بصفتي امرأة فلسطينية ولدت وترعرعت في قرية في جنوب فلسطين، لطالما كان وضع المرأة الفلاحة مشغلًا على المستوى الشخصي والسياسي بالنسبة لي. أعتقد أن كل شيء بدأ مع جدتي الراحلة. جدتي رحمها الله كانت امراة قوية، ارتباطها بالارض تحدّى كل الحواجز وعلمني جوهر من أكون. على الرغم من خسارة معظم أراضينا بسبب زحف المستوطنات الاستعمارية الصهيونية، إلا أن جدتي تمسكت بشدة بما تبقى من أرضها، وأعطتها الحب والرعاية التي تستحقها، وفي المقابل ردت الأرض الجميل. كان حصاد الزيتون السنوي يغذي جميع أفراد الأسرة ويقدم الرعاية للجيران أيضًا. أحاطتنا جدتي، من خلال خبز الصاج والزبدة المصنوعة منزليًا، والخضروات الطازجة، بعالم من الحب والصمود الأسري القادر على الوقوف في وجه المصاعب الاقتصادية. لكن الأمور تغيرت بعد وفاة جدتي. لم يولى اهتمام كبير بالأرض، التي حُوّلت معظمها إلى مشاريع إسكان لأفراد الأسرة الممتدة. تروي والدتي احساسها المستمر بالحنين إلى زمن كانت تستيقظ فيه كل صباح لتذوق العنب الطازج بعد نزهة في الحقول الجميلة. يغذي حنين أمي حنيني، مما يفاقم شوقي المتلهف إلى جدتي الراحلة، وطعامها الشهي، وحكاياتها الجميلة عن مواسم الحصاد. هذا الحنين للأرض ولجدتي هو الدافع الذي وجه اهتمامي للحديث مع الناشطة الفلسطينية لينا اسماعيل لنسلط الضوء حول الدور الذي تلعبه المرأة في استعادة علاقتنا (الفلسطينية) بالأرض. لينا هي ناشطة شابة وباحثة في مجال العمل المجتمعي، التقيت بها قبل عام خلال ورشة عمل، حيث قدمت ورقة وقادت مناقشة حول أهمية الزراعة البيئية في السياق المحلي الفلسطيني. تلقي المحادثة التالية الضوء على أهمية العمل الذي تقوم به لينا فيما يتعلق بالزراعة البيئية والسيادة الغذائية.
أخبرينا عن نفسك وعن رحلتك في التنظيم المجتمعي.
ولدت في نابلس وسافرت إلى الخارج لمتابعة برنامج درجة الماجستير في العلوم البيئية والسياسات والإدارة. فرض الوقت الذي أمضيته في الغربة هذا الشعور بالحاجة إلى خدمة القضية في فلسطين. عند عودتي إلى فلسطين، بدأت في المشاركة في العديد من المشاريع والمبادرات البيئية بما في ذلك التطوع في "مزرعة مردا" وتسهيل التدريب على الزراعة المستدامة هناك. وعملت أيضًا مع وكالات المعونة الإنمائية الدولية، مما جعلني أدرك أن وكالات المعونة لا تساعدنا في "التطور"، لا بل تفرض علينا علاقة خطيرة من التبعية. على سبيل المثال، رأيت بنفسي كيف تعتمد هذه الوكالات على "رأي الخبراء" الغربيين، معتبرة المعرفة الفلسطينية المحلية أقل شأناً. علاوة على ذلك، فإن معظم المساعدات، وتحديداً المساعدة المشروطة، ترسّخ فكرة التنمية المجردة من سياقنا المحلي ونضالنا ضد الاستعمار الاستيطاني الصهيوني ؛ وتفرض عمليًا الوهم بأننا نعيش مثل أي دولة أخرى ذات سيادة. من هنا نشأت معضلات أخلاقية بنظري، وقررت ترك هذا القطاع. انضممت بعد ذلك إلى "مؤسسة دالية" حيث عملت على مدار الست سنوات ونصف الماضية كمسؤولة برامج مجتمعية. شكلّت "مؤسسة داليا" مكانًا مثاليًا بالنسبة لي لأنها مؤسسة مجتمعية تعمل مع الناس على الأرض لدعم المبادرات الشعبية، وبالتالي مواجهة الاعتماد المتزايد على هبات المانحين المشروطة. كما أصبحتُ متطوعة نشطًة في "مشروع شراكة" للزراعة المدعومة من المجتمع لتعزيز دعم صغار المزارعين التقليديين واستعادة إنتاج الغذاء الموسمي. كما شاركت في إنشاء المنتدى الزراعي البيئي الفلسطيني الذي يهدف إلى تشجيع الاعتماد على الموارد الطبيعية، بما في ذلك البذور التقليدية، التي يمكن للمزارعين الوصول إليها كوسيلة للتخلص من السموم الكيميائية المفروضة عليهم، بشكل مباشر أو غير مباشر، عبر المستعمر الصهيوني. فالحديث عن نموذج بيئي زراعي يعني تعزيز نظام الزراعة والتغذية الذي يتوافق مع التاريخ والتقاليد الزراعية الفلسطينية، وكلاهما يقع في صميم نضالنا ضد الاستعمار الاستيطاني والرأسمالية.
إلى أي مدى دفعك وضعك كامرأة في سياق فلسطين الصعب والمليء بالتحديات إلى هذا المكان؟ هل يمكنك مشاركة أفكارك حول الدور الذي تلعبه الذاكرة النسوية العابرة للأجيال؟ إلى أي مدى ما تفعلينه اليوم مستوحى من عمل النساء الأخريات، بما في ذلك جداتنا؟
شخصياً، هناك أشياء أعرفها وأخرى قد لا أدركها. ولكنه من الجدير دائمًا التفكير في دور أسلافنا الأمهات في نقل الذكريات، وعلاقات الرعاية، والجراح والصدمات التي أثرّت فينا بشكل أو بآخر. على الرغم من وفاة جدتي، فإن عائلتي في نابلس لا تزال متمسكة بشجرة خشخاش كانت تصنع منها العصير. أتذكر أيضًا كيف اعتادت جدتي لأمي أن تصنع عصيرًا طازجًا من نباتات الورد التي زرعتها في الفناء الخلفي. تعيش معي كل هذه القصص والذكريات وهي جزء مما أنا عليه اليوم. وهناك قصص أخرى مؤلمة، مثل تلك التي حدثت في زمن النكبة. عندما بدأ القصف، كان على جدتي أن تركض خارج المنزل. اندفعت بسرعة للنجاة بحياتها، ناسية لثوانٍ قليلة رضيعتها، داخل المنزل، حتى تغلغل الذعر إلى داخلها، وهرعت عائدة بجنون لحمل طفلتها. تركت النكبة بصمة شخصية علي وعلى أسرتي. فقد فصلت الأسرة من جهة الأب والأم عن بعضها البعض إلى يومنا هذا. مع أن أصولهم تعود إلى عصيرة الشمالية (قرية في شمال نابلس)، كانت عائلة جدي تعمل وتعيش في حيفا جنبًا إلى جنب مع عائلة والدتي حتى وقعت النكبة، وفرقت العائلتان. لكي تتمكن من البقاء مع والدي في نابلس، اضطرت والدتي إلى التخلي عن بطاقة هويتها ودفعت ثمن عدم رؤية عائلتها في الشمال لفترة طويلة. بسبب بطاقتي الخضراء وعدم وجود بطاقات لم شمل الأسرة، نشأت أيضًا محرومة من زيارة جانب أسرة أمي.
هذه النضالات عبر الأجيال هي التي دفعتني لأهتم بمسألة الزراعة البيئية والسيادة الغذائية كمشروع تحرري يرتبط باستعادة هويتنا كشعب. النساء هنّ عمادة هذا المشروع. عند الحديث عن الذاكرة العابرة للأجيال، هناك جدتي ولكن هناك أيضًا تلك النساء اللائي عشنَ وقاتلنَ خلال الانتفاضة الأولى (1987ـ 1993) لاستعادة مفاهيم الوحدة الاجتماعية والشعبية. لعبت تلك النساء دورًا مهمًا في حشد اللجان الشعبية التي تحدّت بشكل كبير الجهاز الاستعماري الصهيوني وقوّضته. فقدرتهنَ على أن تكنَ رياديات مبادرات، يجب أن يلهم العمل الذي نقوم به اليوم ويحيطه. العمل الذي أقوم به، بالاشتراك مع نساء أخريات يحملنَ نفس التفكير، هو تعزيز لقدرة نسائنا ودورهنَ في قيادة التغيير وفرضه. في عام 2014، أطلقنا مع صديقتي العزيزة منى الدجاني كتيبًا، صدر الإصدار الثاني في عام 2020 بعنوان: "الاختيارات الواعية: دليل للتسوق الأخلاقي في فلسطين". نشرت مؤسسة هاينريش بول الكتاب، الذي استند إلى بحث شامل أجراه كلانا بهدف رسم خرائط لجميع المنتجات المصنوعة والمزروعة محليًا من أطعمة وحرف يدوية إلى نبيذ وملابس. وقد استلهمت الفكرة عندما كنت أبحث عن شراء تذكار حنظلة وكل ما وجدته هو هدايا صينية الصنع. شعرت أنا ومنى بالإحباط الشديد من الطريقة التي قام بها نمط الإنتاج النيوليبرالي في فلسطين بتهميش تاريخ كامل من صناعة الحرف اليدوية وزراعة المواد الغذائية. عبر كتابة الكتيّب ونشره باللغة العربية، كانت الفكرة هي جعله في متناول القراء المحليين، وتحفيزهم على التعامل مع المزارعين وصنّاع الحرف في منطقتهم المحلية، والذهاب والشراء منهم بشكل أساسي للمساعدة في الحفاظ على استمراريتهم. يسلط الكتيّب الضوء على أهمية شراء العناصر المنتجة محليًا، فهو يدعم نظامًا بيئيًا كاملًا. على سبيل المثال، إن الحصول على الصابون من ذلك المصنع المحلي في نابلس، يعني دعم المزارع الذي أخذ منه زيت الزيتون، وكذلك الحرفي الذي يصنع مستلزمات الصابون (أي الفخار وخشب الزيتون).
تلقي النسخة الجديدة من الكتاب، التي تم تحديثها عام 2021، الضوء بشكل خاص على التعاونيات الشبابية الزراعية البيئية والدور الذي تلعبه المرأة في زراعة الأطعمة المحلية (البلدية). في الواقع، منذ جائحة كوفيد ـ ١٩، رأيت عددًا متزايدًا من النساء اللواتي يقمن بدور فلاحة وزراعة الأطعمة البلدية بدءًا من حدائقهنَ الخلفية. من خلال الزراعة البيئية، قدمت تلك النساء نموذجًا عن معنى الاستقلال. من خلال العيش ضمن روحية "أنا أتناول الطعام الصحي الذي أزرعه"، فإنهنَ يحرّرنَ أنفسهنَ فعليًا من النظام الاجتماعي والاقتصادي للسمية الأبوية. ما أعنيه هو أن معظم المشاريع التجارية الزراعية يديرها رجال أغنياء يعتمدون على المواد الكيميائية والسموم ويروجون لها ، سواء من حيث الطبيعة أو الطعام الذي نستهلكه، ومن حيث الذكورية السامة المتجسدة في الاقتصاد الرأسمالي الاستعماري.
بالحديث عن الذكورية والاقتصاد الرأسمالي الاستعماري، نشهد الآن اهتمامًا متزايدًا توليه الحكومات والمؤسسات لـ "الاقتصاد الأخضر". هل يمكنك مشاركة أفكارك حول ذلك؟ هل يمكنك أيضًا مشاركة بعض قصص النساء اللواتي تعملين معهن وكيف يتفاعلن أو يتحدين هذا النظام؟
لقد استثمرت بشكل خاص في فكرة إنتاج المعرفة بهدف التعليم والتعبئة. ومن الأمثلة على ذلك إنتاج فيلم أطلق عام 2021 مع "مؤسسة داليا"، بعنوان "الثورة غير المحكية". يوثق الفيلم حركة زراعية بيئية تعمل من أجل السيادة الغذائية في فلسطين. يسلط الضوء على قصص رائعة عن مزارعات شابات مثل إيمان، من منطقة وادي الأردن، والتي كانت رحلتها عبارة عن تحد ونجاح في نهاية المطاف. فهي تأتي من سياق يعتمد بشكل كبير على إنتاج زراعي واسع النطاق بقيادة المزارعين الرجال. تعمل هذه المشاريع إما في خدمة الاقتصاد الصهيوني (أي الإنتاج للمستوطنات) أو المنتجات الموجهة للتصدير. في مثل هذا السياق، كان والدها والمزارعون المجاورون يضحكون على فكرة سعيها للزراعة البيئية. ومع ذلك، أثبت إصرار إيمان أنهم جميعًا على خطأ. لم يكن محصولها ناجحًا فحسب، مما دفعها لتوسيع مشروعها، ولكن طريقتها أصبحت أيضًا حديث المدينة خلال موسم الصقيع. في حين تضرر محصول الجميع، محصول ايمان كان الوحيد الذي لم يتلف.
استُخدمت قصص إيمان وقصص أخرى التي تمت تغطيتها في الفيلم، لإلهام نساء أخريات وإحداث التغيير في مجتمعاتهنَ. في إحدى الوقائع، حيث عرضنا الفيلم وعقدنا ورش عمل حول الزراعة البيئية، شاركت امرأة من دير بلوط قصتها عن تدمير أرضها الموروثة عن والدها والغالية على قلبها، بسبب الأسمدة والبلاستيك التي فُرضت من خلال مشروع ممول من المانحين. عندما بدأنا العمل معها لاستعادة الأرض من خلال الزراعة البيئية، استطعنا أن نرى الاختلاف النفسي الهائل الذي أحدثته استعادة الأرض عليها وعلى عائلتها، حيث هي في طور استعادة علاقتها بالأرض بطرق تعكس تعاليم والدتها. ما أريد قوله هنا هو أن الزراعة البيئية بالنسبة لي تدور حول عملية استعادة هويتنا كنساء من السكان الأصليين والهوية التي نحملها فيما يتعلق بالمكان الذي يعرّفنا. وهذا يختلف عن نوع النسوية التي يتم الترويج لها في الغرب أو في ظل الاقتصاد الرأسمالي، حيث تم تفريغ أفكار "تمكين المرأة" من المصالح الطبقية وأيديولوجية الجنوب العالمي ونساء السكان الأصليين. يقدم خطاب "الاقتصاد الأخضر" نفس أعراض المشاكل. نحن نشهد بشكل متزايد مشاريع تقترح، تحت عناوين "خضراء"، مفاهيم إشكالية لـ "التعاون" بين الإسرائيليين والفلسطينيين؛ يشجعنا على التطبيع مع نفس المحتل الذي يسرق مواردنا الطبيعية في المقام الأول. بالفعل، أصبح "الاقتصاد الأخضر" وسيلة أخرى لخدمة مصالح النظام الطبقي البرجوازي. على سبيل المثال، هناك ميل متزايد لفرض الخبرة والأساليب التكنولوجية، مثل الزراعة المائية، والتي قد لا تتناسب مع سياق الزراعة لدينا وقد تؤدي إلى عزل المزارع عن الطرق المطورة عضوياً لبناء علاقة مع أرضه. عند القيام بذلك، تصبح هذه المتطلبات الفنية طريقة أخرى لتهميش صغار المزارعين، مع فرض قوة الزراعة الصناعية، التي يطلق عليها الآن اسم "خضراء". لذلك، بالنظر إلى المستقبل، لدي الكثير من المخاوف بشأن كيفية تبني النظام عملنا وتحويله لخدمة مصالح طبقته ومصالحه السياسية. ومع ذلك، فإن مزارعينا يثبتون أنهم لا يجهلون ما يدور حولهم، وأن روح التحدي والأمل هي ما نحتاج إلى زراعته.
إن حديثي مع لينا غرس فيّ شعوراً بالامتنان للكرم الذي شاركت به أفكارها حول عملها. من النقاط المهمة التي استخلصتها من تأملاتها، والتي بالنسبة لي تعكس ما أسميه نسوية الشعوب الأصلية، هو كيف نحن كنساء الجنوب المستعمَر نواصل العمل الدؤوب لتحدي كلًا من النظام الأبوي والنموذج المهيمن من نسوية الطبقة الوسطى البيضاء. هذا النوع من النسوية ليس متفشيًا في السياق التاريخي للرأسمالية الغربية فحسب، بل أخذ أيضًا زخمًا في بيئة الطبقة الوسطى الحضرية في فلسطين، خاصة منذ أواخر التسعينيات. حوّلت منظومة السلام الليبرالي الذي فرضته أوسلو على الشعب الفلسطيني الحركة النسوية من قاعدتها الشعبية المناهضة للاستعمار إلى قاعدة حكم الفيموقراط (تحول الحركة النسوية من حركة تحررية لمؤسسات منتفعة تعمل وفقًا لنظام حكم أوسلو). نساؤنا الفلاحات أمثال جدتي رحمها الله وأخرى ناشطات شبابية مثل لينا هنّ من يعززن مسار نسوي عادل متجذر بالارتباط بالأرض ومناهض لكل من الاستعمار والسلطة الأبوية والرأسمالية.