أسطورة "زوزو": من "الجو" في أحياء دمشق إلى "عطيات" على المسرح السوري


في هذا النص، يأخذنا الكاتب إلى سبعينات وثمانينات سوريا ويحاول إعادة تركيب تاريخ لشخصية مثلية لانمطية التعبير الجندري كانت قد عرفت في أحياء دمشق وضرب فيها المثل: زوزو. من خلال قرائته لشخصية "عطيات" في مسرحية "كاسك يا وطن" واعتمادا على مقابلات تاريخ شفوي أجراها مع ناس عاصرو تلك الحقبة، ينسج أرام الميداني "أسطورة" زوزو ويقدم قراءة مثيرة عن دوره كملهم لشخصية "عطيات"، وكشخصية معروفة في تلك الفترة في مجتمع الميم – عين السوري الحاضر وغير المخفي.

16 كانون الأول 2022

(تصميم: ورد زراع)
آرام ميداني

باحث وناشط في منظمة سين الخاصة بمجتمع الميم-عين السوري، إجازة في العلوم السياسية، مهتم بالتاريخ السياسي والتراث اللامادي الشفوي السوري.

من البديهي عندما تشاهد مسرحية "كاسك يا وطن"[i] أن تمرّ مرور الكرام على شخصية "عطيات"، شخص ذو حركات ولباس "أنثوي" ويعمل كمرافق لراقصة تدعى "فضيحة حركات".

قد لا يترك لديك هذا المشهد القصير أيّ أثر أو انطباع خاص، سوى ببعض القهقهة أو المقارنة بين الفنان حسام تحسين بيك (الذي لعب دور عطيات) في الماضي واليوم، ولكن ما هو موقفك عندما تعلم بأنّ شخصية "عطيات" التي ظهرت في المسرحية، ورغم محدودية الدور والمشاهد، هي تجسيد لشخصية إنسان حقيقي كان يعيش في دمشق في مرحلة عرض هذه المسرحية، وليس مجرد شخصية ابتدعها خيال المؤلف؟

قد يفترض البعض أنّ محاولة إسقاط شخصية "عطيات" على شخص عايش تلك المرحلة أمر غير واقعي، لاسيما وأنّ المؤلف الراحل محمد الماغوط، وحتى الفنان حسام تحسين بيك، لم يتحدثا عن الموضوع إطلاقاً.

دراما كويريّة سوريّة

19 آب 2022
في هذه المادة والرسومات، يعود بنا الفنان طارق السعدي بالزمن إلى الجيل الذهبي للدراما السوريّة، مسلطًا الضوء على بعض "الشخصيات الكويريّة" التي ظهرت في مسلسلات تابعناها وأحببناها، ولكن "يمكن انتست"....
سالينا: بدون عنوان

22 تموز 2022
في هذا الفيديو، تقدم سالينا أباظة مادة بصريّة حميميّة وشخصيّة، تسمح لنا بالدخول إلى عالمها الخاص الذي يبقى دون عنوان، وتأخذنا بذاكرتها إلى العديد من الأماكن والأحداث والذكريات والشخصيات والتجارب...

في هذا المقال سأظهر مدى سهولة نقض هكذا افتراض من خلال شهادات شخصية قمت بجمعها عن طريق مقابلات تاريخ شفوي أجريتها مع أربع أشخاص عايشوا تلك المرحلة، وبعضهم كان على علاقة مباشرة مع "زوزو". ومن خلال هذه المقابلات نستطيع أيضا أن نشكل صورة عامة عن الرأي العام السائد في أوساط المجتمع الدمشقي خلال فترة عرض المسرحية، عن كونها فعلياً تجسيد لشخصية "زوزو"، وهو شخص غير نمطي من حيث التعبير الجندري والميول الجنسية، وكان يعيش في دمشق في تلك الحقبة.

هذه الشهادات الشخصية، وما تخبرنا به عن "زوزو"، تمثل الجزء الأساسي من التاريخ الشفوي الذي اعتمدت عليه في هذا المقال، بالإضافة إلى تحليل الشخصية المسرحية وسلوكها وطريقة لباسها ومشيتها، والتي تتطابق بما لايدع مجالاً للشك مع شخصية زوزو. كما يدفعنا هذا الأمر إلى محاولة إعادة فهم الشخصيات التي جسّدها المسرح السوري، لاسيما وأنها تساعدنا بشكل كبير على فهم جزء من تاريخنا وسياق تطوّر مجتمعاتنا وتعاطيها مع بعض القضايا الحساسة كقضايا الجندر والجنسانية. فمن خلال هذا المقال سوف نكتشف أنّ دور عطيات الذي لم يتجاوز ال ٤ دقائق خلال مسرحية "كاسك يا وطن"، يشكل مساهمة كبيرة في فهم طريقة تعاطي مجتمعنا السوري مع الشخصيات الجنسية والجندرية غير النمطية واللا معيارية في حقبة ليس لنا الكثير من الوصول إليها أوتجسيد لحضور الميم – عين فيها إلا من خلال الفن، الذاكرة، والتاريخ الشفوي لأشخاص عاصروا تلك الفترة.

زوزو: حالة مجتمعية فريدة على المسرح السوري

مثّل المسرح السوري منذ بداياته على يد رائد المسرح العربي،  أبو خليل القباني، حالة متقدمة في مواجهة وتجاوز القيود والمحرّمات السياسية والدينية التي تصدّى لها في أعماله المسرحية، ما أثار حفيظة وغضب القوى الرجعية ممثلة بالسلطة الدينية التي حرّضت عليه بدايةً، مما نجم عنه إحراق مسرحه عام ١٨٧٥. وبعد سنوات أخرى عملت على رفع بيان بتوقيع معظم أعيان دمشق، والذي تمّ عرضه (البيان) على السلطنة العثمانية آنذاك، وأدى إلى إغلاق مسرحه ومنعه من التمثيل عام ١٨٨٣.[ii]

وبعد سنين طويلة، أي في عام ١٩٦٠، افتتح الراحل محمد الماغوط مستوى جديد من المواجهة في سبيل التعبير الحر عن الواقع بكافة تجليلاته السياسية والدينية والاقتصادية والاجتماعية، فإلى جانب مواجهة التابوهات السياسية والدينية، انخرط الماغوط في مواجهة مع المحرمات الاجتماعية من خلال أعماله المسرحية، متحدياً المنظومة الذكورية الأبوية المسيطرة على المشهد السوري.

شكلت مسرحيته "كاسك يا وطن" حالة خاصة وفريدة، ليس فقط على صعيد الشأن السياسي باعتبارها، وبحسب رأي العديد من النقاد، إحدى أهم المسرحيات الكوميدية العربية الهادفة والناقدة. إنما أيضا على صعيد مهم آخر كونها أول عمل فني عُرض على خشبة المسرح السوري وجُسّدِت فيه شخصية حقيقية تنتمي إلى مجتمع الميم-عين، ومعروفة في أوساط المجتمع الدمشقي في فترة السبعينيات والثمانينات دون الوقوع في فخ الاعتقادات والتصوّرات الخاطئة، وإنما من خلال تجسيد الشخصية بواقعية ومصداقية.

دور عطيات الذي لم يتجاوز ال ٤ دقائق خلال مسرحية "كاسك يا وطن"، يشكل مساهمة كبيرة في فهم طريقة تعاطي مجتمعنا السوري مع الشخصيات الجنسية والجندرية غير النمطية واللا معيارية 

"كاسك يا وطن" تكاد تكون أحد الطقوس المقدّسة لدى السوريين والسوريات، نساءا ورجالا وأطفالا، في المناسبات والأعياد الوطنية والدينية، فلا تكاد تمرّ عطلة أحد الأعياد، إلا ويعرض هذا العمل المسرحي على القنوات الفضائية السورية، وحتى العربية منها. وقد اعتبر هذا العمل في حينه ثورة فنية في حدّ ذاتها على المفاهيم والإيديولوجيات والأفكار النمطية حول المجتمعات العربية، حيث جال على مسارح أكثر من ٩ دول عربية وحظي بشهرة واسعة النطاق مما دفع القائمين عليه إلى تمديد عروضه في بعض الدول العربية نزولاً عند رغبة الجمهور، كما حدث خلال عرضه الأول في مسرح قرطاج بتونس عام ١٩٧٩، وفي عروض الإمارات والكويت عام ١٩٨٠.

لازالت هذه المسرحية حاضرة حتى الآن في وجدان وذاكرة الجمهور العربي عموماً والجمهور السوري خصوصاً، والذي بات يستذكرها بكافة شخصياتها وإسقاطاتها السياسية والاجتماعية التي شكلت نوعاً من الاختراق لمنظومة الأفكار المسبقة التي حاولت الأنظمة العربية ترسيخها في أذهان الشعوب العربية، لاسيما بعد هزيمة ٧ حزيران ١٩٦٧، وهذا بفضل ذكاء وفطنة المبدع الراحل محمد الماغوط الذي وظف قلمه الساخر في التصدّي لمحاولات التطبيع مع الهزيمة وإنكار الوقائع والركون لواقع الفقر والجهل والديكتاتورية، وما يترتب عليه من تخلّف وتسلّط واستعباد. والعجيب أنها لا تزال تصلح لهذا الزمان في توصيف الأزمات التي يعاني منها المواطن السوري بعد مرور حوالي ٤٣ عاما على عرضها الأول كالمعاناة بسبب البيروقراطية والفساد والافتقار إلى أبسط الخدمات علاوة على مقومات الحياة.

عرضت هذه المسرحية للمرّة الأولى على خشبة المسرح بدمشق عام ١٩٧٩، وقد حضر العرض الافتتاحي كبار رجال الدولة آنذاك كرئيس الدولة حافظ الأسد ووزير دفاعه مصطفى طلاس، ونجاح العطار وزيرة الثقافة والإرشاد القومي. مثّل حضور هذه الشخصيات تحدياً حقيقياً لمؤدّي العرض لناحية الالتزام بالنص الذي تمّ تأديته خلال تدريبات التحضير دون أيّ تحوير أو حذف أو تعديل، سيما وأنها تحمل في طيّاتها الكثير من الانتقاد المعلن والمبطن للسلطة السياسية وطريقة تعاطيها مع المواطنين/ات.

على وقع التصفيق والصفير ظهرت الفنانة هالة شوكت على خشبة المسرح بدور الراقصة "فضيحة حركات"، وتبعها الفنان حسام تحسين بيك بدور عطيات "اللبيسة بتعتها"، حيث ظهرت "عطيات" وهي تلبس البنطال الشارلستون والقميص الأسود بلا أكمام، بالإضافة إلى الفولار الأسود على رقبتها، وهي تمشي وتتمختر بكلّ أنوثتها على خشبة المسرح وتضع الصنج النحاسي "الفقاشات" على أصابعها. لم يستثر هذا اللباس أو طريقة المشي حفيظة الجمهور وازدرائه، وإنما العكس فقد أحبّ الجمهور هذه الشخصية ورحب بها بكافة تفاصيلها. ويذكر أحد الأشخاص العاملين (الذي لم يرغب بذكر اسمه) في تجهيز الديكور في تلك الفترة، أنه رافق كافة عروض المسرحية، ولم يشاهد أيّ اعتراض من الجمهور على شخصية "عطيات"، وإنما الناس كانت دوما في تشوّق لظهورها برفقة "فضيحة حركات".

هممممم

01 تموز 2022
"هممممم" سلسلة قصيرة من الرسوم المصورة لـ”قضوضة"ضمن ملف "الكويريّة والعبور الجندري في المشهد الثقافي السوري”. تأتي هذه المشاركة كدعوة من "قضوضة" لإعادة التأمل ببعض المفاهيم المؤثرة على المختلفين/ات وغير النمطيين/ات...
شكرًا أم كامل!

ياز |
24 حزيران 2022
في جزءٍ من العالم تُشنّ اليوم، حرفيًا، حملات اعتقال على أيّ شيءٍ مطليٍّ بألوان قوس قزح، يحظر فيلم "رسوم متحركة" لوجود قبلةٍ فيه بين شخصيتين من نفس الجنس، وتُطلق حملاتٍ...

"عطيات" لم تكن يوماً شخصية متخيلة، أو مجرّد إضافة لا داعي لها ضمن العمل كما يعتقد طيف واسع ممن حضروا مسرحية "كاسك يا وطن" داخل سورية أو خارجها، وإنما كانت تقمّص وتجسيد حي وحقيقي لأحد أهم وأشهر الأشخاص غير نمطيي التعبير الجندري المعروفين في تلك الفترة في المجتمع الدمشقي، زهير "زوزو" أو "عزيزة" كما كان يلقب داخل عائلته المختارة عائلة رزق (نسبة للفنانة المصرية أمينة رزق) في أوساط الجو. الجو هو التعبير الخاص الذي يستخدمه المثليون والعابرات في سوريا للحديث عن مجتمعهم الموازي، وقد اعتمدو مصطلح "الجو" منذ ستينيات القرن الماضي بعد أن كان المصطلح الأسبق المستخدم هو "مفتاح وقفل"، وقد جرت العادة في الجو أن ينتمي كلّ فرد إلى عائلات يختارها وينضم إليها، فتصبح هي بمثابة عائلته الثانية التي يعيش فيها الشخص هويته الجندرية أو الجنسية بكامل الحرية ومن دون قيود، ويصبح جزءا من شبكة كبيرة من أفراد الميم – عين المكوّنة من عدد من العوائل التي كل منها يحمل إسما مختلفا. ولهذا فقد انتسب "زوزو" لأوّل العائلات الناشطة في أوساط الجو السوري عام ١٩٧٠. وكان من شروط دخول الجو أن يكتسب كلّ فرد اسم فني خاص أو اسم مشتق من اسمه الحقيقي من خلال تأنيثه، وهو ما جرى مع زهير الذي اختار اسم عزيزة واختصارا زوزو.[iii]

"زوزو الفرفور الغندور" كما يحب أهل دمشق تسميته في مجالسهم الخاصة، وأصبح مضرب مثل في أحاديثهم "لا تترقوص متل زوزو"، زوزو جزء من ذاكرة دمشق، أحبّ الجمهور استحضار شخصية زوزو، لاسيما وأنّ الممثل حسام تحسين بيك قد أتقن تقمّص هذه الشخصية من خلال استخدام نفس نمط اللباس الذي تميّز به زوزو "بنطاله الشارلستون وفولار رقبته وقميصه بلا أكمام وحقيبته النسائية"، علاوة على التفاصيل الأخرى الصغيرة، فمثلاً دور "عطيات" كشخص مسؤول عن لباس الراقصة "فضيحة حركات" يتطابق مع علاقة "زوزو" الوثيقة مع الراقصات في ملهى "الطاحونة الحمراء" الشهير في وسط دمشق، والذي يعدّ بمثابة النسخة السورية من ملهى "المولان روج الباريسي"، فقد كان "زوزو" صلة الوصل بينهن وبين صديقه أمين "أمينة" (وهي بمثابة أمه في عائلته المختارة)، والذي كان يعمل في مجال تصميم وخياطة الملابس وقام بتصميم ملابس العديد من عروض الراقصات الاستعراضيات في ملهى الطاحونة الحمراء.[iv]

"عطيات" التي رفضت لقب آنسة عندما توجهت إليها صباح الجزائري بالسؤال وأصرّت على أنها مدام، فما كان من صباح إلا احترام هذا الأمر، والاعتذار عن توصيفها بالآنسة. قد يبدو هذا الحديث في المسرحية لمن لم يلتق بزوزو بشكل شخصي كنوع من النكتة، إلا أنه تعبير عن واقع حقيقي لطالما عبّر عنه زوزو لكلّ من التقاهم في شوارع أبو رمانة وبوابة الصالحية وشارع الشعلان عن كونه مدام لابن أحد المسؤولين السوريين السابقين.

