الحركة السياسية النسوية السورية: النسوية في جوهرها هي حركة سياسية


20 آذار 2024

خلدون أمين

باحث سوري متخصص في الاقتصاد السياسي، وله عدد من الأبحاث في الاقتصاد السوري.

سيتوقف، بلا شك، المتأمل في السنوات الثلاثة عشر التي مرّت منذ انطلاق الثورة السورية (آذار ٢٠١١) وحتى الآن، عند لحظات كثيرة مفصلية وحاسمة، كما سيتوقف عند إخفاقات كثيرة وفرص أكثر لم تُستثمر كما يجب خلال هذا المسار الطويل، ولا يزال، نحو الحريّة والدولة الديموقراطية التي ينشدها السوريون/ات. ولعلّ أحد أكثر الإخفاقات التي يكاد "يُجمع" عليها السوريون هو الفشل السياسي، أو الفشل في الجانب السياسي. ففي الوقت الذي كانت أحد أبرز مطالب ثورة عام ٢٠١١ استعادة السياسة التي صادرها الاستبداد على مدى عقود طويلة وعودة الأحزاب إلى المجتمع السوري، نكاد نجد الساحة السورية اليوم شبه فارغة من التمثيل السياسي، رغم أن هناك من "يمثّل" السوريين/ات في المنابر الدولية، إلا أنه يكاد يكون تمثيلاً فاقداً للشرعية وسط عزوف مجتمعي كبير له أسبابه الكثيرة. وحين نقول إنّ الساحة ليست فارغة تماماً، نعني أنّه، خلال السنوات السابقة، جرت محاولات كثيرة لاستعادة السياسة، إذ تشكلت أحزاب وحركات وهيئات كثيرة، خاصة في الأعوام الأولى، لكن ما لبثت أن ركنت، أو ركنها السوريون/ات، إلى النسيان لأسباب كثيرة ليست موضع نقاشنا الآن، ثم جاءت (بعد السنوات الأولى) مرحلة ما يمكن أن نطلق عليه ترذيل السياسة لصالح الثورة (أو الثوروية ربّما)، قبل أن يعود وينتبه السوريون/ات (ولهذا أسبابه الكثيرة أيضاً) إلى فداحة هذا الغياب، فتشكّلت أحزاب وحركات جديدة محاولة استعادة السياسة، ومحاولة ردم الفراغ السوري الشاسع سياسياً، ومحاولة ملأه ما أمكن لاستعادة السياسة وإعادتها إلى المجتمع السوري، سعياً للوصول إلى دولة الحرية التي ينشدون. وعليه، واحتفاءً بالذكرى الثالثة عشر للثورة السورية، ارتأينا في سوريا ما انحكت، أن يكون ملفنا لهذا العام عن بعض هذه الأحزاب والحركات السياسية الجديدة، في محاولة لاستكشاف المشهد السياسي السوري الحديث ومساءلته في الوقت ذاته.

وعليه، سيكون حوارنا الرابع والأخير ضمن هذه السلسلة، مع الحركة السياسية النسوية السورية، وقد أجابت عنها الأستاذة رويدة كنعان، لنتعرّف على رؤية الحركة وأهدافها ونشاطاتها.

مضت نحو سبع سنوات على تأسيس الحركة السياسية النسوية السورية، تطوّر خلالها عمل الحركة في كافة النواحي من تقديم الرؤى السياسية وإصدار الأبحاث والتقارير، وإحداث برامج تدريب، والمشاركة في الفعاليات.. إلخ. كيف تصفين اليوم تجربة الحركة السياسية النسوية السورية؟

الحركة السياسية النسوية السورية خلال السنوات السابقة شهدت تطوّراً ملحوظاً في تجربة تعكس رحلة مليئة بالتحديات والإنجازات. برزت الحركة كصوتٍ مهم في طرح الرؤى السياسية النسوية، ودافعت عن حقوق النساء في مختلف المجالات. كما أنتجت العديد من الأبحاث والتقارير والمواقف التي تُسلّط الضوء على واقع السوريات وتحدياتهن. وشاركت الحركة في العديد من الفعاليات المحلية والدولية لنشر الوعي حول حقوق النساء والمطالبة بتحقيقها. كما نجحت في إحداث برامج تدريبية تسهم في بناء قدرات عضواتها بأدوات وطرق مختلفة. والأهم أنني أرى أنّ الحركة تجربة فريدة من نوعها على مستوى سوريا والمنطقة، فالحركة عملت على تسييس العمل النسوي، فالنسوية في جوهرها هي حركة سياسية، والحركة عملت على الوقوف على كافة القضايا على الساحة السورية من وجهة نظر نسوية. لذا، أصبحت الحركة جزءاً مهماً من المشهد السياسي السوري.

تفيد تجربة نظام البعث الممتدة إلى عقود مضت، ومعظم هيئات المعارضة السورية خلال أكثر من عقد، بأنّ مشاركة المرأة في الهيئات السياسية لا تتعدّى نسبة ٥٪إلى ١٥٪، وغالباً ما كانت المشاركة صورية هدفها تلميع صورة النظام/المعارضة أمام المجتمع الدولي. تهدف الحركة السياسية النسوية السورية إلى الوصول إلى كوتا نسائية لا تقل عن ٣٠٪ وصولاً إلى المناصفة، وبطبيعة الأحوال إلى أن تكون المشاركة النسائية فعلية. ما هي أدواتكن في الحركة السياسية النسوية السورية لكسر حلقة المشاركة النسائية الضئيلة والصورية في هيئات المعارضة السورية؟  

بداية، لا يمكننا أن نعمّم ونقول إنّ مشاركة المرأة في مؤسسات المعارضة صورية، فلدينا العديد من النساء الموجودات في العملية السياسية الفاعلات والمؤثرات في مواقعهن. ومن أجل كسر حلقة المشاركة النسائية الضعيفة في هيئات المعارضة السورية، تستخدم الحركة مجموعة من الأدوات والاستراتيجيات، بما في ذلك تقديم برامج توعية وتثقيف للنساء حول أهمية المشاركة السياسية وحقوقهن في العمل السياسي. وتوجيه النساء بشأن كيفية التعامل مع التحديات والمعوقات التي قد تواجههن.

بالإضافة إلى ذلك، نعمل على تحقيق ذلك من خلال التدريب العملي، حيث تعتمد الحركة مبدأ التدريب بالتجريب، وتعمل على مشاركة العضوات في مختلف الفعاليات باختلاف خبراتهن وفئاتهن العمرية لتمكينهن من المشاركة الفعالة في الهيئات السياسية. ومن خلال التعاون مع منظمات المجتمع المدني والمنظمات النسوية الأخرى، بالإضافة إلى العمل مع الأطراف الدولية والإقليمية للضغط من أجل زيادة نسبة مشاركة النساء إلى ما لا يقل عن ٣٠٪، كما يتضمن ذلك المشاركة بفعالية في التحالفات السياسية السورية والعمل على تعزيز الوعي بأهمية دور النساء في الحياة السياسية.

توّسع دور المرأة السورية في النشاط الاقتصادي بصورة غير مسبوقة خلال العقد الماضي، إلا أنّ هذا التحوّل لم يأت نتيجة لحراك مجتمعي أو بتوجيه من السلطات، بل كان نتيجة للظروف المعيشية الضاغطة في سوريا، وبالتالي لم يحدث تغييراً في العقلية المناهضة لعمل المرأة، وهو ما يدعه عرّضة لانتكاسة. كيف يمكن برأيك تحويل التوّسع في دور المرأة السورية في النشاط الاقتصادي إلى مكسب ثقافي، واجتماعي، وحقوقي؟

أعتقد أنّه حدث تغيّر بسيط في الوعي المجتمعي بالنسبة لعمل النساء، إذ يُعدّ توسّع دور المرأة السورية في النشاط الاقتصادي خلال العقد الماضي ظاهرةً إيجابيةً تستحقّ التقدير. فقد أثبتت النساء السوريات قدرتهنّ على المساهمة بشكلٍ فعّالٍ في الاقتصاد، وفتحت هذه الظاهرة الباب أمام إمكانياتٍ جديدةٍ لتمكينهنّ وتحسين أوضاعهنّ.

ولكن، كما ذكرت، فإنّ هذا التحوّل لم يأت نتيجة لحراك مجتمعي أو بتوجيه من السلطات، بل كان نتيجة للظروف المعيشية الضاغطة في سوريا. وبالتالي، يبقى هذا التوسّع عرضةً للانتكاسة إذا لم يتمّ العمل على ترسيخه ثقافياً واجتماعياً وحقوقياً. ولتحويل توسّع دور المرأة السورية في النشاط الاقتصادي إلى مكسبٍ ثقافي واجتماعي وحقوقي، يجب العمل على مستوين معاً، أولاً : تعزيز الحقوق القانونية من خلال العمل على إصدار وتنفيذ التشريعات والسياسات التي تحمي حقوق النساء في سوق العمل، وتضمن المساواة في الفرص والأجور، وتقليل التمييز ضدهن في بيئة العمل، إضافة إلى قوانين تفرض إشراك النساء في  مراكز  صنع القرار على مختلف المستويات لضمان مراعاة احتياجاتهنّ وأولوياتهنّ. 

وثانياً، من خلال نشر الوعي حول أهمية مشاركة النساء في العمل وأثرها الإيجابي على الفرد والمجتمع. ومن خلال تغيّر الصورة النمطية حول الأدوار المجتمعية من خلال مناهج التعليم. فالتغيير المجتمعي يحتاج الكثير من الوقت، وتغيير التشريعات يساهم بالتغيير المجتمعي.

تنقسم الجغرافية السورية اليوم إلى مناطق تسيطر عليها قوى الأمر الواقع التي تتباين في خلفياتها الأيديولوجية وداعميها الإقليميين والدوليين. كما تتباين بدرجة أو بأخرى حالة المرأة السورية في مناطق سيطرة تلك القوى. ما هو موقف الحركة من تلك القوى، وهل ترى في أحدها نموذجاً لما يمكن أن تكون عليه سوريا مستقبلاً؟ 

ترى الحركة أنّ سلامة المدنيات والمدنيين يجب أن تكون الأولوية في كافة أنحاء سوريا، ولدى كافة قوى الأمر الواقع التي تتحمّل مسؤولية كافة الانتهاكات بحق أهالي المناطق التي يسيطرون عليها، حيث إنّ جميع قوى الأمر الواقع المسيطرة، وبالرغم من تبايناتها، لا تعبّر عن مصلحة السوريات والسوريين، ولا تشكل نواة يمكن الاستناد عليها لبناء سوريا المستقبل، والسبيل الوحيد لمعالجة هذه الأمور يكون من خلال حل سياسي عبر التطبيق الكامل لقرار مجلس الأمن ٢٢٥٤، فيما يضمن إعادة وحدة سوريا، ويأخذ بالاعتبار مصلحة السوريات والسوريين في كلّ المناطق، وصولاً إلى دولة المواطنة الكاملة والمتساوية للجميع، بغضّ النظر عن الجنس أو الدين أو الطائفة أو القومية أو أي أساس آخر.

تظهر تجربة الثورة السورية بأنّ هناك علاقة عكسية بين المشاركة النسائية في الحراك المدني وبين العسكرة، فحالما تحوّلت حركة الاحتجاجات إلى صراع مسلح، تضاءل مشاركة المرأة في الحدث/ الثورة السوري/ة. مع عودة حركة الاحتجاجات المدنية من بوابة السويداء منذ عام ٢٠١٩ برزت المشاركة النسائية بصورة لافتة، بل وأخذت شكلاً تنظيمياً. كيف يمكن للمشاركة النسائية الفاعلة اليوم أن تحافظ على سلمية ومدينة الحراك السوري الجديدة ضد قوى الأمر الواقع؟ 

يمكن للمشاركة النسائية تحقيق التأثير عبر الضغط على القوى العسكرية المحلية للالتزام بالحلول السلمية ودعم عمليات السلام والوساطة. يمكن ذلك من خلال التواصل المباشر مع القادة العسكريين والمشاركة في حوارات وجولات توعية بحقوق الإنسان والسلمية. وأعتقد أنّه من المفيد للنساء تنظيم أنفسهن في تجمّعات سلمية تعبّر عن مطالبهن وتشجع على الحوار والتفاهم، وهذا يمكن أن يكون وسيلة فعالة للضغط على السلطات وتحقيق التغيير بطرق سلمية.

يمكن للنساء أن يؤثروا في القرارات والسياسات عبر المشاركة في الحياة السياسية، سواء من خلال الانخراط في الأحزاب السياسية أو تشكيل منظمات نسائية قوية تعمل على دعم قضايا السلم والعدالة.

عبّرت الحركة عن تضامنها مع المدنيات/المدنيين في غزّة من خلال عدّة بيانات منذ الثامن عشر من تشرين الأول ٢٠٢٣. كيف تصفين حالة التضامن والتعاون النسوي العربي والدولي اليوم، وكيف يمكن تطويرها؟ 

حالة التضامن والتعاون النسوي العربي والدولي اليوم تعكس تطوّراً ملحوظاً في مستويات الوعي والتفاعل بين النساء على الصعيدين المحلي والدولي. فمن خلال عبور الحركات النسوية الحدود والثقافات، يتم بناء جسور قوية من التضامن والتعاون لدعم قضايا النساء والدفاع عن حقوقهن. على سبيل المثال، مساهمة الحركة السياسية النسوية السورية في تأسيس تحالف نسوي إقليمي يجمع بين منظمات من العراق، وتونس، والكويت، وليبيا. هذا التحالف يسعى جاهداً لتعزيز التضامن والدعم المتبادل، خاصة مع المدنيين والمدنيات في غزّة، ويطالب بوقف الإبادة الجماعية والعدوان الإسرائيلي على غزّة، بالإضافة إلى دعم حل القضية الفلسطينية. ومن خلال تنظيم حملات مشتركة بين المنظمات النسوية العربية والدولية، يمكن تعزيز هذا التواصل وتعميق التضامن في قضايا مشتركة، مما يسهم في تعزيز التأثير وتحقيق التغيير في مجتمعاتنا.

نعيش في هذه الأيام الذكرى الثالثة عشر للثورة السورية، وبعد أن خُضتي، إلى جانب مئات الآلاف من السوريات/السوريين تجربة الاعتقال والتهجير والفقدان، ماذا تعني لك هذه المناسبة، وكيف تنظرين إلى كلّ ما جرى خلال ثلاثة عشر عاماً؟ 

كمواطنة سورية وناشطة نسوية وسياسية، الذكرى الثالثة عشر للثورة السورية تعني لي الكثير. إنّها فرصة للتأمل والتفكير في كلّ ما جرى خلال هذه الفترة الطويلة من الصراع والمعاناة. تلك الثلاثة عشر عاماً شهدت تحوّلات كبيرة ومأساوية في سوريا، حيث تعرّض السوريون والسوريات لمعاناة كبيرة بسبب الاعتقالات الجماعية، والتهجير القسري، وفقدان الأحباء، والمحبين.

ذكرى الثورة بالنسبة لي وقت لتجديد العهد بالمضي قدماً نحو الكرامة، والحرية، والعدالة، والمساواة. رغم التحديات الكبيرة التي مرّت بها الثورة والصعوبات التي ما زال السوريون والسوريات يواجهنها، إلا أنّني ما زلت متفائلة بقدرتنا كشعب على بناء مستقبل أفضل. مع أنّني أدرك مدى صعوبة الأمر، خاصة بعد تعمقي في السياسة وفي مصالح الدول، وبأن لا حل واضح في الأفق. لكن أومن بأن التغيير قادم لا محالة باستخدام أدوات مختلفة، فلا نستطيع أن نكرّر دائما بأن "الثورة مستمرة" ونحن نستخدم نفس الأدوات. إضافة الى أنني متفائلة بالجيل الشاب، وبأنّه سيحمل التغيير لسوريا على كافة المستويات.

من جهة أخرى، الثورة السورية لم تكن بالنسبة لي مجرّد حدث سياسي، بل كانت تحوّلاً شاملاً على المستوى الشخصي أيضاً. لقد كان لها تأثير عميق على حياتي، وكانت المشاركة في الثورة السورية تجربة محورية ومحفّزة للتغيير داخلي. بالتأكيد، كنت أعاني من الضغوط والقيود الاجتماعية والثقافية قبل الثورة، ولكنها أتاحت لي فرصة لتحدّي تلك العادات والتقاليد والقيود بطريقة لم أكن أفكر فيها من قبل. كانت الثورة تجربة للتحرّر الشخصي، حيث غيّرت في مبادئي وقيمي وأولوياتي. بفضل الثورة، بدأت أرى العالم بشكل مختلف، وبدأت أفهم قوة المشاركة والتغيير الذاتي. كانت فرصة لأتعرّف على نفسي، ولأعبّر عن ذاتي بحرية. ومن هذا المنطلق، استمرت تلك الثورة في تشكيل رؤيتي للمستقبل، ودفعتني للعمل بجدية لتحقيق الأهداف التي آمنت بها، سواء على المستوى الشخصي أو من خلال نشاطي في الشأن العام.

 شكراً للثورة.

مقالات متعلقة

من السويداء إلى غزة... انتفاضة واحدة

20 تشرين الثاني 2023
"تموضع الانتفاضة في السويداء إلى جانب غزّة، هو إعادة السوريين إلى موقعهم الطبيعي في تأييد القضايا العادلة عالمياً، وعلى رأسها غزة وفلسطين، وهي بذلك ترفض بعض التكتيكات السخيفة لبعض الساسة...
الوسوم:

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد