إدوار شهدا... من الفن الملتزم إلى اللون المختلط بالرموز ومخاضات الحرب

"الفن يًخرِّب أي تنظيم. هو نوع من التدمير"


"الفن لا يُعَرَّف. الفن قضية، ومتى ما وضع في قالب، ينتهي دوره في الحال" و "الفن مثل عملية الخَلْق: لا أحد يعلمُ كيف خُلِق. والشعارات التي تنادي بأن الفن ثورة، والفن يُغيّر، هي شعارات لا قيمة لها"، هذا ما يقوله الفنان التشكيلي إدورار شهدا، في حواره مع حكاية ما انحكت، حوار يطلّ على بدايات الفنان وإيمانه بالفكر الماركسي، الذي "لا يزال صالحاً رغم التناقضات والخيبات والانهيارات"، تلك الانهيارات والهزائم التي لم تشعر الفنان بالخيبة، "لأنّنا، طوال عمرنا وحتى الانهيار، كنا نعيش الخيبات والصدمات".

04 تموز 2023

محي الدين ملك

فنان تشكيلي سوري، أقام العديد من المعارض داخل وخارج سوريا، يهتم ويكتب عن الفن التشكيلي.

يد الفنان لا تُفارق غليونه، يتكلم بهدوءٍ مثل ذكريات ثقيلة ترسله السنوات البعيدة، الماضية. كان وقت الظهيرة، ورائحة الظلال الشفافة تفوح من السقف الخشبي العتيق، ومن الجدران الطينية، مخلَّفة ما يشبه أطيافاً تهيم في تناغمٍ حنونٍ في أرجاء المكان.

جلس طويلاً، وتكلم كثيراً، مسترجعاً زمانه الغابر على أنغام موسيقى كلاسيكية. راحَ يُحدّثني عن بداياته مع الرسم، ويتذكّر أيام الدراسة في كلية الفنون الجميلة، وجمالية رسم عمّال الحجارة في مقالع برزة الدمشقية، إضافة إلى علاقته بالحزب الشيوعي السوري، وأسفاره، وأشياء أخرى عبَّرَ عنها بالكلمة، أو باللون الذي هو عالمه، ورصيده الصافي، رغم كلّ التناقضات التي عاشها، والأحلام التي تحقّق منها، وما لم يتحقّق.

"من أين أبدأ الكلام؟".. فكّرت كثيراً في عبارة "رولان بارت"، وربطُّتها بالتفكير في حياة هذا المكان القديم جداً، وفي حياة هذا الفنان.

أنا أفكّر كثيراً في الطفولة. هذه بداية جيدة للحديث مع فنان بلغ هذا العمر، وفي التَّحلُّق في الذرى البعيدة شيء من الشعور الممتع بالدهشة والنقاء.

 

(1): لنعد إلى البدايات.. كيف كانت؟

الفن والمجتمع في سورية.. ملامح أولية

28 شباط 2019
دفعت الحالة السورية الاستثنائية، منذ ربيع 2011، إلى طرح السوريين، ومن بينهم الفنانون، أسئلةً جذرية حول معاني الهوية والانتماء والعمل الفني. أتت هذه الأسئلة مرفقة بسيرة الفنان الشخصية وصلته الحياتية...
الفن السوري: روايات عن الأمل واليأس والثبات

17 كانون الأول 2016
تحلل نتالي روزا بوخير في هذا المقال رحلة الفن السوري من زمن الاستبداد إلى زمن المنفى اللبناني، معرجة على حكايا الفنانين في ظل الاستبداد قبل عام 2011 وفي ظل الثورة...

البدايات قديمة... كنت صغيراً عندما بدأت أرسم، نقلتُ من الصور، ورسمت على البللور. في مدينتي، حماه، بدأت طفولة الرسم. كان والدي معلّم بلاط، وفي الورشات كنت أتأمل شكل البورسلان وملمسه المفعم بالخطوط والحركة، وانعكاساته اللامعة، فأرسم عليه. ثم فيما بعد، انتقلَ موضوع الرسم إلى مجال أوسع.

تعرفت على أصدقاء الحارة، "بركات عرجه"، و"موفق جمّال"، وهؤلاء كانوا رسّامين أكثر منّي، كنّا نخرج إلى الطبيعة: غابات حماة المفعمة بالضوء ودرجات الأخضر، والضباب، وإلى نواعيرها التي لا تكلّ ولا تملّ من الدّوران، وعلى ضفاف نهر العاصي وصوته الذي يختلط بالحكايات.. من هنا، وجدّتُ متعة الرسم، وبدأت أرسم من الواقع، أي قريباً من طبيعة الأشياء.

كنت في عمر  الرابعة عشر أو الخامسة عشر، تحديداً أيام حرب 67، عندما بدأت أقتنع أنّ الرسم قدري، ومسألة حياة. تلك هي بداية مستقبلي.

في نهاية الإعدادية وبداية الثانوية، التحقت بمركز "سهيل الأحدب" للفنون، وهنا بدأ الرسم يتجه نحو الاحترافية أكثر، أي وفق أصول الرسم، والتقنيات المختلفة: زيتي، مائي، فحم، رصاص. وفي هذه الفترة، كنت متأثراً بأستاذنا الفنان نشأت الزعبي.

بعد مرحلة الثانوية قرّرت دخول كلية الفنون الجميلة، في دمشق، سنة 1971.

(2): حدثني عن منجزك الفني، أعني مشروع التخرج وعلاقته بانتمائك الحزبي، ونظرتك السياسية - الاجتماعية..

بداية، كانت الرؤية بسيطة. كنّا تحت تأثير الأجواء الوطنية، وأفكار كثيرة كانت تنهض: شيوعيين يترأسهم خالد بكداش، كنت منهم، والاشتراكيين العرب، والحزب الناصري، بالمختصر، جوٌّ وطنيٌّ متعدّد الأطياف.

كان الحزب الشيوعي واحد، وفيما بعد حدثت انقسامات، وانبثقت منه جماعات... كنت متأثراً بالاشتراكية، وخاضعاً للفن الواقعي الاشتراكي: الفنانين الروس، والألمان الشرقيين، والبلغاريين.. إلخ.

هنا، بدأ أُفُقي يتّسع. كنت أبحث عن الأفكار في كلّ مكان: قراءة الأفكار الثورية، ومشاهدة لوحات الفنانين الكبار: رمبراندت، غويا، كوربييه، دومييه... هذه كانت الخلفيات النظرية لمشروع تخرجي، وموضوعه "عمال مقالع الحجر"، سنة 1974 / 1975 / 1976. وكان جميع الأساتذة يقدّمون النصائح الأكاديمية دون فرض آرائهم الخاصة، منهم: محمود حماد، فاتح المدرس، إلياس الزيات، نذير نبعة، ونصير شورى.

(لوحة للفنان إدوارد شهدا/ خاص حكاية ما انحكت واللوحة تعرض بإذن من الفنان)

أحببت تأمّل الصخور، وقيام العمال بتكسيرها، وقطعها، والظمأ إلى كلّ ذلك بأشكال ومضامين جديدة، لذلك، كنت أخرج إلى منطقة برزة الدمشقية، حيث توجد مقالع الحجر. وهناك رسمت "سكيتشات" كثيرة، محاولاً محاكاة درجة الارتباط بين صفات الحجر وبُنية العامل. هذه كانت الخطوة الأولى للمشروع، وهذا ما أكّدت عليه في لوحات التخرّج، أي، حياتهم، أحلامهم، وأحببت أن أُجسّدها، فإنّ التأملات فيها مؤثرة كالأفكار التي كنت أؤمن بها.

(3): حسناً، ألم تتأثر بنذير نبعة؟ هو أيضاً أنجز مشروع تخرجه خلال دراسته في القاهرة، وكان موضوعه "عمال المقالع!

لا. لم اطّلع على مشروعه المذكور، أبداً، والسبب ببساطة هو أنني كنت صغيراً، إضافة إلى عدم توّفر الصور والمعلومات، ولاحقاً، عندما بدأت أُحضِّر لمشروع تخرجي، كان الفنان "نبعة" يعمل على تجربة الدمشقيات.

(4): لموضوع العمال صلة بالفكرة التي كنت تؤمن بها، أعني الفكر الماركسي - الاشتراكي.. أليس كذلك؟

(بهدوء) نعم، ولكنني أخذت الجانب الأبسط من الماركسية، أي قضية العمال. بمعنى أدق، رسمتُ العمال، كونهم الخلية التي ستحقق المستقبل. من هذا المنطلق، حاولت أن أُبرز أشكال العامل، ومدى شبهها بأشكال الصخور التي تفرض طبيعتها... ومن خلال التعامل اليومي، فيحدث ما يشبه التماهي، ووحدة الحال كظاهرة معبّرة عن للهدف ذاته في سلسلة ظواهر الديالكتيك..

(5): صورة مقبولة، حينها، لكن، أودّ أن أربطها بجانب آخر من السؤال، أعني، وبعد هذه المسافة الزمنية التي تسترجعها؟ كيف تُفكّر أو تنظر إلى مفهوم البروليتاريا، والكفاح، والمعاناة؟ كيف تقرأ الماركسية؟

الفكر الماركسي لا يزال صالحاً رغم التناقضات والخيبات والانهيارات التي أصابته.

الماركسية ليست فكراً جامداً، هي حياتية متحركة قابلة للتطوّر، والانزياح، بحسب المجتمع، والزمن.. لكن، أصبحت الماركسية مشكلة عندما تحوُّلت إلى عقيدة ثابتة.

نعم، اليوم، اختلفت الرؤى. العمال لم يعودوا بروليتاريين بالمفهوم الماركسي. تغيّر الاستغلال إلى أشكال أخرى. استفادت الرأسمالية من الماركسية، وطبّقت الكثير من مبادئها لصالحها، بل واستفادت من الماركسية أكثر مما استفادت الماركسية من ذاتها.

أخذت الجانب الأبسط من الماركسية، أي قضية العمال. بمعنى أدق، رسمتُ العمال، كونهم الخلية التي ستحقق المستقبل

بالنسبة لي، تغيّرت طريقة التعامل مع هذا الفكر، أيضاً، فباتت قضية الإنسان هي قضيتي، بغضّ النظر عن كونه عامل أو فلاح أو.. إلخ، هو إنسان، وإنسان، فقط.

نتيجة خبرتي في الحياة، ونتيجة التغيّرات التي أصابت المجتمع خلال خمسين سنة، مضت، بات من غير الممكن أن أحمل تلك الأفكار كما هي، وإلا فلا مكان لي. بعضهم مازالوا يتغنون بأفكار تلك المرحلة، ويحلمون بها..

بين عامي 1989 و1993 سافرت إلى الاتحاد السوفياتي، لغاية العمل. أنا والفنان غسان النعنع. وخلال هذه المدة.. تعرّفت على الفن الاشتراكي عن قُرب.

(6): لنقل كنت ماركسياً عن بُعد، أما عندما سافرت إلى الاتحاد السوفياتي، وعشت هناك، كان البلد في ذروة البيروسترويكا، وبداية الانهيار. هل انصدمت من الفكر الماركسي، أي، بين الذي عرَفتَه في سورية، وبين الذي رأيته وعشته هناك؟

نصوح زغلولة: ثلاثون سنة وأنا أصوّر الشام… لم تعد الشام كما هي

18 شباط 2022
هو ابن الشام الذي أحبّ الريف، وفيّ لأصدقائه ولمعلميه، يتباهى بأنه تعلّم منهم وهو المعلّم المتفرّد، مهووس بالعصافير التي رحلت هي الأخرى، مثلها مثل شام"هـ". "أيّ ثقب في أيّ باب...
في ما يُعوَّل وما لا يُعوَّل عليه - حوار مع الفنان والخطّاط منير الشعراني

07 أيار 2022
"هَمّيَ السياسي مستمر بدءًا من لوحاتي الأولى: "مالكم كيف تحكمون"، و"كلّ حال يزول"، و"كلّ فن لا يفيد علماً لا يُعوّل عليه". وحتى أعمالي الأخيرة، كلّها تدل وتعبّر عن توجّهي الفكري،...

نعم، والذي حدث هو الكثير من التناقض بين النظري والمطروح. لقد آمنا برؤية كانت بعيدة عن حقيقة الماركسية. وخلال تواجدي في الاتحاد السوفياتي حاولت أن أفهم، إلا أنني كنت أصاب بالخيبات دائماً. وما لاحظته (رغم ذلك) التقدّم الهائل للسوفيات. كانت الفترة الممتدة بين 1945 و1955 فترة ترميم هائل، وعلى كل الصُّعُد، أعني بعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية.

كانت الأرضية الاجتماعية الثقافية حاضرة، وعلى كامل مساحة الاتحاد السوفياتي، وأيضاً، التأمين المعيشي والصحي. طبعاً، كلّ ذلك كان على حساب الكثير من الأفكار الماركسية، والمبادئ الشيوعية.

(7): لكن في عهد ستالين أصبحت الثقافة والفنون أيديولوجيا مُحتكرة، بل ومختلفة عن الفكر الماركسي الأصيل، بمعنى، بدأت الأمور في عهد ستالين وما بعده تتّجه نحو انزياح واضح.

صحيح. (يتأمل)، حسناً، دعني أوضح بعض الأمور التاريخية... ستالين كان ديكتاتورياً، وقال عنه لينين أنه لا يصلح للقيادة، لأنّ ذهنه ذهن فلاح. ولكن وجوده في تلك الفترة العصيبة من حياة الاتحاد السوفياتي كان "أمر واقع". ولم تكن المشكلة في ستالين كفرد، بل كمنظومة. مثلاً، كان بليخانوف وتروتسكي وغيرهما، هؤلاء، أدلجوا الثقافة والفن..

(8): وستالين انقلب على بليخانوف..

نعم. تناقضات. حتى شخصية ستالين كانت متناقضة. مثلاً، عندما ألَّف لشوستاكوفيتش سيمفونيته الأولى، منعها ستالين من عرضها على مسارح الاتحاد السوفياتي، ولكنها عُرِضَتْ في أمريكا، ورغم ذلك كان ستالين يتواصل مع لشوستاكوفيتش ويسأله عن السيمفونية. كان مهتماً بالرغم من حجم التناقضات.

(9): كنتَ هناك عندما حدث الانهيار، أتأثرتَ بالصدمة؟

(بهدوء)، كنّا نتوّقع. شاهدنا على الشاشات صراع غورباتشوف ويلسن، وألغيت المادة التي تنصّ على قيادة الحزب... كلّ هذه المظاهر ووقائع أخرى كانت تدل على حتمية الانهيار.

ثم رأينا كيف نُهِبت المخازن، ومراكز التسوق، وسيطرت المافيات على الأحياء والمدن: الأمان مقابل الخُوَّة.

(10): هل تغيّرت نظرتك للاشتراكية والبروليتارية، خاصة، بعد "البيروسترويكا"؟

طبعاً. البيروسترويكا، كانت لإعادة البناء. والحقيقة لم تتحقّق، إنما نقيضها"، أي، "الديسترويكا".

(11): بين قوسين، ألم يشعر جيلكم بالخيبة، أيضاً؟

الحقيقة، أننا لم نشعر بالخيبة، لأنّنا، طوال عمرنا وحتى الانهيار، كنا نعيش الخيبات والصدمات. أضف إلى ذلك، حرب 67، وحرب 73.. وحرب هذه السنوات... كلها صدمات!

(12): على ذِكْرِ نكسة 67، فعلاً، لقد تركت آثارها على المنطقة كلها.. وعلى المثقفين والمفكرين والفنانين على وجه التحديد. هل في تجربتك الفنية ما يُشبه مساءلة الهزيمة؟

نعم. (يصمت قليلاً).

أولاً، كنا صغاراً عندما حدثت النكسة، ولكن، لاحظنا تأثيراتها في تجارب الفنانين، أمثال نذير نبعة، ولؤي كيالي..

ثانياً، وعلى الصعيد الشخصي/ الفني، لم أفصل الهزيمة عن الخيبات السابقة، ومن قبلها، وبعدها.

(لوحة للفنان إدوارد شهدا/ خاص حكاية ما انحكت واللوحة تعرض بإذن من الفنان)

وحتى أكون صادقاً، أقول: كانت هزيمة 67 نتيجة حتمية ومنطقية لخلل أكبر: الاحتلال الإسرائيلي، الخيانات، التنازلات، غياب الإعداد النفسي، العنتريات الفارغة، الشعارات الرنانة... كلّها، علامات بديهية لحدوث "الهزيمة"، وما يحدث اليوم. وللأسف، الأمرُ مؤلم!

(13): قراءة صادقة، وإن كان فيها ما فيها من المرارة. لكن، لو سمحت لي، دعني أربط ما سبق بموضوعنا. أنت تعلم أنّ الكثير من الفلاسفة والكُتّاب والفنانين الماركسيين، حاولوا تصحيح مسار الماركسية بعد "ستالين" خاصة. هل في تجربتك "مقاربة" تتّصل بالتفكير (النقدي – الفني – الجمالي) الماركسي، وربطه بالهزائم أو تجاوزها؟ هل الفن مُقاوِم ويُغَيِّر المجتمع إلى الأفضل والأجمل، أم أنه كذبة جميلة؟

سؤال جميل، ويحتاج إلى قراءة طويلة وعميقة. لكن، بإيجاز. في تاريخ الفن، تجد مئات التعاريف للفن، وكلها متناقضة. والسبب هو أنّ الفن لا يُعَرَّف. الفن قضية، ومتى ما وضع في قالب، ينتهي دوره في الحال.

الفن مثل عملية الخَلْق: لا أحد يعلمُ كيف خُلِق. والشعارات التي تنادي بأن الفن ثورة، والفن يُغيّر، هي شعارات لا قيمة لها. أهمية الفن تكمن في كونه موجود، ولا يوجد إلا مع سِعة الآراء والأذواق.

(14): لكن ستالين (على سبيل المثال) قوَّض الفن لمصالحه. بمعنى، يمكن الاستعانة بالفن، وتحويله على الأقل إلى بروباغندا، أو قوة ناعمة، للسيطرة. أليس كذلك؟

صحيح.. صحيح. لكن، في المقابل، كان ثمّة اتجاه مغاير، استطاع أن يتخلّص من هذه السيطرة، ومعارضة الأفكار والرؤى المتعفنة.

ثم أنّ هذا الأمر المتصل بالفن لم يكن موجوداً فقط في عهد ستالين، بل حتى في العصور القديمة جداً، واللاحقة أيضاً.

الفن يًخرِّب أي تنظيم. هو نوع من التدمير.

(15): تدمير ماذا؟

الأفكار السائدة. عندما تنهار المجتمعات، يبدأ الفن بالارتقاء إلى مستوى أرقى وأعلى من الرؤية الاجتماعية المُكرَّسة، لأنّ الفن لا يقف عند رأيّ جماعة أو فرد.

(16): ما الجديد الذي أضفته إلى تجربتك الفنية خلال تواجدك في الاتحاد السوفياتي؟

اطّلعتُ على جميع الفنون التي كانت شبه ممنوعة في فترة ستالين، واللاحقة. أعمالٌ فنيةٌ مدهشة بدأت بالظهور، خاصة عندما انهار الاتحاد السوفياتي (كنت هناك).

(لوحة للفنان إدوارد شهدا/ خاص حكاية ما انحكت واللوحة تعرض بإذن من الفنان)

استفدتُ كثيراً من لوحات الأساتذة الكبار. بعضهم كانوا مؤدلجين، ورسموا أعمالاً مذهلة.

في فترة لينين وستالين، ثمّة لوحات شُغِلت بتقنيات عالية، لكنها لا تملك مضموناً فكرياً، يستحق..

(17): في أعمالك بعض من تأثيرات الفنان الروسي "مارك شاغال": الأسلوب، والخفة، والغنائية اللونية.. هل توافقني؟

طبعاً. بعد عودتي من روسيا، تأثرت كثيراً بشاغال. بدأت أخرج من فكرة أنصاف اللون. انبهرت بأعماله، وفي مرحلة من تجربتي حاولت أن أعبّر عن هذا الانبهار برؤيته الفنية، ومعالجته للون... وهذا التأثير أخذني إلى مرحلة جديدة..

(18): وهي..

مراجعة شاملة لثقافتنا، ولكلّ المراحل الدراسية التي لا تجد فيها إلا روح الفن الغربي/ الأوروبي. أي، علمونا أنّ الفن هو فان جوخ، ومانيه، والمدرسة الكلاسيكية، والانطباعية، بينما تكتشف بطريقة أو بأخرى أنّ ثمّة فنوناً مُغيَّبة، كالهندي، والصيني، والياباني، وفن المنمنمة، والأيقونة السورية.. كلّ هذه الاحتمالات الجديدة فرضت عليَّ البحث عن أسلوب جديد لمعالجة الفنية.

طبعاً، هذا التأثر بشاغال، يعود إلى فترة التسعينيات، وحتى بدايات القرن العشرين، وأوصلني إلى التبسيط والاختزال، إضافة إلى الأشياء التي ذكرتها أنتَ. صحيحٌ أنّ الفكر مختلف، لكنهما يشتركان في الأرضية الفنية. إضافة إلى فكرة الموروث الشعبي الذي وظَّفه شاغال في أعماله، إضافة إلى القصة التي كانت أعماله تحملها.

(19): حدثني عن أولى معارضك الفردية.

عشر سنوات من القصص السوريّة المصوّرة

25 أيلول 2021
في أعقاب انطلاقة الثورة السوريّة تأسست "كوميك لأجل سوريا"، وقد جمعت بين فنانيين/ات سوريين/ا يأملون في فهم العنف والوحشيّة اليوميّة التي تحدث في بلدهم الأم، سوريا. هنا قراءة في تلك...

لا ألهث كثيراً خلف فكرة المعارض الكثيرة. كلّ خمس سنوات تقريباً أقيم معرضاً..

(20): هل من سبب وجيه؟

عندما تتوفر شروط تجربة، عندها يمكن عَرْض الأعمال. أولى معارضي كان في سنة 1979 بالمركز الثقافي السوفياتي في دمشق. وكانت الأعمال المعروضة هي من مجموعة أعمال التخرّج، إضافة إلى أعمال أخرى جديدة.

(21): هنا، بدأت علاقتك بالجمهور / المتلقي.

لاقت أعمالي في المركز السوفياتي قبول وإعجاب الجمهور.

(22): السبب!

(يُشعِل غليونه من جديد)، الموضوع. سأحدثك عنه..

كان مدير المركز آنذاك المرحوم سعيد حورانية، وأخبرته عن رغبتي في إقامة معرض. فطلب مشاهدة اللوحات، فأدهَشَتْهُ كثيراً. وكتب نص التقديم، يشرح فيه شكل اللوحات ومحتواها.

ثم أُيام المعرض، وكان الحضور كبيراً من الجالية الروسية، ومن السوريين، وأيضاً، من اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوري.

بعد ذلك، اشتركت في معرض بمناسبة الذكرى السبعين لتأسيس الحزب الشيوعي، وكان مكان العرض عبارة عن بيت "عربيّ" لأحد الأصدقاء، في منطقة "ركن الدين"/ كيكية. زار المعرض خالد بكداش، وبرفقته أعضاء اللجنة المركزية والسياسية للحزب. ثم جرى بيني وبينه حديثاً طويلاً عن لوحة من لوحات تخرجي، "عمال الحجارة"، ولوحات أخرى، رأى فيها سياسة الحزب، وأهمية الطبقة العاملة. هذا الذي أعجبه!

(23): ثم ماذا بعد؟

(يبتسم)، في تلك الفترة، كنت في حاجة إلى عمل، للعيش. حيث لا تُباع الأعمال الفنية، ولا شيء، فعمِلتُ في "الإسكان العسكري" كموظف مختص في أعمال الخشب والديكورات، واستمر الحال ثلاثون سنة. أنجزت خلالها الكثير من أعمال الاكساء والديكور والزّينة: مطار دمشق – المكتبة الوطنية – دار الأوبرا..

أهمية الفن تكمن في كونه موجود، ولا يوجد إلا مع سِعة الآراء والأذواق

تخلّلت هذه المرحلة الكثير من التناقضات: البيروقراطية، والروتين، والعمل في المكاتب.. ثم هَمُّ الرسم!

(24): هل تقرأ ما يتّصل بتجربتك الفنية؟

(مبتهج جداً)، نعم، كثيراً. أقرأ الأبحاث العلمية والفنية، والروايات (الأدب الروسي كله، وأخصّ بالذكر "غوغول" وروايته "النفوس الميتة"، وبولغاكوف، الأدب الفرنسي، أدب أمريكا اللاتينية، وخاصة، غابريل غارسيا ماركيز، حيث كنت قد اقتبست من نصوصه السحرية ما يتوافق ورؤيتي الفنية).

(25): أعود إلى سؤال الفن. أتفق معك في أنّ الفن لا يُعَرَّف، لكن، خلال تجربتك الفنية الطويلة، لا بد وأنّك قد توصلتَ إلى خلاصات تُشَخِّصُ بها الفن، وإلى أهدافك منه.

بالنسبة لي، الفن حاجة يومية. أما ما تعنيه هذه الحاجة الخاصة للناس، فلا أفكر به.

كنت في بداياتي أرى أنّ الفن جماهيري، وأنه للشعب.. إلخ، لكن، اليوم، لم تعد هذه الأمور تعنيني.

(لوحة للفنان إدوارد شهدا/ خاص حكاية ما انحكت واللوحة تعرض بإذن من الفنان)

الفن (بغض النظر عن الفلسفات)، هو حاجتي إلى التعبير عن تلك الأشياء التي تدور في رأسي. الفلسفة ضرورية للتفكير، فقط.

(26): دعني آخذ السؤال إلى غاية أخرى. باعتبارك كنت ماركسياً، لا بدّ أنك تعرف مقولة ماركس، "الفلاسفة فسروا العالم بأشكال مختلفة، الآن حان الوقت لتغييره". هل تسعى من خلال تجربتك إلى تغيير شيء ما، أي شيء؟

لنفهم ما هو التغيير؟!

الفن، بكلّ أنماطه، يغيِّر من مزاج المجتمع، لكنه لا يُغيّر المجتمع، لأنه ليس ثورة، كما أُشيع عنه. وإن كان له حظٌ من التغيير، فلا يكون إلا في المدى البعيد. إنّ ما يتركه الفنان من قيم جمالية، تُصبح لاحقاً من مفردات الناس، ومجالٌ للتفكير، يومياُ.

هذا هو التغيير برأيي. الفن يُغيّر من طرق الرؤية والتفكير.

أحياناً، أشعر برغبة شديدة في وضع لمسة هنا، أو بقعة هناك، أو التناغمات اللونية المأخوذة من عالم الموسيقى .. لماذا؟ لا أعلم. لكنني، عندما أفكّر بها، وأضعها في التكوين، أقول: هذا هو!

نعم، كما وضّحتَ أنت، في أعمالي نمط تفكير روحاني، أشعر به لونياً، تصويرياً، ولكنني، في الوقت ذاته، ليس عندي القدرة على ترجمة هذا الشعور كلاماً. أضف إلى ذلك، إنّ هذا النمط الروحي لا يُعبَّر إلا من خلال الخبرة الفنية.

(27): على سيرة الخبرة. هل تشعر في بعض الأحيان بالفشل في تحديد معالم اللوحة، وإنجازها، أخيراً؟

(يضحك)، نعم، كثيراً ما أفشل..

(28): لنقف عند معرضك الأخير، في غاليري "كامل"، دمشق، 2022. حينها، وبعجالة قلت لك: اللوحات طافحة بالدلالات السياسة، وبالعزلة، والهروب من كلّ التاريخ الحالي، خاصة في لوحتك "خريف البطريرك".

(يميل بصمت)..

نعم. تميّزت لوحات المعرض باختلافات واضحة، من حيث الموضوعات. لوحة "خريف البطريرك"، مثلاً، مأخوذة من الرواية التي تحمل الاسم نفسه، لماركيز، وأخذت من هذه الرواية المدهشة رموز اللوحة ودلالاتها الكثيرة، وحوّلتها إلى صيَغٍ تشكيلية، لمضمون محدّد يتناسب عالمنا العربي الاجتماعي والسياسي.

