الجْدَيدة
على الرغم من كلّ شيء، نمتُ على الأرض. غفوتُ على أوّلِ رصيفٍ صادفته ريثما كنت أنتظر أن يختم حرس الحدود السوريّ جواز سفري.
كانت قد أخذته مني مُنظِّمة الرحلة، مريم. حملتْ في يدها ثلاثين جواز سفر أوروبي، وذهبتْ بمفردها إلى مكتبِ الحدود ليتّم منحنا تأشيرة الدخول دون أن ينظروا إلى وجوهنا حتّى، بعد أن أخذوا أوراقنا فقط إلى المكتب. كانوا قد فحصوا هويتي مسبقاً قبل بضعةِ أيام. تتطلّب زيارة تدمُر تصريحاً خاصّاً، والحصول عليه أمرٌ صعبٌ للغاية.
كنتُ شبه نائمة، بذراعين مفتوحتين، على أرضِ بلدٍ لا يزال في حالة حربٍ، ولم أعرفه إلّا من خلال كتبي والأشخاص الذين التقيتُ بهم في الخارج. في الواقع، لقد درستُ تاريخ البلاد عن كثب، بينما كنت أقوم بإعداد أطروحة دكتوراه حول تفكيك الهويات الدينية والجنسانية في الأدب المعاصر السوري واللبناني المكتوب باللغة الفرنسية. قضيتُ أيضاً أشهراً في الترجمة للأطباء من العربية إلى الإيطالية في مخيّمات اللاجئين في لبنان وسمعتُ العديد من قصص السوريين المنفيين. ولذلك كنت ممتنّةً للغاية للفرصة المتاحة أمامي لزيارة سوريا أخيراً، ورؤية آثار الحرب على أرضها وشعبها.
بعينينِ نصف مغلقتين، رأيتُ فوقي صرحاً لأحرفٍ كبيرة متعدّدة الألوان، تنضحُ بنوعٍ من الحزن الزائف: "سوريا - Syria". كان هناك ملصق ضخم لبشار الأسد فوق جسدي النائم، كُتبتْ أسفله هذه الحروف الباهتة؛ يرفع يده بتحية، وفي وجهه المقيت لمحةُ احتقار، وكانت إحدى عينيه مغلقة أكثر من الأخرى، كما لو أنّ الشمس ضربتها بشدّة.
كانت صورته تراقبُ جسدي النائم على الأرض.
نقطة المصنع
بينما كنت مستلقيةً على الرصيف، بدأتُ باسترجاع مراحل رحلتي لتهدئة تدفّق الأدرينالين. غادرتُ بيروت الساعة الرابعة صباحاً ووصلتُ إلى دمشق بعد سبع ساعات على ما أعتقد. على الرغم من أنّ المسافة بين المدينتين لا تتجاوز ١١٤ كيلومتراً.
في وادي البقاع، عند معبر المصنع الحدودي، عانيتُ من أجل الحصول على ختم الخروج من الأمن العام اللبناني: لقد انتهتْ صلاحية تأشيرتي منذ أشهر، الأمر الذي عقّد تحرّكي من بلاد الأرز إلى بلاد الياسمين. توجّب عليّ أن أدفع مبلغاً مالياً كعقوبة لتجاوز إقامتي.
"المبلغ يورو ونص، أليس كذلك؟"، سألتُ الجندي اللبناني ممازحةً.
"ما شاء الله! يبدو أنّك تعرفين هذا الإجراء جيّداً"، أجاب ضاحكاً.
ورائي كانت امرأة سورية متوّترة تصرخ "بدّي روح على الشام لأعمل عمليّة. خلّوني أُمرق" أو بكلمات أُخرى، كانت تطلب السماح لها بالمرور لأنّها تريد الذهاب إلى دمشق لإجراء عملية جراحية. أحد الرجال ينتظر بفارغ الصبر، يحاول انتزاع بعض الطيبة في قلب الجندي: "يعطيك العافية، حبيبي". اختلطتْ الأصوات ببعضها، يتخلّلها كلمات مثل "يا أُستاذ، يعطيك العافية، يا سيدي…"
بمجرّد حصولي على تأشيرة الخروج، ذهبتُ لتصريف الأموال في مكان الصرافة. كان الدخول إلى سوريا بالدولار محظوراً وخطيراً. في المكتب، ملأ رجل حقيبتي بأوراق نقدية قيمة كلّ منها ألفين ليرة سورية وتحمل صورة وجه بشار الأسد. بدا الأمر كما لو كنت أدخل إلى سوريا حاملة حقيبة أموال حصلتُ عليها عن طريق صفقات مشبوهة.
"تفضلي مدموزيل"، قال ذلك وهو يملأ حقيبتي الحمراء التي كادتْ أن تنفجر من مجموعة الصور الصغيرة للرئيس، مع أنّي صرّفتُ مئة وخمسين يورو فقط.
ما بين بين
عبرت الحدود في سيارة أجرة. لقد أوضح لي السائق السوريّ أنّه عليّ عبور قطعة أرض بين سوريا ولبنان قبل وصولي إلى الجديدة للحصول على تأشيرة الدخول، وهي منطقة حدودية عسكرية، منطقة محايدة، إنّها سوريّة، ولكن بطريقة ما، لبنانية أيضاً.
في ذلك الوقت، لم أستطع أن أحدّد أين كنت بالضبط. لكنّني بالتأكيد شعرتُ أنّي في سوريا أكثر من كوني في لبنان. توقّفتْ خدمة الإنترنت ألفا (Alfa) عن العمل في هاتفي المحمول، وتحوّل المشهد إلى اللون البرتقالي والأصفر بشكل متزايد.
فجأة، قطع صوت مريم سلسلة أفكاري. كانت تنادي لاسترداد جوازات سفرنا التي أصبحتْ مختومة. توجّب عليّ الوقوف.
هيتروتوبيا دمشق
مررتُ بثلاثة حواجز قبل وصولي إلى دمشق. وهناك نزلتُ في منطقة باب شرقي. قضيتُ ليلة واحدة فقط في العاصمة واضطررتُ إلى الركض لزيارة جميع الكنوز التاريخية لهذه المدينة التي يبلغ عمرها آلاف الأعوام.
تجوّلتُ على طول الشارع الرئيسي، سوق مدحت باشا، حيث تفوح رائحة سحر خاص في الهواء. ذكّرتني الهندسة المعمارية ببعض المدن في جنوب بافاريا حيث كانت بعض أجزاء المباني مصنوعةً من الخشب. ذكّرتني الدراجات، التي كانت تنطلق مسرعةً عبر الشوارع الضيّقة المتفرّعة، هنا وهناك، بالحياة اليومية في أمستردام. لم يكن هذا المشهد مألوفاً في بيروت؛ لم يستخدم أحد الدراجات الهوائية، وبعد الحرب الأهلية، تمّ استبدال المنازل القديمة بناطحات السحاب. شيءٌ ما كان مختلفاً هنا، كنت في عالم أكثر لطفاً ودفئاً، يُقدّر الحياة البشرية وإيقاعاتها أكثر بكثير من مدن أوروبا.
هناك، جلس بائعو القطع التراثية أمام متاجرهم الصغيرة مع الأصدقاء وهم يشربون القهوة أو يدخنون النرجيلة. حكينا مع أصحاب المتاجر البشوشين في سوق الحميدية، وكانت تعلو وجوههم الدهشة أو الصدمة حتّى: "شو عم تعملوا هون؟"، بمعنى ماذا نفعل في سوريا بحقِّ السماء، ثمّ انخرطنا في محادثاتٍ طويلة.
نسيتُ نفسي وأنا أركض في أزقّة السوق إلى أن غابتْ الشمس. بدتْ لي المدينة وكأنّها حضنٌ للإنسان. وأخيراً، اشتريتُ مصحفاً صغيراً مزيّناً باللون الأخضر المائي وصفحاتٍ متعدّدة الألوان، ثمّ تناولتُ بوظة الفستق في بكداش مع مريم والآخرين. دُهشتُ من طريقة صنعها، حيث كانوا يدقّونها بهواوين طويلة في قدورٍ معدنية مستديرة.
خارج السوق، اقتربتْ منّا بعض النساء مع أطفالهنَّ للاستفسار عن أصولنا والتقاط الصور معنا. كانت أعينهم تُوحي بالصدمة من وجودنا. لقد كنت هناك لزيارة الجامع الأموي، وضريح صلاح الدين الأيوبي، ولكن في النهاية، بدا الأمر كما لو أنّ الشعب السوريّ هو الذي يزورني. وبينما كنت أحدّق بذهول في مزيجِ النقوش المحفورة على واجهاتِ المسجد، كانوا يتفّحصون جسدي وشعري وملابسي، محاولين نسبَ أصلٍ للهجتي العربية.
وإن كنت أشعر في كثيرٍ من الأحيان خلال زيارتي القصيرة في الأراضي السورية بأنني لستُ في مكاني الصحيح، كما لو أنّي لا أملك الحقَّ في دخول هذا البلد، على الأقلِّ أمام أصدقائي المنفيين الذين لا يستطيعون العودة لزيارة عائلاتهم، بدا لي أنّ هذه العيون الحائرة تقول لي: شكراً لقدومك. في الواقع، إنّ وجودنا يعني العودة إلى الحياة الطبيعية بنظرهم، فإذا قرّر السيّاح دخول سوريا، هذا يعني بالنسبة لهم أنّه لم يعد هناك أيّ خطر، وأنّ الحرب قد انتهتْ، وأنّهم يستطيعون ببساطة إعادة تأهيل مدينتهم التي يعود تاريخها إلى قرون مضتْ. كان من الطبيعي قبل عام ٢٠١١ أن تجد وفوداً من الزوّار. كانت هذه الدهشة هي الأثر الأكثر وضوحاً لهول الأزمة، وليست علامات الحرب التي بحثتُ عنها طويلاً، دون أن أجدها، في المباني وواجهاتها، فقد بقيتْ محافظةً على عظمتها. حيث بقي مركز مدينة دمشق تحت سيطرة النظام خلال الحرب، ولم يكن هناك سبب ليقصف جيش الأسد هذا الجزء من المدينة.
في المساء، دبّتْ الحياة في شوارع دمشق. ميّزتُ في وجوه الناس تلك الابتسامة الفريدة التي ليست سوى وسيلة للمقاومة. وبين هذه الجدران المبهجة، كانت الحانات والمطاعم تقدّم وجبات الطعام والمشروبات، بينما حوّلتْ الموسيقى الصاخبة القادمة من السيارات سوق مدحت باشا إلى ساحة للرقص.
وسط هذه الأجواء، تساءلتُ عمّا إذا كانت الآثار التي رأيتها على شاشة التلفزيون حقيقية، وما إذا كانت هذه الحرب موجودة بالفعل. لكنّني سرعان ما أدركتُ أنّ مركز دمشق وحده هو الذي ما زال ينبضُ بفرحة سكّانها المُخدَّرين. كانت دورة الحياة هذه الأشبه بالمعجزة تُحوّل المدينة إلى هيتروتوبيا (مفهوم وضعه الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو لوصف الأماكن والمساحات التي تهمل بمعزل عن هيمنة الظروف المحيطة بها) احتفالية في وجه الصحراء، التي كانت تبتلع كلّ ما بقي منها، وتحاول عبثاً دفنها أيضاً.
حلب
خارج تلك البقعة المسحورة، وعلى أطرافِ دمشق، تصطفُ الهياكل العظمية، التي بدأتْ بالتآكل، واحدة تلو الأخرى في مشهد جهنّمي. ما هي سوى بقايا المباني المنهارة، وآثار رمادية لحيوات مسلوبة ومبعثرة.
بين ضواحي العاصمة وحماة، وحماة وحلب، وحلب وتدمر، تمتدُّ أميال من المقابر. لم يبقَ في القرى المدمَّرة سوى مطاعم وفنادق بلافتاتٍ مقلوبة، ولا تزال تحملُ عبارات ترحيب مشوّهة "أهلـ بكـ". وسط شظايا الحياة المدفونة هذه، لم تنجو من القصف سوى المآذن. أو ربّما تمّ إعادة بنائها قبل المنازل، التي تذرفُ دموعاً إسمنتية.
بعد ساعات في الحافلة وصلتُ إلى فندق يقع في الساحة الرئيسية في حلب. وكان هناك أيضاً صورة كبيرة للرئيس الأسد في البهو. عندما صعدتُ إلى غرفتي، منهكةً من الرحلة إلى دمشق ومن ثمّ إلى حماة قبل الوصول إلى حلب، قرّرتُ أن أستحمَّ سريعاً. وقفتُ في الحمام ولكنّ المياه كانت مقطوعة، ولم أستطع غسل نفسي. كان معي زجاجة مياه معدنية، فاستخدمتها لتنظيف أسناني، لقد تعلّمتُ هذه الطريقة البديلة في مخيّمات اللاجئين السوريين في لبنان، حيث كانت المياه التي تخرج من الصنابير برتقالية أو حمراء فقط. انقطعتْ الكهرباء في جميع أنحاء الفندق عدّة مرّات في اليوم، وكان الاتصال بالانترنت ينقطع أيضاً طوال الوقت، الأمر الذي عزلني أنا ومريم والمجموعة عن العالم.
في الخارج، كان الشعب السوريّ يتعامل مع نقص الحاجات الأساسية مثل الماء والكهرباء والغذاء بشكل يوميّ. واكتسحتْ المولّدات حلب ومدن أخرى. استطعتُ تمييز ضجيجها، حيث كنت أستخدمها أيضاً في بيروت لإنارة شقتي، فالحكومة اللبنانية تمدُّ الناس بالكهرباء لمدّة ساعتين فقط في اليوم. ومع ذلك، في سوريا، لا يستطيع أحد تقريباً دفع ثمن مولّدات البنزين ولا المياه الخاصّة، وبالتالي يعيشون في الظلام.
نزلتُ إلى المدينة في وقتٍ لاحق. وكانوا يعيدون بناء مسجد ذو قبب خضراء يُسمّى "مسجد الرئيس". سألتُ إحدى النساء من المارّة عن بعض المعلومات حول مشروع البناء هذا. فقالتْ: "إنّهم يعيدون بناء مسجد الرئيس، بينما نسير نحن كلّ يوم بين المباني والأنقاض التي قُصفتْ".
قامتْ قلعة حلب أثناء المعارك بحماية قوات الجيش السوري بين حجارتها التي يبلغ عمرها ألف عام. وكانت جدرانها تحمل عبارة "حلب في عيوني" موضوعة إلى جانب صورة نصفية لبشار الأسد وهو يبتسم دون أن ينظر إلى أيّ شيء. وقد عُلِّقتْ صور أخرى له على الجدران القديمة لهذا المعلم التاريخيّ الذي يعود تاريخه إلى قرونٍ مضتْ.
راقبتُ المدينة بأكملها من أعلى هذا المعقل، الذي بُني على تلّة ترتفع حوالي خمسين متراً فوق سطح الأرض لأغراضٍ دفاعية. من هذا العلو، يمكن رؤية المدينة بأكملها من نظرة واحدة، كلّها بيضاء، نصف مدمَّرة، فارغة من نصف سكّانها الأصليين.
ثمّ نزلتُ إلى السوق، حيث تحوّل دفء سوق دمشق إلى شظايا من الأنقاض، نتيجة لقصف قوات الأسد وروسيا.
أثناء سيري بين الأنقاض، لاحظ أحد المارّة انزعاجي ثمّ توقّف وقال: "كلّنا نعرف من فعل هذا. ومع بدء عملية إعادة إعمار السوق، يرسل النظام الآن رسائل إلى أصحاب المتاجر القديمة في حلب طالباً منهم العودة إلى سوريا وإعادة فتح متاجرهم في السوق. ولا أحد يجيب على النداء خوفاً من الاعتقال أو التعذيب. يطلبون من الناس العودة بعد أن دمّروا حياتهم".
عند غروب الشمس، وجدتُ نفسي أمشي بين الأنقاض، أمرّ بين آثار الموت والاختفاء. انتابني شعور غريب بالذنب، وسادني الظلام والصمت.
إلى تدمر
تحوّلت رحلتي إلى طريق تكفير عن الذنوب. كان يقاطعني في كثير من الأحيان أطفال بلا أحذية أو جوارب، يطلبون منّي القليل من المال أو الطعام، وهم يلعبون بالأنقاض وبقايا حياتهم التي مُنحتْ إليهم بقدر ما اُنتزعتْ منهم. اقترب الرجال ليحذروني من الشيطان الرجيم، الذي كان مختبئاً على ما يبدو في جسد هذه المخلوقات الصغيرة "المتوحّشة". "هؤلاء أطفال بلا كرامة، وليسوا سوريين حقيقيين، لا تعطوهم المال أبداً".
مع معاناتهم من الفقر المدقع، ها هم شياطيننا الصغار، المتهمين بنفس الجريمة، وهي القتال من أجل النجاة، يجرّون أنفسهم في شوارع شبح تدمر. هناك، اندمجتْ مساحات شاسعة من الصحراء مع سلاسل طويلة من الحطام. هناك، حتّى المساجد ومآذنها طالها الدمار.
أخبرونا أنّه بعد "الأزمة"، الاسم الذي أطلقه الناس على الحرب السورية الضروس، تقلّص عدد السكان البالغ ١٥٠ ألف نسمة إلى ١٥٠ نسمة. كان كلّ شيء هناك ملطخاً بالشرّ البشري. تمّ تدمير ٣٠٪ من موقع تدمر الأثري على يد تنظيم داعش الإرهابي في العام ٢٠١٥، وتحطّمتْ آثار تدمر القديمة، مثلما تحطّم سكّانها.
استقرّ الجيش السوريّ والميليشيات الروسية، التي "حرّرتْ" تدمر من داعش، بين المعابد، وفي المتحف الشهير المجاور.
كان هذا المتحف في ذلك الوقت أشبه بمنتجع عسكري متهدّم، يقوم الجنود فيه بإعادة شحن بطارياتهم، وينامون في أسرة مؤقتة وسط جثث ممزقة من تماثيل قديمة أثبتتْ منذ عقود معجزات الإنسانية. كانت أذرع وأرجل وأيدي الملكات والآلهة القديمة ملقاة على الأرض وسط غبار الجدران المنهارة. في تدمر، مثل المتحف، تمّ تحويل المنازل القليلة التي لا يزال الوصول إليها ممكناً إلى مواقع عسكرية. أخبرتنا إحدى النساء أنّها لا تستطيع العودة إلى منزلها الذي يحتلّه الجنود على بُعد بضعة أقدام منا.
لم تكن تدمر المحطة الأخيرة في رحلتنا وحسب، بل كانت النقطة الأكثر بشاعة في الجحيم البشري. لقد انتهك مشهد داعش روعة المسرح الروماني في موقع تاريخي، والذي كان واقعاً تحت عجلات الدبابات الروسية. أدركتُ حينها أنّه لا يمكن إلا لقوّة نرجسية أن تقبل أن تحكم تلك الآثار الفارغة.
في حالة من السحر
غرقتُ في الصمت، وتمكّن منّي وباء الكوليرا الذي كان يجتاح البلاد، ولكنّني لم أعرف ذلك بعد. جلستُ في مقعد الحافلة، أذرف الدموع وأنا متجهة نحو المعبر الحدوديّ عائدة إلى لبنان في صمتٍ مطبق.
كنت أعاني من تقلّصات مؤلمة في البطن، لكن ذلك لم يمنعني من شراء بعض الخبزية في الطريق، وهي رقائق من البطاطا الحلوة ذات اللونين الوردي والأبيض، والتي كان من الواضح أن الأطفال يحبّونها، وأنا أيضاً، بألّوانها الجذّابة. وفوق كلّ ذلك، أردتُ أن أنفق ما تبقّى من ليراتي السورية. أدركتُ أنني أنفقتُ ثلاثين يورو فقط من أصل مئة وخمسين يورو صرّفتها، على الرغم من أنّي كنت أتناول الطعام لمدة ثلاثة أيام في المطاعم.
كان القلق ينهشُ عظامي، ولم يُخفّف عنّي سوى التفكير في الخروج الوشيك. كنت خائفة من أنّني لن أتمكّن من الحصول على تأشيرة الخروج على الحدود، وأنّهم اكتشفوا أنّني نشرتُ بعض المقالات عن مؤلّفين سوريين ضدّ النظام. هذه المرّة، نزلتُ من الحافلة وذهبتُ شخصياً إلى مكتب الحدود مع مريم وبقية المجموعة. ختموا جواز سفري أخيراً، وكان كلّ شيء على ما يرام.
في طريق العودة، بدأتُ في البداية بالركض بسرعة هرباً من ظلمة تلك الهاوية التي سقطتُ فيها في ليلة من ليالي تشرين الأول ٢٠٢٢. إلّا أنّ التفاصيل الدقيقة لهذا البلد سحرتني، وبينما كنت أهرب، سحر ما حثّني على العودة، على الالتفات للوراء، لمشاركة جراح شعبه، لاحتضان كلّ هذا التعقيد والعيش فيه أكثر.