مشاهدةَ المعاناة في غزّة في ظلِّ هجمات الإبادة الجماعيّة المتواصلة التي تشنُّها إسرائيل، تُعيد إليَّ ذكريات حربِ البوسنة. الكثيرُ من الأشياء تُذكّرني بمعاناتي، ولكن لم يؤثّر بي أيّ شيء حتّى الآن مثل الصّورِ ومقاطعِ الفيديو والقصصِ المستمرّة عن المجاعة التي يعيشها الفلسطينيون، وهمجية ما يُسمّى "المجتمع الدّوليّ" والسّياسات المُهينة للمُساعدات الإنسانيّة.
أنا في الأصلِ من مدينة غوراجدي التي تقعُ على ضفافِ نهرِ درينا في شرقِ البوسنة والهرسك. كنتُ في الثانيةِ عشرة من عمري عندما اندلعتْ الحربُ في أيار ١٩٩٢، وأختي كانتْ في العاشرة. كانتْ غوراجدي محاصرةً من قِبل قوّاتِ صرب البوسنة لمدّةِ ثلاثِ سنواتٍ ونصف. وخلال تواجدِ هذهِ القوّات في التلال المُحيطة بها في بداية الحرب، كانتْ المدينة تتعرّضُ لقصفٍ متواصلٍ وهجمات ورصاص القنّاصين. وعندما دُفعت للتراجع عنها، واصلتْ قصف المدينة من مسافة بعيدة. مع هذا كلّه، كان تحديد موعد وصول المُساعدات الإنسانيّة إلى المدينة المحاصرة أحد أقوى أدوات الحرب وأكثرها وحشيّةً، كما هو الحالُ في غزّة اليوم.
عانتْ عائلتي في المدينة مثلَ جميع السكّان الآخرين من القصفِ المستمر ورصاص القنّاصة، وقلّة الكهرباء والماء والطعام. نحنُ أيضاً من صربِ البوسنة، مثل القوّات التي كانت تُهاجم المدينة، التي يسكنها بشكل أساسيّ المسلمون البوسنيون (البوشناق) من المدينة وعشرات الآلاف من اللاجئين البوسنيّين الذين فرّوا من منازلهم في المنطقة، وجاءوا إلى غوراجدي بحثاً عن شكلٍ من أشكال الأمان. وحقيقة أنّنا مِن نفسِ المجموعة العرقيّة التي تُهاجم المدينة ولّدَتْ لدينا مشاكل إضافيّة. لقد تعرّضنا للهجوم وإطلاق النار عدّةَ مرّات؛ أخذ رجال مسلّحون والداي ليقتلوهما، إلّا أنّهما عادا إلى المنزلِ بطريقة ما؛ وقضينا أسابيع مُختبئين تحت حماية أصدقائنا؛ اعتُقلنا واحتُجزنا في ظروفٍ وحشيّةٍ لعدّةِ أشهر؛ وأكثر من ذلك بكثير. وبعد عامين في المدينةِ تحتَ الحصارِ، هربنا عبر سباحةِ ثلاثةِ كيلومترات أسفلَ نهرِ درينا المتجمّد في نيسان ١٩٩٤.
ذكرياتُ الحصار
عشتُ تجربتي الأولى مع الجوعِ في صيفِ عام ١٩٩٢. ألقتْ الشرطة القبض علينا في منتصف الليل، وطلبتْ منّا أن نحزم بضعة أكياسٍ بلاستيكيّة صغيرة فقط من الضروريّات الأساسيّة وبعض الطعام لبضعةِ أيّام. لم يكن لدينا أيّ فكرة عن المكان الذي كانوا سيأخذوننا إليه. احتجزونا في مبنى سكنيّ بجوارِ مركز الشرطة وسطَ المدينة. بقينا هناك، ثمانية أو عشرة أشخاص محشورين في كلّ غرفة ضمن أربع شُقق، لعدّة أشهر. سرعانَ ما نفدَ الطعام القليل الذي أحضرناه، وعلى مدارِ أسابيع، لم تفعل الشرطة شيئاً لمُساعدتنا.
ابتكرنا الحلولَ وطلبنا من السكّان البوشناق في الحيّ مُساعدتنا. كان والدي يحملُ علبةَ سجائر قيّمة جداً خلالَ الحرب، فأخذَ يقايضها بالماءِ والطعام، واستطعنا الحصولَ على بعضِ الماءِ أو رغيفِ خبزٍ مُقابل سيجارة. بعد بضعةِ أسابيعٍ، أُصيبَ رئيس الشرطة المتوحّش بشظايا صاروخ، وقامَ بديله بتخفيفِ الظّروف القاسية وقدّم لنا بعض الوجبات.
في هذا الوقتِ تقريباً، وصلتْ أوّل قافلةٍ تابعةٍ للأمم المتحدة محمّلة بالمُساعدات الإنسانيّة إلى المدينة. أتذكّر الأملَ الذي شعرنا به عندما رأينا شاحنات الأمم المتحدة وجنودها ذوي الخوذِ الزرقاء، وهم يقودون سياراتهم خارج المبنى الذي كنّا مُحتجزين فيه. كان ذلك اليومُ هادئاً يعمّه السلام، والأولُ من نوعه منذ اندلاع الحرب. حتّى أنّنا تمكّنا من الخروجِ إلى الشُّرفات والوقوفِ عند النوافذ دونَ خوف من التعرّض للقصف أو القتلِ على يدِ القنّاصين.
شاهدنا عمليةَ نقلِ المُساعدات الغذائيّة مِن شاحنات الأمم المتحدة وتخزينها في مبنى مُتصل بالمبنى السكني الذي احتُجزنا فيه. ثمّ غادرتْ شاحنات الأمم المتحدة المدينة. ما جرى بعد تلك اللحظة المفعمةِ بالأمل والسّلام بعد أشهر من القصف وغيره من أشكال الوحشيّة كان من أفظعِ ذكريات الحرب.
عاد القصفُ بمجرّد حلولِ الليل، مع استهدافِ المنطقة التي تمّ فيها تسليم المُساعدات الإنسانيّة وتخزينها، ونحن ضمنها. عندما بدأتْ الصواريخ بإصابةِ المباني المحيطةَ بنا، ركضنا إلى الطّابق السُّفليّ. وجدنا غرفة صغيرة كان يُخزّن فيها أحدهم الفحم للتدفئةِ في الشتاء، وبقينا هناك لمدّةِ أسبوع ننامُ على قطع من الورق المقوّى الموضوعة فوق الفحم، وسطَ ظلامٍ دامس. لم يتوقّف القصفُ طوالَ الأسبوع. لم نأكل أيّ شيءٍ تقريباً خلال هذا الوقت. وبعد أسبوع أو نحو ذلك من انتهاء القصف، زارنا مسؤولون محليّون من الصليبِ الأحمر وأحضروا لنا بعض الدقيق والأرز وزيت الطهي. قالوا إنّ هذا الطعام كان جزءاً من عمليّة تسليم الأمم المتحدة. لقد أنقذوا بعضاً منه، ولكنّ معظمه تضرّر بالكامل.
بعد شهرٍ تقريباً، طُردتْ القوّات الصربيّة من التلال المُحيطة بغوراجدي في هجومٍ عسكريّ من داخل المدينة. لكنّ الحصار لم ينتهِ، وبقي الصربُ يُحيطون المنطقة ككلّ. إلّا أنّ الوضع في المدينة تحسّنَ إلى حدٍّ ما، وسرعانَ ما أُطلقَ سراحنا من الاحتجاز وسُمحَ لنا بالعودة إلى المنزل. بعد أشهرٍ قضيناها بعيدين عن شقّتنا، عدنا لنجدها كما كانتْ عندما غادرنا. ولكنّ الشيء الوحيد الذي كان مفقوداً هو الطّعام الذي تركناه، أحدهم أخذهُ أثناءَ غيابنا.
الجوع والطعام منتهِ الصلاحيّة
كان شتاءُ ١٩٩٢-١٩٩٣ قاسياً. لم يكن لدينا طعام واعتمدنا بالكامل على القوافل الإنسانيّة التي كانت تقوم عندئذٍ بتسليم المُساعدات بشكل مُنتظمٍ إلى حدٍّ ما إلى المدينة. ولكن مرّتْ أسابيع أيضاً اشتدَ فيها الحصار، لسببٍ ما، ولم تسمح القوّات الصربيّة لقوافلِ الأمم المتحدّة بالوصولِ إلى غوراجدي. عانينا كثيراً خلالَ تلك الأسابيع. وفي مرحلةٍ ما، بدأتْ قوّات الولايات المتحدة وحلفُ شمال الأطلسيّ بإسقاط المُساعدات الإنسانيّة جوّاً فوق غوراجدي، بهدفِ كسرِ الحصار. وفي مُعظمِ الحالات، قاموا بإسقاطِ طرودٍ كبيرةٍ من الطعام. جرتْ عمليات الإسقاطِ الجوّي ليلاً، وهبطتْ في التلالِ المُحيطةِ بالمدينة، وذهبَ الكثير من النّاسِ إلى هناك بحثاً عن المُساعدات. وقعتْ الطرود على النّاس على الأرض وقتلتهم في عدّة حالات. وفي بعض المرّات، كانتْ الطائرات تُحلّق فوق المدينة وتُسقطُ علباً صغيرة مكوّنةً من وجبةٍ واحدةٍ في كلّ مكان. كنّا نخرج، مثلَ العديدِ من الأشخاص، للبحثِ عن العلب، ووجدنا بعضها ذاتَ مرّة.
عند حصولنا على حصصِ المُساعدات الغذائيّة، التي وزّعها الصليبُ الأحمر المحلي في المدينة، كنّا نجدُ فيها بعضَ الحبوبِ أو الدقيق، والأرزّ أو الفاصولياء، والحليب المُجفّف، وزيت الطّهي، وأحياناً جُبن الفيتا، وعلبة أو اثنتين من لحمِ البقر المُعلّب. وفي معظم الحالات، كانت المُساعدات الغذائيّة مُعبأة في أكياسٍ تحملُ الأعلامَ الأمريكيّة وعليها شعار كبير للوكالة الأمريكيّة للتنميّة الدوليّة. كانت العديد من أكياسِ الأرزّ والحبوبِ تحملُ ملصقاتٍ تُشير إلى أنّ تاريخ انتهاء الصّلاحيّة يعود إلى السبعينيّات أو الثمانينيّات. في كثيرٍ من الأحيان، وجبَ علينا التّخلّص من نصفِ حصصِ الحبوب أو الأرزّ التي تلقّيناها لأنّها احتوتْ على أوساخٍ وغبارٍ وحشرات ميّتة، خاصة تلك الموضوعة أسفلَ الكيس. قمنا بتنقيتها بعناية، ونظّفنا الأوساخَ وأكلنا أيّ شيء يُمكن إنقاذه. لم يكن هناك بديلٌ آخر.
أعلمُ أنّه من المفترضِ أن نكون مُمتنين للمُساعدات الغذائيّة التي أعانتنا على الاستمرارِ وأنقذتْ حياتنا مراراً وتكراراً. لم أكن لأكتبَ هذا اليوم لولاها. ولكن أيضاً، يجبُ عليّ أن أسأل: مَن يرى البشرَ الآخرين كحيوانات، بل والأسوأ، يستحقّون الحصولَ على طعامٍ مُنتهي الصلاحيّة منذ فترةٍ طويلة في أشدّ أوقاتِ حاجتهم إليه، ويستحقّون القُمامةَ التي كان من الممكن أن يتخلّصوا منها في مدافن النفايات؟
كان لحمُ البقرِ المُعلّب المقدّم لنا يُسمّى إيكار. كانت تنبعث منه رائحة فظيعة عند فتحهِ وكان طعمهُ سيّئاً للغاية. في مناسبات نادرة، استطعنا إضافةَ البصلِ وأيّ توابلٍ إليه، وكانت وجبةً جيّدةً إلى حدٍّ ما. ولكن في معظمِ الحالات، كنّا نأكلها كما هي، بكلّ قرفها. كنّا نمزح كثيراً أنّنا نتناول طعام كلاب، إلّا أنّنا تمنّينا أيضاً لو كان لدينا المزيدُ من الإيكار. من جديد، كنّا محظوظين وممتنّين لوجودِ شيءٍ للأكل. ولكن عليّ أن أتساءل اليوم عن أولئك الذين قدّموا لنا طعاماً يُشبهُ طعامَ الكلاب، وفي كثير من الحالات، حصصاً غذائيّة منتهية الصلاحيّة، معتقدين أنّ هذا ما نستحّقه. ويُمكنني أن أتخيّل أنّهم كانوا يتفاخرون بكرمهم وإنسانيّتهم أمامَ ناخبيهم ووسائلِ الإعلام.
بعد الحرب، قام فنانٌ بوسنيّ ببناء نصبٍ تذكاريّ لإيكار في سراييفو، في محاولةٍ للسخريةِ ممّا يُدعى المجتمع الدولي الذي أرسلَ هذه الإمدادات غير الصالحةِ للأكل، والتي غالباً ما كانت منتهية الصلاحيّة ولكنّها في نفسِ الوقت تُنقذ حياتنا ونحن بأمسّ الحاجة إليها.
كان ربيع وصيف وخريف عام ١٩٩٣ مقبولاً إلى حدّ ما. وبالإضافة إلى المُساعدات الإنسانيّة، كان هناك الكثيرُ من الفواكه والنباتات التي يُمكن أن نجدها في الخارج ونأكلها. كنّا نمشي عدّة كيلومترات إلى القرى المهجورةِ المحيطةِ بغوراجدي بحثاً عن الفاكهة والفطرِ البرّي. أكلنا التفّاح بمجرّد بدئه بالتشكّل من الزّهرة، أخضرَ اللونِ ومُرّ. لقد كان من الرفاهية أن نجد أيّ فاكهةٍ في الصّيف أو الخريف ناضجةٍ وجاهزةٍ للأكل. كان من الصعب العثور على أيّ شيء ناضج، فالكثير من النّاس جائعين، ويفعلون نفس الشّيء مثلنا.
أكلنا العشبَ أيضاً؛ الكثيرُ مِن العشب. بشكل رئيسيّ نبات القرّاص والهندباء. بالنسبة لنبات القرّاص، كنّا نُقطّعه ونضيفُ القليل مِن الدقيقِ والملح والماء لعجن كلّ شيء معاً ونخبزه. كانت تلك هي الأيام التي شبعنا وسُعدنا فيها. كنّا نأكلُ الهندباء كسلطة بشكل أساسي، نأكلُ الكثير منها لملء بطوننا، كما تفعل الأبقارُ والأغنام.
إنسانيّون حقيقيّون
اليوم، عندما أفكّر في تجربتي في زمنِ الحربِ والجوع، نادراً ما أتذكّر المُساعدات الغذائيّة. ما أتذكّرهُ هو العديدُ من الأشخاص العاديين من غوراجدي، وبعضهم من أصدقائنا، وبعض معارفنا، وأحياناً حتّى الغرباء، الذين شاركونا ما عندهم عندما اكتشفوا أنّنا نتضوّر جوعاً. في بداية عام ١٩٩٣، عندما علمنا أنّ والدي مريض، جاء لزيارتنا صديقٌ، كان أحدَ الأطبّاء القلائل الذين يعملون في مستشفى المدينة. صُدِمَ عندما رأى والدي. بحلولِ هذا الوقت، كان والداي قد فقدا نصفَ وزن جسميهما. أبي، الذي كان وزنهُ أكثر من ٩٠ كيلوجراماً قبل ثمانيةِ أشهر، باتَ يرتدي ملابسي. في ذلك الوقت، كنتُ في الثالثة عشرة من عمري، ونحيفٌ جداً. عادَ الطّبيب إلى المنزل وأرسلَ شخصاً يحملُ كيسين ممتلئين من الطّعام؛ وأنقذَ حياة والدي.
وفي يومٍ آخر من أوائلِ أيّام ربيع عام ١٩٩٣، استيقظنا ذاتَ صباح ولم يكن هناك طعامٌ في المنزل. اعترانا الشّعورُ باليأسِ والبؤس، وعدمِ القدرةِ على فعلِ أيّ شيءٍ حيالَ ذلك، وكان ذلك قاسياً بشكلٍ خاصٍ في مثل تلك اللحظات. خرجَ جدّي، على أملِ إيجاد وسيلة للعثورِ على بعض الطّعام، في مكان ما، ولكن ربّما أيضاً للخروج من الشّقة، وعدمِ الاضطرار إلى رؤيةِ أحفاده البائسين والجائعين في المنزل.
بينما كان يعبر جسرَ المشاة فوق نهر درينا وسطَ المدينة، صادفَ رجلاً يعرفه وزوجته. حيّوا بعضهم البعض وتحدّثوا لفترة وجيزة. أخبرهُ الرجل أنّه وزوجته ذاهبان إلى قرية في التّلال حيثُ يملكان بعضَ الأراضي، للبدء في تنظيفها وإعدادها لزراعة الغذاء. ثمّ أخبر جدي أنّه سمع أنّنا نُعاني وتمنّى لو أنّه يستطيع المُساعدة، ولكنّ عائلته كانت تُعاني أيضاً. وبينما كان هو وزوجته يودّعان جدّي ويهمّان بالرحيل، أعطاه كيساً بلاستيكيّاً صغيراً. قال إنّه لم يكن شيئاً كافياً وهو كلّ ما لديهما في الوقت الحاليّ، إلّا أنّهما أرادا منه أن يأخذه إلى المنزلِ لأحفاده. غادرا دون منحِ جدّي أيّ فرصةٍ للرفض. كان في الكيسِ رغيفُ خبز. وكان هذا هو الطّعام الوحيد الذي أخذاه معهما في طريقهما إلى القرية سيراً على الأقدام لعدّة كيلومترات، حيثُ خطّطا للبقاء هناك خلال عطلة نهاية الأسبوع. أكلنا الخبز لعدّة أيّام.
ما يهمّ هو، أنّهما، وكثيرون غيرهما، لم يتوجّب عليهما مُساعدتنا. لقد عانيا مثلنا. ولكنّهما تخطّيا خطاب الكراهية في زمن الحربِ الذي جعلنا أعداء، وشاركا معنا ما بحوزتهما. لقد كان هؤلاء هم الإنسانيّون الحقيقيّون. وليس أولئك الذين يرسلون لنا طعامهم مُنتهي الصّلاحيّة منذ فترةٍ طويلة.
الفتات والقنابل
اليوم، أشاهدُ الكثير من الأحداثِ المشابهة وأكثر، التي تحدثُ للفلسطينيين في غزّة. لقد عاشوا تحتَ حصار خانق لسنوات عديدة في ظلّ الإرهاب والفصلِ العنصريّ الإسرائيليّ. وعلى مدى الأشهرِ القليلةِ الماضية من قصفِ وهجمات الإبادة الجماعيّة، شهدنا جزءاً كبيراً من غزّة مسوّى بالأرض، بما في ذلك تدمير منازلِ النّاس والمستشفيات والمدارس والمخابز ومخازن المواد الغذائيّة بالكامل. لقد رأينا أيضاً جنوداً إسرائيليين يصوّرون أنفسهم وينشرون مقاطعَ فيديو متعدّدة عبر الإنترنت لهم وهم يُخرّبون الطعام في المنازلِ والمتاجر الفلسطينيّة. يبدو أنّ الوحشيّة والهمجيّة التي تتسمُ بها هذه المشاهد، والمعروضة أمام الجميع، هي النقطةُ التي يريدون توضيحها ويريدون أن يُدركها الجميع.
وجود الحصار الوحشيّ المفروض على غزّة حال أيضاً دون السماح بدخول قوافلِ المُساعدات الغذائيّة خلال مُعظم الأشهرِ القليلة الماضية. وعندما يُسمح لعددٍ قليلٍ من الشّاحنات بالدخول، لا تكون كافية على الإطلاق. يُستخدم الجوعُ والمجاعة في غزّة كسلاح قويّ لتدميرِ وقتلِ أكبر عدد مُمكن مِن الفلسطينيين؛ أولئك الذين لا تقتلهم قنابلُ وذخائرُ إسرائيل التي تزوّدهم بها الولايات المتحدة وبريطانيا والعديد مِن الدولِ الأوروبيّة.
لستُ مستغرباً من رؤيةِ المُساعدات الغذائيّة وهي تُستخدم كأداةِ للحربِ في غزّة. هذه ليست المرّة الأولى، ولسوء الحظ، لن تكون المرّة الأخيرة التي يحدث فيها ذلك حول العالم. لا أتفاجأ برؤية الفلسطينيين ينشرون صوراً لحصصِ المُساعدات منتهيةِ الصّلاحيّة. من الواضح أنّ المجاعة أثناءَ الحرب هي فرصةٌ عظيمة بالنسبة لبعضِ البلدان للتخلّص من المنتجات المُخزّنة في مستودعاتها المليئة بالأغذية منتهية الصلاحيّة. إنّ نقلها إلى مكبّ النفايات سيكون بمثابة هدر فرصةٍ مناسبة لمُساعدة وإذلال وإهانة الأشخاص المنكوبين في الوقت ذاته، مع كسبِ نقاط في العلاقات العامّة لبلادهم. لا بدّ من وجود كتاب قواعدٍ لهذه اللعبة في مكانٍ ما يتبعونه جميعاً.
كما أنّني لا أستغربُ رؤيةَ المُساعدات الغذائيّة، وخاصة المُساعدات الجويّة، تُستخدمُ لكسبِ نقاطٍ سياسيّة ودعائيّة في الداخلِ من قِبل دولٍ مثل الولايات المتحدة وزعمائها السياسيّين الفاسدين. فبدلاً من ممارسةِ الضّغطِ السياسيّ والدبلوماسيّ على حليفهم الوثيق للسماحِ بوصول المُساعدات الكافية إلى غزّة، يقومون بإسقاطِ الفُتات من الجو. إنّ التفاخر بإسقاط الطائرات حوالي ثلاثين ألف وجبة على أكثر من مليونيّ شخصٍ محاصرٍ في غزّة، في الفترة الفاصلة بين تسليم القنابل والأسلحةِ الأُخرى إلى إسرائيل لقتل هؤلاء الأشخاص أنفسهم، ليس سوى سلوك ساديّ. وينطبقُ الشّيء نفسه على استهدافِ إسرائيل لقوافل الغذاء لقتلِ المدنيين الفلسطينيين الذين يتضوّرون جوعاً.
أتمنى أن أقولَ شيئاً يبعثُ على الأملِ في النهاية. أتمنّى أن أقولَ للأطفال الجياع والخائفين واليائسين في غزّة أنّ كلّ شيء سيكونُ بخير. لكن لا شيء يتبادرُ إلى ذهني في هذه اللحظة. لا يوجدُ شيء شبه إيجابيٍّ حتّى ليقوله المرء. إنّ الوحشيّةَ الصّارخة التي أطلقتها إسرائيل على الفلسطينيين في غزّة وغيرها من الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، بدعم مباشر وتأييد من العديد من الديمقراطيّات الغربيّة المزعومة، مثيرةٌ للاشمئزاز ويبدو أنّه لا يُمكن إيقافها.
الشيء الوحيدُ الذي يُمكننا القيام به هو التنظيم والاحتجاج والتحدّث علناً وفضحِ النفاق والوحشيّة في كلّ ما يجري. لا أعرفُ إذا كان من الممكن إيجاد عالمٍ أفضل. لا يبدو الأمر كذلك، ليس الآن حتماً. ولكن علينا أن نستمرّ في التحدث علناً والكتابة ودحضِ أكاذيب السياسيّين ووسائل الإعلام الرئيسيّة، ودعمِ الفلسطينيّين وغيرهم من الشّعوبِ التي تُعاني في السّودان وجمهوريّة الكونغو الديمقراطيّة وأماكن أُخرى، بأيّ طريقةٍ مُمكنة، بكلماتنا وأصواتنا وأفعالنا.