مع اقترابِ ذكرى استشهاده، وبعد سبع سنوات على رحيله، أمسك قلمي وأفتح دفتري على أمل أن أتمكن من الكتابة عنه وله، وعنّي وحوله. أتأمل صوره الواحدة تلو الأخرى، أكبّرها أكثر وأدقّق في ملامح وجهه وعينيه وابتساماته المسروقة. ألامس وجهه بأصابعي وأتحدّث معه قليلاً، علّه يساعدني في تقبّل حزني؛ والكثير من الأسئلة التي تستوقفني: هل كان سيختار حمل السلاح ثانية لو عاد به الزمن إلى الوراء؟ هل تألم أو نزف كثيرا قبل أن يفارق الحياة؟
يُقال أنّ المرء يشعر بلحظة الموت قبل اقترابه أو حدوثه، فهل راوده هذا الشعور قبل استشهاده؟ هل كان عليه أن يرحل باكراً قبل أن يشيب شعره، ويكبر قرب زوجته وأهله ومحبيه؟ قبل أن يمضي وقتاً أكثر مع طفلته الصغيرة ويشاهدها تكبر بالقرب منه، ويكبر معها؟ هل ما زالت روحه تعيش وتتنقل بيننا ومعنا، في شتاتنا وترحالنا المبعثر بين مدينة الأتارب وتركيا وألمانيا وإنجلترا وفرنسا؟ ولو علم أنّ استشهاده لم يغيّر شيئاً، سوى بإضافة رقمٍ جديد لقائمة الراحلين وأمٍّ جديدة لقائمة الأمهات الثكالى، وأنّ نظام الأسد لم يسقط... هل كان ليستمر، وهو الذي دخل عامه الثلاثين حينما انتشله الموت منّا في شهر تشرين الأول. هذا الشهر الذي لخص حياته: ولد في بدايته وتزوّج في منتصفه واستشهد في آخره. وها أنا أكتب رثائي له في الشهر نفسه، على أمل أن يكون نصّي بمثابة وداع وجسد وقبر لمن لم أحظ بفرصة رثائه، ولا وداعه، ولا حتى بكائه.
بين الطفولة والمراهقة
في طفولتنا ولتقارب أعمارنا، أحمد وأختي وأنا، لعبنا معاً على سطح المنزل وتشاركنا ما نشتريه من مصروفنا الشخصي القليل، والمخصّص لنا لمرّة في الأسبوع، كما تقايضنا الأشياء بيننا، أعطي له ما أملك مقابل ما يملك، ولا مجال لإعادة ما تمّت مقايضته بالطبع. تشاركنا العقوبات والبكاء والنوم على فراشين يكفيان أجسادنا المنهكة (نحن الثلاثة) من مرح النهار وتعب الشقاء.
أمّا أحمد المراهق، فكان مختلفا عن ذاك الصغير الشقي، ومختلفًا أيضاً عن أختيه اللتين كبرتا معه. أصبح أقوى جسدياً، مندفعاً، انفعالياً، مرحاً بين الحين والحين، سريع الغضب وكثير الاستخدام ليديه.
كان متخبّطاً وضائعاً في محاولات التعرّف على واقعه الجديد ومحيطه وحدود رجولته ونفوذه ومجال سيطرته، على وقع مشاحنات وشجارات بينه وبين أختي طيلة فترة مراهقتهما. حدوده الذكورية ورجولته المتناقضة التقليدية البسيطة التي لم توّجه، ولم تهذّب، ولم تعرف حدّاً بمواجهة حدود أنثوية تقاتل بشراسة لمنع سيطرة الذكر عليها، كما تقاتل للدفاع عن حقها ومكانتها. تلك المشاحنات لم تكن شخصية بقدر ما كانت منمّطة اجتماعياً ومتوارثة، لكن الحبّ وذكريات الطفولة كانا دائماً الجامع والناهي للنزاع بينهما بعد جلبي لأمي كي تفض الخلاف بعد فشلي في حلّه طبعاً، ولتنهيه بقولها المعتاد: "ولك شو صايركن، إنتو ما كنتو هيك، كنتو حناين على بعض من صغركن والله عيب، يالله تصالحوا وبوسوا بعضكن".
أنهى أحمد البكالوريا وسجّل في كليّة الأدب الإنجليزي في جامعة حلب. لم يكن مرتاحاً، ولم يشأ إكمال تعليمه لذا قرّر الالتحاق بالخدمة العسكرية الإلزامية علّه ينتهي منها ويعرف ما يريد بعدها، على أمل أن يجد نفسه في مكان ومهنة ما.
في دمشق اجتمعنا مجدّداً بعد أن تغيّرنا
عندما رحل أحمد في السنة الأولى لأداء الخدمة في دمشق، كنت حينها في نهاية تعليمي الثانوي. اعتراني يومها شعوران متناقضان، الأول هو الراحة والتحرّر لأنه حرّرني من دور الوسيط الذي يعمل على فكّ طرفي النزاع بينه وأختي، والثاني شعور الفقدان، لأنّي لم أعتد غيابه لفترة طويلة بعد. افتقدت مشاركته كأس المتة وشربه لفنجاني القهوة وإطلاقه تعبيرات وأسماء ساخرة بدلًا من اسمي، وسخريته الدائمة من تصرّفاتي، وأظافري الطويلة، وشكلي، وكلامي... وافتقدت حتى أغانيه الحزينة التي كان يسمعها باستمرار لعمرو دياب وكاظم الساهر وغيرهما. لطالما كان طريفاً ومضحكاً ومسلّياً بطبعه.
في السنة الثانية لخدمته اجتمعنا في دمشق، بعد أن تركت منزل أهلي في الأتارب وانتقلت للدراسة في جامعة دمشق. بدت علاقتنا فاترة على غير المعتاد. لم يعد بإمكانه ولا بإمكاني أن نعود كما كنّا، فكلانا تغيّر من الداخل، والخارج أيضاً. فحياته خلال الخدمة وبعدها، ودراستي واستقراري الدائم في دمشق، زادا من البعد والفتور إلى درجة أنّنا لم نتعرّف على بعضنا بشكل كافٍ في شبابنا.
حين بدأت الثورة
حين بدأت الثورة، كان أحمد متزوجاً ولديه طفلة اسمها زينة، ويعمل في التجارة. في البداية كان يشاهد ويتحدّث وينتقد، ثم أصبح يراقب ويصمت ويراكم. وحين تعب من المشاهدة والشعارات وإحصاء أعداد الشهداء والمصابين والمفقودين والمجازر والضحايا والمعتقلين ونوع الطائرات والقذائف والصواريخ... جاء ذلك اليوم الذي أخبر فيه والداي أنّه سيحمل السلاح ويقاتل من أجل رفع الحصار عن حلب، وأنّ سلاحه بات منذ هذه اللحظة هو كلامه الوحيد، وأنّه لن يبقى مكتوف الأيدي بعد الآن. قراره كان قطعياً رغم محاولات إخوتي ووالدي المتكرّرة ردعه، لكنّه للأسف لم يتراجع. حمل أحمد السلاح.
خلال المعارك التي شارك بها، أصيب مرّة في كاحله، ومرّة أخرى في بطنه، لكنه لم يكن يتحدث عن إصاباته، ولا عن ألمه أو ما يرى ويشاهد ويسمع خلال المعارك، ولا حتى عن مشاعره أو كوابيسه. كان أصلاً قليل الكلام، وزاد الآن صمته أكثر.
أتذكر زياراتي للضيعة خلال إقامتي في دمشق لعدّة أيام، كان دائماً يخصّص يوماً لاستضافتي في منزله، على الرغم من خلافاتنا البسيطة المتعلّقة برفضه تدخيني السجائر أمامه مثلاً. كان دوماً، وخلال طريقنا إلى منزله يشتري ما أشتهي دون أن أطلب منه، وعندما نصل، يسارع لإشعال المدفأة قبل أن أشعر بالبرد، ثم يقوم بتجهيز المتة والأرجيلة. وكعادته كان يقول لي كلّ مرّة: "لا تبلشي ها، هالأركيلة بس لإلي، النسوان ما بصير يأركلوا، خلصنا، خلينا ننبسط واشربي متة". يسترق النظر إليّ وأنا أتأمله وأنظر للأرجيلة دون كلام، فيرق قلبه الحنون وتختفي ذكوريته الساذجة التي ورثها من أقرانه ومحيطه الصغير، والتي لا تشبهه، ليشاركني أرجيلة التفاحتين وكأس المتة، ثم يقول لي إنها ستكون المرة الأخيرة، والتي لم تكن كذلك أبداً.
الحديث مع أمي عنه
قرّرت في يوم ما تخصيص اليوم كاملاً للحديث مع أمي عن ذلك اليوم الذي استشهد فيه أخي، وماذا حصل قبل استشهاده؟ وكيف تلقت الخبر؟ وما كانت ردّة فعلها عندما رأته أمامها؟ اخترت يوماً يناسبها، وكي لا تبقى أسيرة مشاعرها بعد حديثنا، اخترت أن يكون صباحاً لتنشغل بعده بتحضيرات الغداء والقيام بزيارة لمنزل أختي. أخبرتني تفاصيل لم أكن قد سمعتها سابقاً.
خلال المعارك التي شارك بها، أصيب مرّة في كاحله، ومرّة أخرى في بطنه، لكنه لم يكن يتحدث عن إصاباته، ولا عن ألمه أو ما يرى ويشاهد ويسمع خلال المعارك، ولا حتى عن مشاعره أو كوابيسه.
في المعركة الأخيرة، كان أحمد غائباً عن المنزل لأربعة أيام، ولعدّة أيام كانت دائماً تراه في أحلامها ويقظتها شهيداً. كانت تشعر أنّ مكروهاً سيصيبه. في اليوم الخامس في معركة فُكّ الحصار عن حلب، كانت أمي في منزل خالتي، فأتاها خبر أنّ سيارة إسعاف في طريقها الى الأتارب، وفيها ثلاثة شهداء، لتقول على الفور: "أحمد بيناتن، أنا بعرف، ابني إجاني شهيد". وصلت أمي إلى سيارة الإسعاف وصعدت لتكون أوّل من يشاهد أحمد وجسده المنهك النائم، تقول: "يا أحمد اجيتني شهيد يا أمي، قلتيلي ادعيلي إن شاء الله جاييكي شهيد، صرت شهيد يا أحمد يا حبيبي". ثمّ زغردت له وضمّته وشمّت رائحته. وصلا إلى المنزل وتمّ وضعه في غرفة الضيوف، في محاولة للتشبّع من وجهه وملامحه قبل أن يرقدوا ذاكرته وجسده المنهك في القبر ليرتاح إلى الأبد، ولندرك جميعنا أنّ الموت لا يؤلم صاحبه بل يؤلم فاقديه، ووجع الفقدان لا يخف بتقادم الأيام، وبأنّ الحنين يزداد يوماً بعد يوم.
عندما كانت تحدثني، أحسّست بالدموع تنسال على خديها، حاولت أن تتمالك نفسها وأن تتوقّف عن البكاء. شعرت بغصّتها العالقة في حلقها، والتي تمنعها من الكلام، ورأيتُ دموعي تنجرف بخجل مع أمي. أحاول أن أتمالك نفسي لأجلها كما تحاول هي من أجلي. أحاول أن أتكلم لأواسيها، لكن الكلمات لا تخرج وصوتي مكتوم. نعيد المحاولة ثانية لنلملم بعضنا البعض من أجل بعضنا البعض، ثمّ تنهي أمي الحديث، ويبقى أحمد غصّة في قلوبنا وذاكرتنا.
بانتظاري في الأتارب بعد خروجي من المعتقل
خرجتُ من المعتقل بعد قرابة سنة. أتذكر حتى الآن تخطيط إخوتي لعملية تهريبي من دمشق الى الأتارب. جهزوا كلّ شي، هوية لفتاة من الأتارب قريبة من عمري، حجاب وعباية وشال لوضعه كخمار خلال الطريق إلى حلب، أيّ لباس ووضعية تناسب كلّ حاجز أمني وفصيل، مع امراة ترافقني دون أن نتكلّم، لتخبر عائلتي في حال تمّ إيقافي أو اعتقالي عند أيّ حاجز.
أتذكر التوتر والخوف والحزن الذي اعتراني طوال سبعة عشر ساعة ونصف، الترّقب والخوف في كلّ مرّة تتوقف فيها الحافلة. كانت الساعات كالسنوات لا تنتهي، وكأنّني في المعتقل من جديد، ولا أعلم متى سأتحرّر. كان أخي أحمد قد نسق مع سائق الحافلة أن يصل بي إلى الأتارب، ولم أكن أعلم أنّه هو من كان ينتظرني بسيارة صديقه التي أحضرها ليستقبلني. عندما رأيته وضمّني إلى صدره، شعرت بالأمان وبكيت. في هذه اللحظة، شعرت بأننا عدنا كما كنّا صغاراً. بكينا وركبنا السيارة بصمت. وصلت إلى المنزل، فتح أحمد الباب ودخلنا. توّقعت أن تبكي أمي لكنّ أبي من فاجأني ببكائه عندما ضمّني. أمّا أمي فكانت تبتسم وتزغرد لوصولي بالسلامة إلى حضنها. بقيت في الأتارب لمدّة شهرين وعشرة أيام قبل أن أغادر إلى تركيا بطريقة غير قانونية، أمضيتها مع أحمد وتعليقاته المعتادة التي افتقدتها ومشاركته كأس المتة وفنجان القهوة، والنوم في ذات السرير جانب أمي.
خلال السنوات الأخيرة في باريس فقدتُ إحدى صديقاتي، كانت المرّة الأولى التي أقرّر فيها الذهاب لمراسم دفن. كانت تجربة نفسية اقترحتها لنفسي في محاولة القيام بمراسم وداع أخي معها، على أمل أن أجد السكينة قليلاً وأن أتمكن من رثائه، وعلى أمل أن تساعدني أجواء الحزن السائدة يومها، وحزني المضاعف على صديقتي وعلى أخي. عدت إلى المنزل نهايةَ ذلك اليوم، وفي داخلي حزن فقط، تجربتي فشلت، وطقوس الدفن زادت من ألمي، ولأدرك بعد عدّة أيام أنّني لم أكن أبحث عن قبر لأدفن فيه جسد أخي، بل كنت أبحث عن قبر أدفن فيه وجعي.
بعدها بشهور، وجدت نفسي أبكي أخي في كلّ شهيد، ومع كلّ أم، في كلّ معتقل ومغيّب ومفقود، والآن أبكيه مع كلّ شهيد فلسطيني، ولا زلت على أمل أن يأتي اليوم الذي سنرى فيه بشار الأسد ونظامه وجميع مجرمي الحرب يُحاسبون على جرائمهم ويحاكمون، لأننا لن ننسى ما جرى، وما يزال يجري، كما لن ننسى أرواح من رحلوا.