(29): ما سبب غياب النقد الفني الجاد؟

أولاً، لأنّ الحركة التشكيلية في سورية حديثة العهد (100 سنة تقريباً). ولا يمكن مقارنتها بأي حركة فنية في العالم. صحيح أنّ الفن بدأ من هذه المنطقة الجغرافية، لكنه لم ينتهي عندها، والأسباب كثيرة..

عندما تنهار المجتمعات، يبدأ الفن بالارتقاء إلى مستوى أرقى وأعلى من الرؤية الاجتماعية المُكرَّسة

ثانياً، وللأسف، بطبيعتنا لا نُحب النقد، إما أن يكون من باب المدح الهزيل والسخيف، أو نرفضه. إذا وجِّهتَ نقداً حقيقياً لتجارب كبار الفنانين السوريين، فلن تواجه إلا الرفض، مباشرة.

النقد هو خارج دائرة معرفتنا. لذلك، نجد نقاد اليوم  توفيقيين.

خُذ على سبيل المثال مجلة "الحياة التشكيلية، فيها من الموضوعات الجيدة، ولكنها، لا تصلح كعملية نقدية. وقِسْ على ذلك: لا يوجد تحليل.

(30): علاقتك بدمشق القديمة، وفيها مرسمك منذ سنوات..

أحبها، رغم بؤسها. الحنين إليها ليست مجرد مزحة، أو كلمة عابرة، هو موجود..

(31): كيف تقرأ الأحداث التي جرت في سورية؟

الموت! هذا ما رأيته. وهذا ما أراه.

(32): هل من مَخرج؟

التغيير..

(33): هل من مشاريع جديدة؟

أعمل على لوحة كبيرة (ثمانية أمتار)، سميتها "شهداء الرأي"، وأهم عناصرها: غيلان الدمشقي الذي قُطِّعتْ أوصاله على باب "الكيسان"، والمسيح، والحلاج.

(34): ما هي المصادر التي تستقي منها؟ وكيف تُحيل الشخصيات التاريخية إلى واقع اليوم؟

آليات العمل السردي في اللوحة تختلف عن الرواية. في الرواية يوجد راوي، أما في اللوحة فيوجد شكل. سأرسم أشكال الشخصيات المذكورة بطريقتي ورؤيتي، كونهم، أصلاً، ينتمون إلى التاريخ، أي لا شكل لهم، ولا صور تدل على هويتهم الحقيقية. مع عناصر فنية أخرى وجديدة، ستُحَدَّد ملامح المعنى الذي أريده، وبالتالي، الغاية..

(35): كلمة أخيرة..

يحضرني قول بول كليه: "الفن لا يعكس الشيء المرئي، إنما يجعله مرئياً".

وشكراً."

مقالات متعلقة

إرهاصات التجديد في الرواية السوريّة

19 كانون الثاني 2021
ضمن ملف "الرواية السوريّة" الذي تعدّه وتحرره الروائيّة روزا ياسين حسن لصالح حكاية ما انحكت، تناقش المقالة الأولى للدكتورة نوال الحلح التغييرات التي طرأت على الرواية السوريّة خلال سنوات السبعينيات...
الرواية السوريّة: أسئلة الضوء في مواجهة العتمة

23 شباط 2021
"التحدّي أمام الأدباء المناهضين للفساد والظلم والدكتاتوريّة والقمع والقهر تجسّد في سرد الحكاية المعتّم عليها؛ حكاية أريد تناسيها وتجاهلها، والالتزام بتعرية الخراب الذي يراد له أن يتشكّل كهوية رئيسة من...
أحوال المسرح السوري اليوم

17 أيار 2021
في افتتاحيّة ملف "المسرح السوري" تكتب الدكتورة ماري إلياس، وهي معدّة هذا الملف، عن المسرح السوري، وتسرد في نظرة عامة واقع هذا المسرح وماضيه، وتحكي عن آليات الإنتاج وعن الكتابة...
صناعة المسرح: المشي على الحبل

14 حزيران 2021
يواجه صناع/ات المسرح السوريين/ات الآن، وبعد مضي ست سنوات على وصولهم إلى ألمانيا تحديّات صعبة متعلقة بجوهر العمل المسرحي، وربما يجد الكثير منهم  أنفسهم في موقف صعب، يقتضي إيجاد نقاط...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد