"إنّهم يتحدثون لغة تختلف عن الكردية التي كنا نتحدث بها سابقاً"


قد يرى البعض أن الفترة القصيرة الماضية لا تكفي للحكم على محاولات نفض الغبار عن اللغة الكردية، وربما تحتاج عملية التغيير إلى كم تراكمي من الجهود، إلا أن هذه الفوضى اللغوية -إن صح تسميتها كذلك- لا بدّ أن تقودنا للسؤال الذي أثارته أستاذة اللغة والاتصال في جامعة أوكسفورد، جان إيتشيسون، عام ٢٠٠١ حول ما إذا كان تغير اللغة يقودها إلى التقدم أو الاضمحلال.

02 نيسان 2024

بشار يوسف

كاتب وصحفي سوري، حائز على ماجستير في العلوم السياسية من فرنسا

على أحد أرصفة محطة gare de l’est في العاصمة الفرنسية باريس، يقضي أحمد فترة انتظار قطار الضواحي في مشاهدة إحدى قنوات تعلّم اللغة الكردية على منصة يوتيوب. لم يخفِ فرحته بهذه الفرصة التي ستسمح له أخيراً بإتقان الكتابة بلغته الأمّ، بعد أن كان محروماً من ذلك طوال السنوات الأربعين التي عاشها في سوريا. يقول أحمد بعد أن اعتلت ابتسامة ساخرة شفاهه: "انظر، لقد حوّلتُ حسابي على فيسبوك إلى اللغة الكردية، رغم أنّ والدي لم يتمكّن من الحصول على موافقة أمنية لمنحي اسماً كرديّاً"، ثم يضيف: "وأخيراً سأغدو قادراً على فهم كلّ كلمات أغنيات محمد شيخو التي كانت تصدح في دكّاني الذي دمّرته قذيفة تركيّة."

لا يختلف حال أحمد عن غالبية أكراد سوريا، الذين تمّ حرمانهم لعقود طويلة من حقوقهم المدنية والثقافية بسبب هوية الدولة العربية وعدم اعتراف الدستور رسمياً باللغة التي يتحدّث بها أبناء أكبر أقلية عرقية في البلاد. اللغة التي أخذت شكلها الحالي في عهد الانتداب الفرنسي بفضل الجهد الذي بذله أحد أبرز رموز الأدب الكردي، جلادت بدرخان (١٨٩٧-١٩٥١)، والذي وضع الأبجدية التي يستخدمها أكراد سوريا حالياً وجزءاً كبيراً من قواعدها. منذ ذلك الحين، كان هناك نتاج أدبي محدود بسبب صعوبة الطباعة والتوزيع في ظلّ القمع، إلا أنّ ذلك لم يمنع من تناقل النتاج الشعري لأدباء من أمثال فقه تيران، وملّا جزيزي، وجكر خوين. خلافاً لذلك، صدرت بعض المطبوعات باللغة الكردية، ربما كان من أهمها مجلتي "هوار" و"آسو"، دون إغفال بعض المحاولات الفردية لتطوير قواعد اللغة الكردية وتوسيع مفرداتها.  

يبدو أن كلّ ذلك أخذ بالتغيّر بفضل اتساع إمكانية الوصول إلى شبكة الإنترنت من جهة، وبالنظر إلى التحولات الكبيرة التي تشهدها مناطق ما بات يعرف بالإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا خلال العقد الأخير كنتيجة للأحداث السياسية المتسارعة منذ اندلاع الاحتجاجات الشعبية المناهضة لحكم عائلة الأسد عام ٢٠١١ من جهة أخرى.

إحياء اللغة الكردية

منذ عام ٢٠٠٩، بدأ مترجم غوغل (Google Translate) بدعم اللغة الكردية، ومنذ ذلك الحين طرأ تحسن ملحوظ على دقة ترجمة المفردات والجمل، وخلال السنوات الأخيرة، باتت مواقع ومنصات أخرى توفر محتواها باللغة الكردية، لكن تبقى هناك تساؤلات عن المرجعية المستخدمة، بالنظر إلى اختلاف المفردات المستخدمة أحياناً، أو حتى طريقة كتابتها.

الكتّاب الكرد السوريون

14 تشرين الأول 2023
لماذا يكتب قسم من الكتْاب الكرد باللغة العربية؟ وهل يكون هذا أدباً كردياً أم عربياً في هذه الحالة؟ أم أدب عربي بروح كردية؟ ولماذا قرّر بعض الكتّاب الكرّد أن يكتبوا...

في هذا السياق، ذكر الكاتب والمترجم الكردي، فواز عبدي، أنه حتى الآن لا يوجد قاموس يمكن الاعتماد عليه كمرجع موّحد لجميع الأكراد، لافتاً إلى أنّ ما يجري من "تجميع" هو مجرّد خطوة أولية، لا بد من استكمالها من قبل فريق عمل أكاديمي، كما نوّه إلى أن معظم القواميس المتوفرة حالياً هي قواميس أحادية تحتوي على الجذور والاشتقاقات فقط.

عبدي أوضح لنا أنه، وغيره من الكتّاب الكرد، الذين أصدروا مؤلفاتهم باللغة الكردية، اعتمدوا على الاجتهاد الشخصي، بحسب اطلاع كلّ منهم، لا سيما وأن عدم السماح بتداول اللغة الكردية جعل تناقلها مقتصراً على الشعر والأغاني، فضلاً عن بعض الدروس التي كانت تعطى بشكل سري، إما بجهود فردية، أو كأحد أنشطة الأحزاب السياسية في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي.

محاولات لتوحيد اللغة

يرى عبدي أن "اللغة الكردية تمرّ حالياً بمرحلة انتقالية، وذلك يرتبط بطريقة ما باستمرارية مشروع الإدارة الذاتية"، إلا أنه عبّر عن اعتقاده بأن لا جدوى من من استبدال المصطلحات العربية التي دخلت إلى اللغة الكردية بأخرى إنكليزية أو فرنسية، بل على العكس، يمكن الإبقاء على المفردات الدارجة التي باتت تستخدم في اللغة اليومية للناس.

تتغيّر اللغات إجمالاً بمرور الزمن كنتيجة طبيعية للتغيّرات الاجتماعية والثقافية التي تطرأ على المجتمع، وارتباط ذلك بالتقدم العلمي والتكنولوجي، ما من شأنه أن يفضي إلى ظهور مصطلحات جديدة أو تغيير معانٍ أخرى قديمة، وفي بعض الأحيان قد يصل الأمر إلى تغيّرات جينية على مستوى مخارج الأصوات. في حالة أكراد سوريا، تتعدد اللهجات التي يتحدثون بها، ويتباين مدى تأثرها باللغات أخرى، وخاصة العربية، تبعاً لتوزعهم الجغرافي، ولعل تسميات أشهر السنة خير مثال على ذلك، والتي ما زالت محل خلاف كبير. هذه الفروقات انتقلت بدورها إلى المؤسسات الإعلامية، المرئية منها والمسموعة، وذلك باختلاف سياساتها، وأحياناً توجهاتها.

مؤسسة آرتا للإعلام والتنمية، والتي تعتبر من أقدم المؤسسات الإعلامية المستقلة في شمال شرقي سوريا (تأسست عام 2013)، واظبت على إصدار نشرات الأخبار وبعض البرامج باللغات الكردية والسريانية والأرمنية إلى جانب اللغة العربية، كما أنها كانت سبّاقة إلى إصدار قسم من ورقياتها باللغات الأربع، ولدى سؤال المدير التنفيذي للمؤسسة، سيروان حاج بركو، عن التحديات التي واجهتهم في هذا السياق والآلية التي تم اعتمادها، قال إن الصعوبات ما زالت موجودة، خاصة وأن اللغات غير الرسمية لم تتطوّر بمرور الوقت نتيجة لمنعها من قبل السلطات السورية، فضلاً عن تأثير الثقافتين العربية والإسلامية عليها، موضحاً أنه في ظل عدم وجود مرجع أو قاموس كردي موحد، فإن فريق العمل في آرتا يخوض نقاشات مستمرة لإنتاج البرامج الإذاعية بلغة يفهمها الناس لخلق نوع من التوازن بين اللغتين المحكية والفصحى في ما وصفها بالمرحلة الانتقالية التي تشهدها المنطقة بشكل عام، مشدداً في الوقت ذاته على أن آرتا لم تكن تسعى لتصحيح اللغة الكردية من منظور قومي، بل "تقديم إعلام مجتمعي بمفهوم أكثر مدنية". 

هذا واعتبر حاج بركو أن ما يجري حالياً "طبيعي"، على أن يتم الاستفادة من كافة التجارب، حتى يحصل تقارب في المستقبل بين لغة الشارع واللغة الكردية الرسمية التي سيتم اعتمادها في المؤسسات الحكومية أو المدارس. غياب النقطة الأخيرة، بالإضافة إلى أمور جدلية أخرى تتعلق بالمنهجية التي تم اتباعها في وضع قواعد الكتابة واللفظ، بالإضافة إلى الاشتقاق وإضافة المفردات الجديدة، كانت من بين انتقادات كثيرة طالت القاموس الذي صدر قبل نحو أربعة أشهر، والذي أعلنت الإدارة الذاتية عن عزمها اعتماده كمرجع في المؤسسات التابعة لها، كخطوة قد تكون مهمة على طريق توحيد اللغة والتشجيع على استخدامها في المجالات العامة، بما في ذلك التعليم والإعلام والحياة اليومية.

فوضى لغوية

سبق ذلك بسنوات افتتاح عدد من معاهد تدريس اللغة الكردية في مدن شمال شرقي سوريا، فضلاً عن تطوير منهاج مدرسي باللغة الكردية، تم اعتماده في المدارس التابعة للإدارة الذاتية، بيد أنّ عدداً غير قليل من الأهالي يواجه مشكلة حقيقة في متابعة العملية التعليمية لأبنائهم بسبب جهلهم باللغة، ما دفع قسماً منهم إلى تفضيل المدارس التي ما تزال تعتمد منهاج وزارة التربية التابعة لحكومة النظام السوري. 

هذه العوامل وغيرها بثت الروح من جديد في اللغة الكردية، بين طلاب المدارس بالدرجة الأولى وبصورة أقل بين السكان من مختلف الفئات العمرية بفضل وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، وانعكست بدرجات متباينة مستوى فهم المفردات المتداولة. "إنهم يتحدثون لغة تختلف عن الكردية التي كنا نتحدث بها سابقاً" هكذا عبّرت الناشطة المدنية، كلبهار حلبو، عن مشاهداتها خلال زيارتها الأخيرة إلى مدينة القامشلي. حلبو، التي تلقت دروساً بسيطة في اللغة الكردية قبل حوالي ثلاثين سنة بشكل سري، ترتكب حتى الآن بعض الأخطاء عند الكتابة، على الرغم من تحسّنها في السنوات الأخيرة، حسب وصفها، ومع ذلك، لاحظت أن الناس هناك صاروا يستخدمون مصطلحات جديدة لم تكن معروفة من قبل، وبشكل خاص الأطفال منهم.

قد يرى البعض أن الفترة القصيرة الماضية لا تكفي للحكم على محاولات نفض الغبار عن اللغة الكردية، وربما تحتاج عملية التغيير إلى كم تراكمي من الجهود، إلا أن هذه الفوضى اللغوية -إن صح تسميتها كذلك- مع تنوّع الدوافع لذلك، ابتداءً من استعادة حق التعبير عن الهوية الثقافية باللغة الأم، وصولاً إلى ردة الفعل على سنوات طويلة من حملات التعريب، لا بدّ أن تقودنا للسؤال الذي أثارته أستاذة اللغة والاتصال في جامعة أوكسفورد، جان إيتشيسون، عام ٢٠٠١ حول ما إذا كان تغير اللغة يقودها إلى التقدم أو الاضمحلال.  

مقالات متعلقة

الصحافة في روجافا (1)

29 آذار 2019
تتناول هذه السلسلة المكونة من أربعة أجزاء، والتي يكتبها الباحثان والأكاديميان، الإيطالي أنريكو دي إنجليس، والسوري يزن بدران، بيئة الإعلام في شمال شرق سوريا. وستركز المقالات الثلاث الأولى على تحليل...
الصحافة في روجافا (2)

05 نيسان 2019
تتناول هذه السلسلة المكونة من أربعة أجزاء، والتي يكتبها الباحثان والأكاديميان، الإيطالي أنريكو دي إنجليس، والسوري يزن بدران، بيئة الإعلام في شمال شرق سوريا. وستركز المقالات الثلاث الأولى على تحليل...
هل أنا ابن عائشة العربيّة؟ (5)

04 تموز 2018
مئات المرات سمعت نكات تُروى عن الأكراد كمثلها: وقع كردي من الطابق العاشر ولم يمت لأنّه وقع على رأسه. وتروى هذه النكتة للدلالة على رؤوس الأكراد اليابسة. وفي نكتة أخرى...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد