حياة على ضفاف النهر

رحلة أخيرة في النيل قبل الغروب


باتت حياة الناس في هذا المكان متشابكة مع النهر كخيوط ثوب مُحاك بإتقان. بدأ موسم الفيضانات الشهر الماضي، وعلى الرغم من أعمال البناء الأخيرة لسد النهضة في أعالي منطقة المنبع في إثيوبيا، لا تزال الجزر الصغيرة هنا محاطة بمياه النهر. هذا ما يكتبه المصوّر محمد أسام، رواياً لنا بالصور مقتطفات من حيوات المصريين بجانب نهر النيل، وبعضا من سيرة هذا النيل أيضا.

23 نيسان 2022

محمد أوسام

مصوّر وثائقي وصانع أفلام، بدأ شغفه بالتصوير الفوتوغرافي في وقت مبكر ويؤمن محمد بأهمية الصورة في الحكي وقدرتها على وصف ما تعجز عنه الكلمات في كثير من الأحيان.

(هذا المقال جزء من سلسلة مقالات عن التصوير الفوتوغرافي والمصورين/ات العرب/ات، بتمويل من مؤسسة فريدريش ناومان من أجل الحرية، من إعداد المحرّر الضيف المصوّر مظفّر سلمان)

يغطي ضباب كثيف كل شيء، ورائحة النهر تتداخل مع الزهور، فيعبق أثرها في نسيم الصباح الباكر. يخلو الجوّ إلّا من رفرفة الطيور التي سرعان ما تحلّق بمجرد سماعها خطوات مقتربة.

في حقل قريب، يجمع غزال الزهور لتحضير الباقة التي جئت إلى هنا من أجلها: الريحان والقرنفل والأوركيديا والورود الدمشقية مع البنفسج.

بعد بحث طويل في الحقول، رأيت غزال يلوّح لي بباقة الزهور التي طلبتها. بمجرد وصولي، يعرض عليّ رحلة في نهر النيل على قاربه، فأوافق فورًا. أعلم أنّ ذلك لن يكلّفني كثيرًا، لأنّ الوقت لا يزال مبكرًا. منذ تفشي وباء فيروس كورونا، بالكاد كان لديه أي زوار من القرى المجاورة ومن العائلات التي اعتادت استئجار رحلات بالقوارب للاسترخاء.

الحنين إلى حلب

16 تشرين الثاني 2021
"فجأة تحولت حلب إلى برشلونة وأصبحت برشلونة حلب، وأصبح كلّ ما يتعلق بالانتماء ملتبسًا"، هذا ما يقوله الفنان البصري غياث طه في هذا النص الذي يحاول التطرق إلى مفاهيم الانتماء...

غزال صياد يبلغ من العمر 35 عامًا، مثل الصيادين الآخرين، يستخدم زورقه الصغير في رحلات النيل. غزال مزارع أيضًا. على ضفة النهر، تتجمع القوارب الخشبية القديمة، وتتمايل برفق مع الأمواج. بحذر، أتبع غزال أسفل المنحدر الصخري إلى قاربه بينما يسبح الأطفال والكبار من المنطقة على الرغم من المخاطر الصحية لمياه النيل. يجتاز الصيادون المنطقة ذهابًا وإيابًا للتحقّق من شباكهم.

باتت حياة الناس في هذا المكان متشابكة مع النهر كخيوط ثوب مُحاك بإتقان.

بدأ موسم الفيضانات الشهر الماضي، وعلى الرغم من أعمال البناء الأخيرة لسد النهضة في أعالي منطقة المنبع في إثيوبيا، لا تزال الجزر الصغيرة هنا محاطة بمياه النهر.

ذات يوم، عندما كنت أقوم بزيارة، قال لي ضاحي، وهو صياد من منطقة القناطر في العقد السابع من عمره: "كان النهر هدية من ربنا الكريم ونحن نستخدمه منذ ذلك الحين"، قاطعًا الصمت بينما كان يحتسي الشاي، وعرض عليّ أن أشرب فنجانًا معه.

لم أستطع إخفاء فضولي حول مصدر المياه التي استخدمها في الشاي. لكنّه طمأنني عندما أكّد لي أنه ليس من النهر.  قال: "لم أعد أشرب من النهر لأنني أعاني من مشاكل في الكلى، ولكن قبل ذلك كنت أشرب منه طوال حياتي."

يروي ضاحي مغامراته مع إخوته عندما كانوا أطفالًا وكأنها حدثت بالأمس، أخبرني: "بعد التراجع البطيء للنهر، اعتدنا على جمع الأسماك من الأرض بينما كانت لا تزال على قيد الحياة. كانت تقفز من أيدينا بينما نسقط في الوحل، ضاحكين، لننهض مرة أخرى ونبدأ في جمع المزيد. في نهاية اليوم، اعتادت عائلتنا وجيراننا على التجمع في بستان جارنا للاستمتاع بنسيم الليل، حيث تمتزج رائحة السمك المقلي برائحة أشجار الحمضيات".

في فترة ما بعد الظهر، يتجمع الأطفال من القرى المجاورة حول الخزان القريب للسباحة في الماء الدافئ بينما يطيّر آخرون الطائرات الورقية، مستمتعين بمنظر غروب الشمس شيئًا فشيئًا. يذهب آخرون في آخر رحلة بالقارب مع ضاحي وغزال وزملائهما، بينما يسحب بعض الصيادين قواربهم المتهالكة إلى الشاطئ ويقلبونها رأسًا على عقب للسماح لها بالجفاف بانتظار يوم آخر.

يقضي البعض الليل هنا، فالقوارب هي منازلهم.

(سألت ضاحي إذا كان التجديف بالقرب من الجزيرة الغارقة ممكنًا، فأجاب فورًا. لم أستطع أن أقاوم أن أكون قريبًا وأشاهد طيور أبو منجل واللقالق وغيرها من الطيور التي هاجرت من أوروبا الباردة إلى النيل الدافئ في الشتاء. أثناء مناورة بين جذوع الأشجار الغارقة، تحدث ضاحي عن ذكرياته في اصطياد الأسماك بعد انحدار النيل عندما كان طفلاً).
(أتذكر اليوم الذي فكرت فيه بالجنة للمرة الأولى، ولسبب ما تخيلتها كجزيرة في وسط نهر النيل. اعتدت الذهاب في نزهة مع أصدقائي على ضفاف النيل في حيّنا وكنا نشاهد الأطفال يسبحون ويستمتعون، لكن لم يكن لدينا الشجاعة للمشاركة. كنت أراقب الناس لفهم كيفية انصهارهم مع نهر النيل)
(إنّها الجنة! هذا ما خطر ببالي خلال نزهاتي لوحدي في بساتين الزهور.
تداخلت ألوان الزهور الجميلة مع بعضها البعض لرسم لوحة فسيفساء جميلة أسرت عينَيْ وعقلي من النظرة الأولى)
(هل يمكنك مساعدتي؟ نعم، ماذا علي أن أفعل؟ فقط أمسك بهذه الطائرة الورقية ولا تتركها قبل أن أمسكها. دار هذا الحديث مع أحد الأطفال الذين كانوا يلعبون بطائراتهم الورقية. كان والدي قد صنع طائرة ورقية كبيرة، لكنه لم يسمح لي بتطييرها، لذلك صنع لي طائرة أصغر. نستمتع باللعب بالطائرات الورقية معًا، لكنّ والدي لا يزال يصطاد هناك. قال الطفل بينما كان يشير إلى مجموعة من الأشخاص يصطادون في قارب: ولكن ما الذي يعجبك أكثر، صيد السمك أم تطيير الطائرة الورقية؟
تساءلت لماذا ليس مع والده. أحب اللعب بالطائرات الورقية، لكنني أحبّ أيضًا الأسماك الموجودة في الماء. عندما تخرج من الماء، تموت، لكنها تنظر إلى السماء طوال الوقت).
(بالقرب من بوابات المياه الضخمة، هناك مشهد مألوف للصيادين وعائلاتهم وهم يجدفون ذهابًا وإيابًا في النهر. عادة ما تقوم المرأة بالتجديف ويقوم الرجل إما برمي شبكته أو سحبها بينما الشاب على القارب في فك الشبكة بعد سحبها وجمع الأسماك. قال غزال: "يعيش معظمهم على متن قواربهم هنا ويبحرون أحيانًا إلى محافظات أخرى بحثًا عن قوتهم").
(كان المكان دافئًا ومنسمًا، وكنت جالسًا في صمت على الجزيرة أراقب الطيور التي تصطاد الأسماك. قال أحد السكان، قاطعًا الصمت: "لقد تراجع النهر وكثير من الناس يأخذون ماشيتهم لرعيها في الجزر". كان قد وصل لتوّه إلى الجزيرة ومعه بعض أغنامه كي ترعى بطبيعة الحال. قال الرجل الذي قدّم للتو بعض الشاي: "سنتركها هنا حتى عيد الأضحى، وسنبدأ في بيعها قبل أسبوعين على الأقل").

 

مقالات متعلقة

أن تكون جزائريا... تشريح فوتوغرافي

22 تشرين الثاني 2021
"يصح تصنيف العيش في الجزائر اليوم في إطار الرياضات العالية المستوى. نقضي أيامنا في النضال من أجل الحياة حتى أصبحت العبارة "سمحولنا كي رانا عايشين" تحمل في طيّاتها معاني اللامعبّر...
صور بيروت: بين شرارة الحرب ونار الانتفاضة

30 تشرين الثاني 2021
"ربّما اعتدت على احتمال أكثر المشاهد عنفًا ودمويّة خلال تصوير الأحداث، لكن كلّ تلك المشاعر والتأثّر كانت تنصهر في الصورة النهائيّة". هذا ما يقوله المصوّر اللبناني مروان طحطح وهو يستعرض...
لماذا تصوّر؟!

19 شباط 2021
"كمصوّر سوري بدأ مهنة التصوير خلال أحداث الثورة السورية، وفي عام 2014 سألت نفسي هذا السؤال كثيراً: لماذا فعلاً نصوّر هذه الأحداث في سورية؟ هل هو إيماناً منّا حقا أننا...
غيفارا نمر: "التصوير يعني أنا"

05 تشرين الأول 2021
"لا أعتقد أنّ أيّ شخص لديه إحصاء محدّد لعدد المصوّرين في سوريا أو فهم دقيق لمَن كان مصوّرًا هناك" و"حمل الكاميرا والتصوير بالنسبة لي، مثل عملية تأمّل عميقة. أشعر أنّ...
الوسوم:

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد