(هذا المقال جزء من سلسلة مقالات عن التصوير الفوتوغرافي والمصورين/ات العرب/ات، بتمويل من مؤسسة فريدريش ناومان من أجل الحرية، من إعداد المحرّر الضيف المصوّر مظفّر سلمان)
يغطي ضباب كثيف كل شيء، ورائحة النهر تتداخل مع الزهور، فيعبق أثرها في نسيم الصباح الباكر. يخلو الجوّ إلّا من رفرفة الطيور التي سرعان ما تحلّق بمجرد سماعها خطوات مقتربة.
في حقل قريب، يجمع غزال الزهور لتحضير الباقة التي جئت إلى هنا من أجلها: الريحان والقرنفل والأوركيديا والورود الدمشقية مع البنفسج.
بعد بحث طويل في الحقول، رأيت غزال يلوّح لي بباقة الزهور التي طلبتها. بمجرد وصولي، يعرض عليّ رحلة في نهر النيل على قاربه، فأوافق فورًا. أعلم أنّ ذلك لن يكلّفني كثيرًا، لأنّ الوقت لا يزال مبكرًا. منذ تفشي وباء فيروس كورونا، بالكاد كان لديه أي زوار من القرى المجاورة ومن العائلات التي اعتادت استئجار رحلات بالقوارب للاسترخاء.
غزال صياد يبلغ من العمر 35 عامًا، مثل الصيادين الآخرين، يستخدم زورقه الصغير في رحلات النيل. غزال مزارع أيضًا. على ضفة النهر، تتجمع القوارب الخشبية القديمة، وتتمايل برفق مع الأمواج. بحذر، أتبع غزال أسفل المنحدر الصخري إلى قاربه بينما يسبح الأطفال والكبار من المنطقة على الرغم من المخاطر الصحية لمياه النيل. يجتاز الصيادون المنطقة ذهابًا وإيابًا للتحقّق من شباكهم.
باتت حياة الناس في هذا المكان متشابكة مع النهر كخيوط ثوب مُحاك بإتقان.
بدأ موسم الفيضانات الشهر الماضي، وعلى الرغم من أعمال البناء الأخيرة لسد النهضة في أعالي منطقة المنبع في إثيوبيا، لا تزال الجزر الصغيرة هنا محاطة بمياه النهر.
ذات يوم، عندما كنت أقوم بزيارة، قال لي ضاحي، وهو صياد من منطقة القناطر في العقد السابع من عمره: "كان النهر هدية من ربنا الكريم ونحن نستخدمه منذ ذلك الحين"، قاطعًا الصمت بينما كان يحتسي الشاي، وعرض عليّ أن أشرب فنجانًا معه.
لم أستطع إخفاء فضولي حول مصدر المياه التي استخدمها في الشاي. لكنّه طمأنني عندما أكّد لي أنه ليس من النهر. قال: "لم أعد أشرب من النهر لأنني أعاني من مشاكل في الكلى، ولكن قبل ذلك كنت أشرب منه طوال حياتي."
يروي ضاحي مغامراته مع إخوته عندما كانوا أطفالًا وكأنها حدثت بالأمس، أخبرني: "بعد التراجع البطيء للنهر، اعتدنا على جمع الأسماك من الأرض بينما كانت لا تزال على قيد الحياة. كانت تقفز من أيدينا بينما نسقط في الوحل، ضاحكين، لننهض مرة أخرى ونبدأ في جمع المزيد. في نهاية اليوم، اعتادت عائلتنا وجيراننا على التجمع في بستان جارنا للاستمتاع بنسيم الليل، حيث تمتزج رائحة السمك المقلي برائحة أشجار الحمضيات".
في فترة ما بعد الظهر، يتجمع الأطفال من القرى المجاورة حول الخزان القريب للسباحة في الماء الدافئ بينما يطيّر آخرون الطائرات الورقية، مستمتعين بمنظر غروب الشمس شيئًا فشيئًا. يذهب آخرون في آخر رحلة بالقارب مع ضاحي وغزال وزملائهما، بينما يسحب بعض الصيادين قواربهم المتهالكة إلى الشاطئ ويقلبونها رأسًا على عقب للسماح لها بالجفاف بانتظار يوم آخر.
يقضي البعض الليل هنا، فالقوارب هي منازلهم.
تداخلت ألوان الزهور الجميلة مع بعضها البعض لرسم لوحة فسيفساء جميلة أسرت عينَيْ وعقلي من النظرة الأولى)
تساءلت لماذا ليس مع والده. أحب اللعب بالطائرات الورقية، لكنني أحبّ أيضًا الأسماك الموجودة في الماء. عندما تخرج من الماء، تموت، لكنها تنظر إلى السماء طوال الوقت).