ديك شو" (The Dick Van Dyke Show) و"ذا ماري تايلر مور شو" (The Mary Tyler Moore Show). كنا نراقبهم بقلق شديد. الآن بعد فوات الأوان، فهمت الكثير مما كان ينقص هذه القصص. لكن بالنسبة لي، كان هناك براءة ما لتلك الجماليّة بأكملها، شيء مثل النظرة اليوتوبيّة حول الولايات المتحدة.
في سرديّة "أوه، ألا نتمتع جميعًا بوقت ممتع بريء؟" كلّ شيء نقي. كلّ شيء ممكن، وكلّ شيء يتمحور حول رحلة فرديّة عبر شيء ما. هذا الصوت، بالنسبة لي، جاء من أشياء مثل "ذا ساند لوت" (The Sandlot) ، أو "حكاية عيد الميلاد" (A Christmas Story) أو في كل برامج "نيك آت نايت" (Nick at Nite) التي تبدو وكأنّها قد جُمّدت بشكل نوستاليجي في وقت ما في الولايات المتحدة، في الخمسينيات والستينيات، وربما أوائل السبعينيات.
عندما كنت أفكر في كيفيّة صياغة هذا السؤال، كنت أفكر أيضًا في ما تعنيه الأمريكانيّة بالضبط. هناك شيء واحد أتذكره وهو الاحتفاء بفكرة "أمريكا" دون التشكيك في الهياكل القائمة. الاحتفال بفكرة الشرطة، أو "القوات"، أو فطيرة التفاح في الرابع من تموز، وكلّها أفكار بريئة أو ساذجة.
نعم، وكانت هذه العروض موجودة في عصر جيم كرو، والتي لم يتحدثوا عنها أبدًا، وكأن حركة الحقوق المدنيّة غير موجودة. لذا فهم يمثلون مشكلة كبيرة وليسوا صادقين على الإطلاق. إنّها خرافات عن الكيفيّة التي ترى فيها أمريكا نفسها، وكيف رأت نفسها في ذلك الوقت.
ومع ذلك، كطفلة كانت تحاول فهم ماهيّة الولايات المتحدة وماذا يعني أن تكون أمريكيًة، كانت هذه العروض مُسكرة للغاية.
هل تعتقدين أنّ فكرة الأمريكانيّة تشمل قصصًا سوريّة أو عربيّة أمريكيّة؟
يا إلهي، بالطبع لا! لا أعتقد أنّ الأمر كذلك على الإطلاق. هناك مساحة صغيرة جدًا لغير البيض. الهويّة العربيّة الأمريكيّة في الولايات المتحدة غير مرئية حتى بشكل أكبر من الهويات الأخرى المُهمّشة. حين أتقدم لوظائف تقول إعلاناتها إنّهم يشجعوّن التنوع ويبحثون عن أشخاص من خلفيّات ممثلة تمثيلًا ناقصًا، لا أجد تصنيف العرب الأمريكيين في نموذج الطلب.
بالإضافة إلى ذلك، فإنّ هذه الهويّة قد تعقدت أكثر بسبب "الحرب على الإرهاب" والعدوان الأمريكي في الشرق الأوسط. يُنظر إلى العرب الأمريكيين على أنّهم تهديد، على أنّهم "أمريكيون مستحيلون". بالنسبة للعديد من الناس، فإنّ تصوّر الأصوات العربيّة الأمريكيّة على أنّها مُمثلة لأمريكا سيكون أمرًا مستحيلًا. ولكن هذا هو بالضبط المكان الذي أكتب فيه. أنا أمريكيّة جدًا، لكن هويتي السوريّة جزء كبير من فهمي للعالم ومن ما أكتبه. لا أعتقد أنّ هناك مكان لتلك الهويّة ضمن ما نعتقد أنّه "الأمريكانيّة". هذا ما أحاول صدّه.
تطرّق عدد من قصص هذه المجموعة إلى فكرة أنّ العرب الأمريكيين "يمرون" على أنهم بيض. في "فقط أولئك الذين يكافحون ينجحون"، تحتفظ لينا، الشابة المحترفة الطموحة، بخلفيتها لنفسها، عن قصد. وأحيانًا تُعرّف عائلة الرومي في "قرية أليجيتر" كزوجين أبيضين. لدي فضول حول كيفيّة تفكيرك في "الإنسان الأبيض" عندما تكتبين هذه الشخصيات.
خلال الموجة الأولى للهجرة من الدول العربيّة في مطلع القرن العشرين، كان على العرب في الولايات المتحدة أن يلجأوا إلى المحكمة ويثبتوا أنّهم من البيض، من أجل الحصول على الجنسيّة. لقد أدى هذا إلى علاقة مُعقّدة حقًا مع العرق. لكي ننتمي إلى هنا، يجب أن نكون بيضًا، مهما كان يعني ذلك. العرب الأمريكيون، كما تعلمين، ما زالوا يُصنفون على أنّهم "بيض" في التعداد.
لكنني لست مهتمة جدًا بالقصص المكتوبة من موقع الدفاع، والتي تظهر رغبة ملحة في إظهار: "انظروا إلى مدى جودة العرب"، أو "العرب أميركيون محترمون"، أو "نحن مثلكم تمامًا". هذه القصص تزعجني. أشعر أنّها موجّهة نحو جمهور لا يحترمنا على أيّ حال.
أنا مهتمة أكثر بالتفكير بشكل نقدي حول كيف يمكن أن يكون العرب الأمريكيون مذنبين بنفس السلوك الرهيب الذي يضطهدهم. في قصة "قرية أليجيتر"، كيف كانت رغبة عائلة الرومي في أن يكونوا بيضًا، وأن يُقبلوا في المجتمع وأن يكونوا جزءًا من قمع هيكلي أكبر تجاه الأمريكيين من أصل أفريقي؟ كيف يتناسب ذلك مع تاريخ الإبادة الجماعيّة ضدّ الأمريكيين الأصليين وكيف نفهم العرق في هذا البلد من البداية؟
كيف تعثرت لأول مرة بقصة عائلة الرومي؟ لماذا كان من المهم نسج قصتهم مع قصص الأمريكيين السود والشعوب الأصليّة في ما يعرف الآن بولاية فلوريدا الأمريكيّة؟
كنت أقوم ببحث لأطروحة دكتوراه حول الخيال العربي الأمريكي والعرق، ووجدت دراسة الحالة هذه للبروفيسورة سارة جوالتيري، التي ألّفت كتابًا رائعًا عن العرب الأمريكيين والبياض. لم أستطع التوقف عن التفكير في الأمر.
بالنسبة لي، كان من المدهش أن يُقتل هذا الزوجان السوريان الأمريكيان الأوائل على أيدي الشرطة وحشد من الغوغاء. لقد وجدت أنّه من المثير للاهتمام أنّه قد كُتب عنهما في التقارير الإخباريّة كشخصين أبيضين. ظللت أفكر أيضًا فيما حدث لأطفالهما، وما هي الهويّة الغريبة التي يمتلكونها. كانت هذه العائلة تحاول أن تصبح بيضاء ثم قُتل أبويهما لأنهما ليسا من البيض. أين يتركهم ذلك، وكيف يكبرون؟
ولكن بعد ذلك أدركت أن هناك شيئًا آخر يلعب دورًا هنا. هذه قصص فرديّة لكن صدمتهم ليست صدمة فرديّة. هذه هي صدمة للأمة بأكملها، حقًا. لا أعتقد أنّه يمكنني إزالة هذه القصة تمامًا من التاريخ. كيف يمكنك التحدث عن العنصريّة في الولايات المتحدة وعدم الحديث عن العنصريّة ضدّ السود؟ كيف يمكنك التحدث عن العنصريّة ضدّ السود وعدم الحديث عن الإبادة الجماعيّة للسكان الأصليين؟ كيف يمكننا التحدث عن فلوريدا وعدم ذكر من عاش في فلوريدا قبل أن يأتي أيّ من هؤلاء الأشخاص الآخرين إلى هنا؟ كنت أقوم بتقشير أزمنة مختلفة في التاريخ. كان كلّ شيء مرتبطًا ببعضه البعض. لا توجد طريقة للحديث عن أيّ من هذا بمعزل عن غيره.
في ثلاث من القصص، نلتقي بشخصيات اسمها زينب. أولاً، أخت تغسل جسد شقيقها لدفنه في قصة "الغسل"، ثم عمّة تبدو وحيدة على ما يبدو في قصة "بنات مناة"، وأخيراً زميلة الطفولة التي تلعب دورًا محوريًا في قصة "مرّة كنّا سوريين". لقد قلت من قبل أن تكرار استخدامك لاسم زينب خلال المجموعة كان عرضيًا، لكنه أصبح موضوعًا قرّرت الاحتفاظ به. هل فكرت أكثر فيما يعنيه هذا الاسم بالنسبة لك؟ بالنسبة لي، فقد جعلني أتخيّل القليل من الروابط بين أكوان الشخصيّات المختلفة. ظللت ألتقي بكلّ من هؤلاء الزينبات المفقودات والمنفصلات في نقاط انعطاف عشوائيّة مختلفة في حيواتهن.
أحد الأشياء التي أحاول القيام بها في المجموعة هو إظهار كلّ الطرق المختلفة لتكوني عربيّة أو عربيّة أمريكيّة. إنّها طريقة مختصرة للغاية لتصوّر النساء العربيّات في الولايات المتحدة، وآمل أن يسحب ما أكتبه البساط من تحت "تلك الروايات". لذا فإنّ هذا التكرار يعكس ما كنتُ أحاول القيام به: قد تكون هذه زينب، وقد تكون تلك زينب، ويمكن أن تكون هذه الأخرى هي زينب- يمكن أن تكون هذه امرأة عربيّة، وقد تكون تلك امرأة عربيّة. هناك تعاطف ما في هذا. إذا كان من الممكن أن أكون زينب من القصة الأولى، أو زينب في القصة الثانية أو القصة الثالثة، فعندئذ يمكنني أن أضع نفسي في موضع تلك النسوة المختلفات.
ليس هناك الكثير من القصص المختلفة في صميم سرد القصص. لدينا كلّ هذه الملايين من الطرق للقيام بذلك، لكننا نواصل سرد نفس القصص مرارًا وتكرارًا. في إحدى قصص زينب، تمّ ذكر هذه الجملة أو هذا الشعور: "أنت وأنا، نروي قصة واحدة فقط." على الرغم من أنّني قصدت ذلك في تلك القصة المحدّدة، "مرة كنّا سوريين"، أعتقد أنّ هذا صحيح بالنسبة للمجموعة بأكملها. أنا أروي قصة واحدة فقط، ولكن من عدّة زوايا واتجاهات مختلفة، أحاول أن أفكر في معنى أن تكوني عربيّة أمريكيّة. كيف هو شعور العيش في تلك الهويّة؟
تثير قصصك إحساسًا بالغربة، وبعدم الانتماء أو بالانقسام. وعلى الرغم من أنّك كتبتِ كلّ هذه القصص قبل انتشار وباء كوفيد-19، إلّا أنّني أرى انعكاسات الوباء فيها. أخت تحضر جثة شقيقها المتوفى لدفنه في قصة "الغسل"، ثمّ في قصة "الاختفاء"، يجب أن يبقى الأولاد الثلاثة في الداخل طوال الصيف لأنّ هناك قاتلًا غير مرئي في الهواء الطلق. هل لاحظت تأثير الوباء على كتاباتك أو على الموضوعات التي تستكشفينها؟
أعتقد أنّ الوباء قد أثر عليّ ككاتبة. أحتاج دائمًا إلى بعض الوقت لمعالجة ما أشعر به تجاه العالم قبل أن أتمكن من الجلوس والبحث بجديّة. أعلم بالفعل أنّ ما يحدث سيؤثر على ما أكتبه بعد ذلك، لكنّني لا أفهم حتى الآن ما سيكون عليه ذلك. لدي حقًا أطفال صغار لا يمكنني السماح لهم بالخروج إلى العالم بالطريقة التي أحبّها. كان من المحبط أن نرى أن ثُقل شيء مثل هذا لا يتم تقاسمه بشكل متساوٍ، وأنّه يمكن أن يكون هناك الكثير من الموت والكثير من المعاناة، في الوقت الذي يريد فيه الكثير من الناس أن يتابعوا حياتهم بشكل طبيعي وهم يتناولون شرابًا ما.
ليس الأمر كما لو كان لدي أكثر وجهات النظر إيجابيّة عن الإنسانيّة قبل ذلك، ولكن كان من المحزن أن أرى أنّ الكثير من الناس في الواقع لا يهتمون ببعضهم البعض. إنّه يؤكد ما كنت تخشينه بالفعل.
ماذا يمكن أن يكون دور الأدب وسط كل هذا؟
في كثير من الأحيان، وعلى مدى السنوات القليلة الماضية شعرت أنّه لا فائدة من ذلك -إذا جلست وكتبتُ قصصي الصغيرة، فماذا سيتغيّر في الواقع؟ يمكن أن يكون للأدب صدى لدى الناس ويمكن للقرّاء أن يحبوا القصة، لكنّني لا أعرف ما إذا كان ذلك سيؤدي إلى أيّ نوع من الإجراءات أو التغيير الجدير بالاهتمام. في الحقيقة أنا أسخر من ذلك كلّه.
بالنسبة لي، الكتابة هي طريقة لفهم إنسانيتي أو لفهم الوقت الذي أمضيته هنا، خاصة خلال هذين العامين الماضيين، حيث عانيت من العديد من الأزمات الوجوديّة. إنه مكان لا يزال بإمكانك أن تسألي نفسك فيه: "ماذا يحدث؟" و"ما هو الهدف؟" ومكان لاستكشاف تلك الأسئلة الكبيرة. يسعدني معرفة ما إذا كان القارئ/ة يتواصل/تتواصل مع شيء كتبته. بالنسبة لي، هذه هي القدرة العظيمة للخيال والأدب: جعلك تشعرين بأنّك لست وحدك. جعلك تفهمين أنّ الآخرين يشعرون أيضًا، وكأنك أنت من يفعل ذلك.