(زوزو، بعدسة المصور عمر البحرة)

الملاحظ أنه في كافة عروض هذا العمل الذي جال المسارح العربية الاحترام الكبير للطريقة التي عرّفت بها "عطيات" عن نفسها، وتجلّى هذا الأمر بسلوك الفنانة صباح الجزائري التي تعاطت معها بضمائرها المفضلة دون أي نقاش نزولاً عند رغبتها، على عكس العديد من الأعمال الفنية اليوم التي تحاول فرض طريقة تعاطي مع الشخصيات اللانمطية الجنسية والجندرية بما يتوافق مع المعايير الاجتماعية النمطية السائدة.

هل تنمط شخصية عطيات في تجسيدها لزوزو المثليين السوريين في تلك الحقبة؟

قد يعترض البعض ويرى بأنّ تجسيد "زوزو" أيضا، هو نوع من التنميط، إلا أنّ واقع تجسيد الشخصية يخالف هذا الرأي، لاسيما وأنّ كلّ من كان على معرفة بزوزو ويلتقي به في شوارع دمشق، يدرك أنّ القائمين على هذا العمل المسرحي لم يبتدعوا أي شيء في شخصية "عطيات" يخالف سلوك وشخصية "زوزو"، وإنما تمّ نقل شخصيته بحرص وأمانة ودون أيّ مبالغة، وحتى دون إصدار أحكام مسبقة، وهذا ما برز واضحاً ضمن الحوار الذي احترم شخصية "عطيات" ولم يتعاط معها بما يقلّل من شأنها. وقد يعتقد البعض الآخر، أنّ الهدف من إبراز شخصية "عطيات" في هذا العمل المسرحي بقصد السخرية والاستهزاء إلا إنّ الواقع يخالف هذا الاعتقاد، فالجمهور لم يتعامل مع هذه الشخصية بازدراء أو سخرية، وعلى العكس قوبلت بكثير من التصفيق، كما ولابد من فهم سياق تلك المرحلة التي عرضت فيها المسرحية والحالة التي تمتّع فيها "زوزو"، فقد مثّل حالة فريدة في المجتمع الدمشقي، ومن المهم تسليط الضوء عليها وإدراجها في سياق الأعمال الفنية، لاسيما وإنّ الفنون تلعب دور هام في توثيق جزء هام من التاريخ الشفوي للمجتمعات.

فمن على خشبة مسرح سينما الأندلس في الكويت بتاريخ ٢ آذار ١٩٨٠، ظهرت الراقصة "فضيحة حركات" وتبعتها "عطيات" بكلّ أنوثتها الطاغية وسط تصفيق وترحيب الجمهور الكويتي الذي لم يستنكر حضور شخصية محسوبة على مجتمع الميم-عين، وإنما رحب بظهورها.

مسرحية "كاسك يا وطن" أول عمل فني عُرض على خشبة المسرح السوري وجُسّدِت فيه شخصية حقيقية تنتمي إلى مجتمع الميم-عين، ومعروفة في أوساط المجتمع الدمشقي في فترة السبعينيات والثمانينات دون الوقوع في فخ الاعتقادات والتصوّرات الخاطئة، وإنما من خلال تجسيد الشخصية بواقعية ومصداقية. 

وفي النسخة المصوّرة من المسرحية الكاملة الموجودة على منصة يوتيوب، والتي عرضت على خشبة مسرح أبو ظبي عام ١٩٨٠، نلاحظ أيضاً أنّ الجمهور الإماراتي لم يقم بأيّ ردّ فعل سلبي تجاه ظهور "عطيات" ولباسها أو حتى ضمائر مخاطبتها، وإنما رافق ظهورها بصحبة "فضيحة حركات" بالتصفيق الحار.

ليلى، وهي مهندسة تبلغ ٦٠ عاما اليوم، وهي أم لثلاثة أبناء، دوما تعيد مشاهدة المسرحية، فهي بالنسبة لها مرتبطة بفترة مهمة في حياتها وحياة وطنها قبل ما سمّي بفترة الصحوة في السعودية، والتي أثرت إفرازاتها على كافة مفاصل المجتمع الكويتي أيضاً من خلال شيوع التشدّد وترسيخ دور محوري للمؤسسات الدينية في المجتمعات وفي قمع كافة الأنشطة الثقافية: "في كلّ مرة أشاهد فيها مسرحية "كاسك يا وطن" وتظهر فيها عطيات أشعر بالحنين لتلك الليلة التي حضرت فيها "عطيات" بشكل مباشر على المسرح، لم تكن "عطيات" مجرد شخصية مرحة فحسب، وإنما مثّل ظهورها بهذه الأريحية وسط تصفيق الجمهور دليل على أنّ مجتمعي الكويتي في تلك الحقبة لم يكن يعرف التطرّف والازدراء للهويات الجنسية المختلفة، وعلى العكس فالناس أحبّت عطيات وعندما انتهى مشهدها وقف الجمهور وطالب بعودتها على نقيض مجتمعي اليوم المشبع برهاب المختلفين جنسيا وجندريا".

عن الطفولة، الاختلاف، والذاكرة

10 حزيران 2022
ترى الفنانة سارة خياط في هذا النص أنّ كل شيء يبدأ من مرحلة الطفولة، وأنّ من الخطأ الاعتقاد "إنو راحت وخلصنا وما لها تأثير على حياتنا"، لأنّ الحقيقة تكمن في...
الكويرية والعبور الجندري في المشهد الثقافي السوري (مقدمة)

03 حزيران 2022
يبحث الجزء الثاني من ملف "أصوات كويرية" في أماكن غير متعارف عليها، مخفية ومنسية، لكتابة تاريخ كويري سوري مختلف قليلا عن المألوف ومستوّحى من الثقافة الشعبية السائدة في الإعلام والأدب...

تتابع ليلى"أخبرني أحد أصدقاء والدي أنه سمع من أحد عملاءه السوريين أنّ شخصية عطيات هي شخصية حقيقية لشاب يعيش في دمشق، ومعروف باسم زوزو ويرتاد منطقة تدعى أبو رمانة بشكل دائم، وفي صيف عام ١٩٨٦ قمت بزيارة إلى سورية وتوجهت مباشرة إلى منطقة أبو رمانة للسؤال عن زوزو، وللأسف أخبرني العديد من أصحاب المحال التجارية أنه اختفى فجأة، ومن ثم قيل أنه وجد متوفي في منزله بعد مرور عدّة أيام من اختفاءه عام ١٩٨٣".

من خلال حديث ليلى نرى بأن هذا البحث عن شخصية "عطيات" يعدّ بمثابة تنشيط للذاكرة لدى البعض، فهذه الشخصية كما وسبق وأشرنا ليست شخصية فكاهية بقدر ما يرتبط وجودها بالسياق الاجتماعي في تلك الفترة، وهذا ما نوّهت له ليلى من خلال المقارنة بين مجتمعها الكويتي في تلك الفترة واليوم، وإنّ جاز القول مدى التقبّل المجتمعي للآخر المختلف، ولكن بشرط فهم ظروف تلك الفترة الزمنية، وهذا لايعني البتة بأنّ المجتمعات كانت ستتقبل الزواج بين المثليين مثلاً، وإنما كانت تتقبّل وجود شخصيات مثل  "عطيات" أو "زوزو"، وإن على مضض كما يحلو للبعض القول، طالما أنّ هذا الوجود لا يؤثر على المجتمع أو يعتدي على الآخرين. طبعا نحن هنا لا نحاول التبرير والمصالحة مع وصاية المجتمعات على المختلفين/ات جنسياً وجندرياً، وحصر حقوقهم بالوجود ضمن شروط ومعايير تفرضها المجتمعات، وإنما نحاول تقديم تفسير موضوعي لتلك المرحلة بناءاً على شهادات أفراد عايشوا تلك المرحلة وعدم تبني آراء وأفكار استشراقية مسبقة تحاول تجاهل الوجود العلني لهذه الشخصيات.

زوزو كحالة نوستالجية دمشقية

تقول سناء، وهي ربة أسرة وتعيش في دمشق في منطقة أبو رمانة بالقرب من موقف نورا أو كما تحب سناء تسميته "معقل الزوزيات" نسبة لتجمّع زوزو مع أصدقائه في تلك المنطقة بشكل يومي: "تمثل مشاهد عطيات في كاسك يا وطن حالة من النوستالجيا بالنسبة لي، فأنا من الجيل الذي عاصر "زوزو" الذي كان يتردّد بشكل يومي على بوابة مدرسة السلام في منطقة الشعلان، مستغلاً وقت انتهاء الدوام الدراسي وخروج الفتيات واصطفاف الشبان المراهقين على جنبات الطريق في استعراض مواهبه في المشي بأنوثة على غرار طريقة عارضات الأزياء، ويرمقنا بنظرات الازدراء واتهامات الغيرة من جماله وأناقته، وحينما كنا نسأله عن "عطيات" كان ينتفض ويقول بأنّ هذا الدور أساساً كان مخصّصا له، وأنه رفضه ولكنه قد درّب حسام تحسين بيك عليه، وطبعا كلنا كان يعلم بأنه هذا الأمر غير صحيح، ولكننا كنا نخاف أن نواجهه بالأمر بسبب لسانه السليط. وبشكل عام "زوزو"، سواء اتفقنا أو اختلفنا معه لم يؤذ أحد، ولم يكن يتعرّض لأحد بأي شتيمة إلا في حال الاعتداء عليه لفظيا، فالمجتمع الدمشقي تقبّل وجوده دون أن يفرض عليه أي وصاية، وظهور "عطيات" بهذا الدور على المسرح وسط التصفيق والهتاف المرّحب دون أي اعتراض، هو خير دليل أنّ مجتمعنا تقبّل الاختلاف، طبعا هذه من وجهة نظري الخاصة".

بسام (اسم مستعار) وهو أحد أخوة زوزو في عائلته المختارة عائلة "رزق"، وهو موظف متقاعد أعزب يبلغ ٧٠ عاما يقيم في دمشق، ولا يزال كلما شعر بالوحدة يرتاد مكتب عنبر في الشعلان ويزور قبر صديقه زوزو حسب قوله في مقبرة الشيخ خالد في منطقة ركن الدين. يرى بسام أنّ هذه المسرحية، وبشكل غير مباشر، حاولت مواجهة اتهام العمالة الذي كان يوّجه لزوزو حينما كان حيّاً، وبعد وفاته، ويظهر ذلك من خلال الجملة الأخيرة التي قالتها عطيات "إسرائيل حتروحي فين يا صهيونية"، وهي رد على كافة الأفراد الذين اتهموا زوزو بالعمالة نتيجة عمله في تنظيف بيوت كبار المسؤولين السوريين، وإشاعات عن تسريب المعلومات للجيش الإسرائيلي بسبب صورة كان يضعها زوزو في رقبته وتصوّره وهو في القدس، ويذكر بأنّ زيارة القدس لم تكن ممنوعة على السوريين قبل نكسة حزيران ١٩٦٧.

مثّل "زوزو" حالة فريدة في المجتمع الدمشقي، ومن المهم تسليط الضوء عليها وإدراجها في سياق الأعمال الفنية، لاسيما وإنّ الفنون تلعب دور هام في توثيق جزء هام من التاريخ الشفوي للمجتمعات

يروي بسام: " في إحدى الليالي وعندما كنا نقف عند "مكتب عنبر" في شارع الشعلان الرئيسي جاءت عزيزة " زوزو" كما نحب أن ندلعها، وهي تتمختر وأخبرتنا أنها حصلت على ١٠ بطاقات لحضور مسرحية "كاسك يا وطن" على الخشبة كهدية من وزير الدفاع مصطفى طلاس الذي قال لها وحسب روايتها أنه عندما رأى "عطيات" في العرض الأول للمسرحية أنه قال لحافظ الأسد هذا تجسيد لزوزو الصبي الذي ينظف المرايا والثريات في منزلي".

ويتابع بسام: "أخبرتنا عزيزة "زوزو" أنّ طلاس وعدها بأنه سيكون لها الدور الرئيسي في أعمال مسرحية قادمة، والمهم عندما ذهبنا لرؤية المسرحية، وعندما ظهرت "عطيات" انتفضت "زوزو" وقالت تمثيل فاشل وأنا أحلى من هالشرم...., إلا أنه في نهاية العرض حاول زوزو إلقاء التحية على حسام تحسين بيك إلا أنه كان قد غادر".

يختتم بسام حديثه بالقول: "قلّة قليلة من المجتمع ظلم زوزو، ولكن الماغوط أنصفه".

لايمكننا تبني أو نفي إسقاط شخصية زوزو على شخصية عطيات على الرغم من التطابق الكبير في الكثير من التفاصيل، ولكن نترك هذا الأمر للجمهور المتلقي، إلا أنّ الأمر الأكيد أنّ مسرح محمد الماغوط، وقبل ٤٣ عاما لم يظلم عطيات ويستثمرها بطريقة مسيئة شأن العديد من الأعمال الفنية اليوم التي تستغل وتستثمر شخصية أصحاب الهويات الجنسية والجندرية غير النمطية واللامعيارية.

[i] كتابة محمد الماغوط، إخراج خلدون المالح، بطولة دريد لحام

[ii] تيسير خلف، وقائع مسرح أي خليل القباني في دمشق ١٨٧٢ – ١٨٨٣، دار المتوسط، ٢٠١٩.

[iii]لقراءة تفصيلية أكثر عن مصطلح "الجو" وتاريخه، الإطلاع على المقال التالي: آرام ميداني، "سيفونة، دوتا، مطمشيت: بعض خفايا ومصطلحات مجتمع المثليين في سوريا"، رصيف ٢٢، ٧ |أبريل ٢٠٢١.

[iv] هذه المعلومات مبنية على مقابلة مع بسام (اسم مستعار)

مقالات متعلقة

كوير سوري في نويكولن البرلينيّة

25 آذار 2022
في رحلته المستمرة، يحكي لنا عمر في هذا النص عن رحلاته المتعدّدة، على مستوى الجسد والفكر واكتشافه لهويته الجنسيّة التي لم يكن يعرف عنها أيّ شيء في سوريا، إذ احتاج...
قهوة صغيرة بالشام

01 كانون الثاني 2021
"الاختلاف مش جريمة" جملة انتشرت على النت بشكل كبير بعد خبر انتحار سارة حجازي.  كتير من السوريين استعملوها كشعار وحطوها عصفحاتن وصورن الشخصية. هاد الشي خلاني إرجع بذاكرتي لورا شوي....
ثورةٌ ما بين جندري ووطني

05 كانون الأول 2020
"أدرك بقسوة وبهجة أن أي ثورة بدأت بذاك الجمال ولاقت ما لاقت من قمع شنيع، لم ولن تموت. يوماً ما سأشارك عائلتي من الكويريين والطنطات النشاط والأمل. ومن غير خوف،...
تحت ظلّ ذاك العلم

13 تشرين الأول 2020
"معظم الأحيان كنت أضطر لاستئجار سيارة تكسي لطريق يعدّ المشي فيه خياراً أفضل، صرفت في سبيل ذلك نصف دخلي الشهري من الوظيفة تقريباً، كي أتجنّب ما استطعت تحديق الآخرين بي...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد