من البوسنة إلى فلسطين: سجلّات الحرب والجوع والمساعدات الغذائيّة مُنتهية الصلاحيّة


تلجأ بعضُ البلدان أثناءَ الحروب للتخلّص من المنتجات المُخزنة في مستودعاتها المليئة بالأغذية مُنتهية الصلاحيّة، وهي فرصةٌ مناسبةٌ لمُساعدةِ وإذلالِ وإهانةِ الأشخاصِ المنكوبين في الوقتِ ذاته، مع كسبِ نقاطٍ في العلاقات العامّة لبلادها.

14 حزيران 2024

سافو هيليتا

باحث ومعلم يركز على إنهاء استعمار المعرفة والتعليم الدولي وإعادة بناء التعليم العالي بعد الصراع. أحد الناجين من حرب البوسنة، وهو مؤلف كتاب "ليس دوري للموت: مذكرات طفولة مكسورة في البوسنة".

مشاهدةَ المعاناة في غزّة في ظلِّ هجمات الإبادة الجماعيّة المتواصلة التي تشنُّها إسرائيل، تُعيد إليَّ ذكريات حربِ البوسنةالكثيرُ من الأشياء تُذكّرني بمعاناتي، ولكن لم يؤثّر بي أيّ شيء حتّى الآن مثل الصّورِ ومقاطعِ الفيديو والقصصِ المستمرّة عن المجاعة التي يعيشها الفلسطينيون، وهمجية ما يُسمّى "المجتمع الدّوليّ" والسّياسات المُهينة للمُساعدات الإنسانيّة.

أنا في الأصلِ من مدينة غوراجدي التي تقعُ على ضفافِ نهرِ درينا في شرقِ البوسنة والهرسككنتُ في الثانيةِ عشرة من عمري عندما اندلعتْ الحربُ في أيار ١٩٩٢، وأختي كانتْ في العاشرةكانتْ غوراجدي محاصرةً من قِبل قوّاتِ صرب البوسنة لمدّةِ ثلاثِ سنواتٍ ونصفوخلال تواجدِ هذهِ القوّات في التلال المُحيطة بها في بداية الحرب، كانتْ المدينة تتعرّضُ لقصفٍ متواصلٍ وهجمات ورصاص القنّاصينوعندما دُفعت للتراجع عنها، واصلتْ قصف المدينة من مسافة بعيدةمع هذا كلّه، كان تحديد موعد وصول المُساعدات الإنسانيّة إلى المدينة المحاصرة أحد أقوى أدوات الحرب وأكثرها وحشيّةً، كما هو الحالُ في غزّة اليوم.

عانتْ عائلتي في المدينة مثلَ جميع السكّان الآخرين من القصفِ المستمر ورصاص القنّاصة، وقلّة الكهرباء والماء والطعامنحنُ أيضاً من صربِ البوسنة، مثل القوّات التي كانت تُهاجم المدينة، التي يسكنها بشكل أساسيّ المسلمون البوسنيون (البوشناقمن المدينة وعشرات الآلاف من اللاجئين البوسنيّين الذين فرّوا من منازلهم في المنطقة، وجاءوا إلى غوراجدي بحثاً عن شكلٍ من أشكال الأمانوحقيقة أنّنا مِن نفسِ المجموعة العرقيّة التي تُهاجم المدينة ولّدَتْ لدينا مشاكل إضافيّةلقد تعرّضنا للهجوم وإطلاق النار عدّةَ مرّات؛ أخذ رجال مسلّحون والداي ليقتلوهما، إلّا أنّهما عادا إلى المنزلِ بطريقة ما؛ وقضينا أسابيع مُختبئين تحت حماية أصدقائنا؛ اعتُقلنا واحتُجزنا في ظروفٍ وحشيّةٍ لعدّةِ أشهر؛ وأكثر من ذلك بكثيروبعد عامين في المدينةِ تحتَ الحصارِ، هربنا عبر سباحةِ ثلاثةِ كيلومترات أسفلَ نهرِ درينا المتجمّد في نيسان ١٩٩٤.

ذكرياتُ الحصار

عشتُ تجربتي الأولى مع الجوعِ في صيفِ عام ١٩٩٢. ألقتْ الشرطة القبض علينا في منتصف الليل، وطلبتْ منّا أن نحزم بضعة أكياسٍ بلاستيكيّة صغيرة فقط من الضروريّات الأساسيّة وبعض الطعام لبضعةِ أيّاملم يكن لدينا أيّ فكرة عن المكان الذي كانوا سيأخذوننا إليهاحتجزونا في مبنى سكنيّ بجوارِ مركز الشرطة وسطَ المدينةبقينا هناك، ثمانية أو عشرة أشخاص محشورين في كلّ غرفة ضمن أربع شُقق، لعدّة أشهرسرعانَ ما نفدَ الطعام القليل الذي أحضرناه، وعلى مدارِ أسابيع، لم تفعل الشرطة شيئاً لمُساعدتنا.

ابتكرنا الحلولَ وطلبنا من السكّان البوشناق في الحيّ مُساعدتناكان والدي يحملُ علبةَ سجائر قيّمة جداً خلالَ الحرب، فأخذَ يقايضها بالماءِ والطعام، واستطعنا الحصولَ على بعضِ الماءِ أو رغيفِ خبزٍ مُقابل سيجارةبعد بضعةِ أسابيعٍ، أُصيبَ رئيس الشرطة المتوحّش بشظايا صاروخ، وقامَ بديله بتخفيفِ الظّروف القاسية وقدّم لنا بعض الوجبات.

كي لا أنسى، أكتب لكم عن الثورة (الجزء الأول)

13 أيلول 2023
لم أتحدث يوماً عن نشاطي في ظلّ الثورة، ولطالما فضّلت الصمت والاحتفاظ بالأشياء لنفسي ولطبيعتي التي تفضّل الصمت والإصغاء على الكلام. لكن، ما جعلني أكتب هذا النص هو خوفي على...
كي لا أنسى، أكتب لكم عن الثورة (الجزء الثاني)

27 أيلول 2023
توّقف الصعق بالكهرباء، وبدأ الصفع والضرب والركل. وقعت أرضاً، لكنه لم يتوّقف. كنت أتوجع وأتألم. لكنّي لم أصرخ، ولم أتكلم، لا رغبة منّي ولكن لأنّ صوتي اختفى، كما اختفت مشاعري...

في هذا الوقتِ تقريباً، وصلتْ أوّل قافلةٍ تابعةٍ للأمم المتحدة محمّلة بالمُساعدات الإنسانيّة إلى المدينةأتذكّر الأملَ الذي شعرنا به عندما رأينا شاحنات الأمم المتحدة وجنودها ذوي الخوذِ الزرقاء، وهم يقودون سياراتهم خارج المبنى الذي كنّا مُحتجزين فيهكان ذلك اليومُ هادئاً يعمّه السلام، والأولُ من نوعه منذ اندلاع الحربحتّى أنّنا تمكّنا من الخروجِ إلى الشُّرفات والوقوفِ عند النوافذ دونَ خوف من التعرّض للقصف أو القتلِ على يدِ القنّاصين.

شاهدنا عمليةَ نقلِ المُساعدات الغذائيّة مِن شاحنات الأمم المتحدة وتخزينها في مبنى مُتصل بالمبنى السكني الذي احتُجزنا فيهثمّ غادرتْ شاحنات الأمم المتحدة المدينةما جرى بعد تلك اللحظة المفعمةِ بالأمل والسّلام بعد أشهر من القصف وغيره من أشكال الوحشيّة كان من أفظعِ ذكريات الحرب.

عاد القصفُ بمجرّد حلولِ الليل، مع استهدافِ المنطقة التي تمّ فيها تسليم المُساعدات الإنسانيّة وتخزينها، ونحن ضمنهاعندما بدأتْ الصواريخ بإصابةِ المباني المحيطةَ بنا، ركضنا إلى الطّابق السُّفليّوجدنا غرفة صغيرة كان يُخزّن فيها أحدهم الفحم للتدفئةِ في الشتاء، وبقينا هناك لمدّةِ أسبوع ننامُ على قطع من الورق المقوّى الموضوعة فوق الفحم، وسطَ ظلامٍ دامسلم يتوقّف القصفُ طوالَ الأسبوعلم نأكل أيّ شيءٍ تقريباً خلال هذا الوقتوبعد أسبوع أو نحو ذلك من انتهاء القصف، زارنا مسؤولون محليّون من الصليبِ الأحمر وأحضروا لنا بعض الدقيق والأرز وزيت الطهيقالوا إنّ هذا الطعام كان جزءاً من عمليّة تسليم الأمم المتحدةلقد أنقذوا بعضاً منه، ولكنّ معظمه تضرّر بالكامل.

بعد شهرٍ تقريباً، طُردتْ القوّات الصربيّة من التلال المُحيطة بغوراجدي في هجومٍ عسكريّ من داخل المدينةلكنّ الحصار لم ينتهِ، وبقي الصربُ يُحيطون المنطقة ككلّإلّا أنّ الوضع في المدينة تحسّنَ إلى حدٍّ ما، وسرعانَ ما أُطلقَ سراحنا من الاحتجاز وسُمحَ لنا بالعودة إلى المنزلبعد أشهرٍ قضيناها بعيدين عن شقّتنا، عدنا لنجدها كما كانتْ عندما غادرناولكنّ الشيء الوحيد الذي كان مفقوداً هو الطّعام الذي تركناه، أحدهم أخذهُ أثناءَ غيابنا.

الجوع والطعام منتهِ الصلاحيّة

كان شتاءُ ١٩٩٢-١٩٩٣ قاسياًلم يكن لدينا طعام واعتمدنا بالكامل على القوافل الإنسانيّة التي كانت تقوم عندئذٍ بتسليم المُساعدات بشكل مُنتظمٍ إلى حدٍّ ما إلى المدينةولكن مرّتْ أسابيع أيضاً اشتدَ فيها الحصار، لسببٍ ما، ولم تسمح القوّات الصربيّة لقوافلِ الأمم المتحدّة بالوصولِ إلى غوراجديعانينا كثيراً خلالَ تلك الأسابيعوفي مرحلةٍ ما، بدأتْ قوّات الولايات المتحدة وحلفُ شمال الأطلسيّ بإسقاط المُساعدات الإنسانيّة جوّاً فوق غوراجدي، بهدفِ كسرِ الحصاروفي مُعظمِ الحالات، قاموا بإسقاطِ طرودٍ كبيرةٍ من الطعامجرتْ عمليات الإسقاطِ الجوّي ليلاً، وهبطتْ في التلالِ المُحيطةِ بالمدينة، وذهبَ الكثير من النّاسِ إلى هناك بحثاً عن المُساعداتوقعتْ الطرود على النّاس على الأرض وقتلتهم في عدّة حالاتوفي بعض المرّات، كانتْ الطائرات تُحلّق فوق المدينة وتُسقطُ علباً صغيرة مكوّنةً من وجبةٍ واحدةٍ في كلّ مكانكنّا نخرج، مثلَ العديدِ من الأشخاص، للبحثِ عن العلب، ووجدنا بعضها ذاتَ مرّة.

عند حصولنا على حصصِ المُساعدات الغذائيّة، التي وزّعها الصليبُ الأحمر المحلي في المدينة، كنّا نجدُ فيها بعضَ الحبوبِ أو الدقيق، والأرزّ أو الفاصولياء، والحليب المُجفّف، وزيت الطّهي، وأحياناً جُبن الفيتا، وعلبة أو اثنتين من لحمِ البقر المُعلّبوفي معظم الحالات، كانت المُساعدات الغذائيّة مُعبأة في أكياسٍ تحملُ الأعلامَ الأمريكيّة وعليها شعار كبير للوكالة الأمريكيّة للتنميّة الدوليّةكانت العديد من أكياسِ الأرزّ والحبوبِ تحملُ ملصقاتٍ تُشير إلى أنّ تاريخ انتهاء الصّلاحيّة يعود إلى السبعينيّات أو الثمانينيّاتفي كثيرٍ من الأحيان، وجبَ علينا التّخلّص من نصفِ حصصِ الحبوب أو الأرزّ التي تلقّيناها لأنّها احتوتْ على أوساخٍ وغبارٍ وحشرات ميّتة، خاصة تلك الموضوعة أسفلَ الكيسقمنا بتنقيتها بعناية، ونظّفنا الأوساخَ وأكلنا أيّ شيء يُمكن إنقاذهلم يكن هناك بديلٌ آخر.

أعلمُ أنّه من المفترضِ أن نكون مُمتنين للمُساعدات الغذائيّة التي أعانتنا على الاستمرارِ وأنقذتْ حياتنا مراراً وتكراراًلم أكن لأكتبَ هذا اليوم لولاهاولكن أيضاً، يجبُ عليّ أن أسألمَن يرى البشرَ الآخرين كحيوانات، بل والأسوأ، يستحقّون الحصولَ على طعامٍ مُنتهي الصلاحيّة منذ فترةٍ طويلة في أشدّ أوقاتِ حاجتهم إليه، ويستحقّون القُمامةَ التي كان من الممكن أن يتخلّصوا منها في مدافن النفايات؟

كان لحمُ البقرِ المُعلّب المقدّم لنا يُسمّى إيكاركانت تنبعث منه رائحة فظيعة عند فتحهِ وكان طعمهُ سيّئاً للغايةفي مناسبات نادرة، استطعنا إضافةَ البصلِ وأيّ توابلٍ إليه، وكانت وجبةً جيّدةً إلى حدٍّ ماولكن في معظمِ الحالات، كنّا نأكلها كما هي، بكلّ قرفهاكنّا نمزح كثيراً أنّنا نتناول طعام كلاب، إلّا أنّنا تمنّينا أيضاً لو كان لدينا المزيدُ من الإيكارمن جديد، كنّا محظوظين وممتنّين لوجودِ شيءٍ للأكلولكن عليّ أن أتساءل اليوم عن أولئك الذين قدّموا لنا طعاماً يُشبهُ طعامَ الكلاب، وفي كثير من الحالات، حصصاً غذائيّة منتهية الصلاحيّة، معتقدين أنّ هذا ما نستحّقهويُمكنني أن أتخيّل أنّهم كانوا يتفاخرون بكرمهم وإنسانيّتهم أمامَ ناخبيهم ووسائلِ الإعلام.

الألماني الأخير في مارييفكا

30 كانون الأول 2020
تعطي هذه المادة الشيّقة فكرة واضحة عن العلاقة التضاديّة بين مصالح البشر العاديين وبين المصالح السياسيّة، حيث تتحوّل حيوات الناس الفقراء والبسطاء الذين لا يطلبون أكثر من الحب والعمل والسلام...

بعد الحرب، قام فنانٌ بوسنيّ ببناء نصبٍ تذكاريّ لإيكار في سراييفو، في محاولةٍ للسخريةِ ممّا يُدعى المجتمع الدولي الذي أرسلَ هذه الإمدادات غير الصالحةِ للأكل، والتي غالباً ما كانت منتهية الصلاحيّة ولكنّها في نفسِ الوقت تُنقذ حياتنا ونحن بأمسّ الحاجة إليها.

كان ربيع وصيف وخريف عام ١٩٩٣ مقبولاً إلى حدّ ماوبالإضافة إلى المُساعدات الإنسانيّة، كان هناك الكثيرُ من الفواكه والنباتات التي يُمكن أن نجدها في الخارج ونأكلهاكنّا نمشي عدّة كيلومترات إلى القرى المهجورةِ المحيطةِ بغوراجدي بحثاً عن الفاكهة والفطرِ البرّيأكلنا التفّاح بمجرّد بدئه بالتشكّل من الزّهرة، أخضرَ اللونِ ومُرّلقد كان من الرفاهية أن نجد أيّ فاكهةٍ في الصّيف أو الخريف ناضجةٍ وجاهزةٍ للأكلكان من الصعب العثور على أيّ شيء ناضج، فالكثير من النّاس جائعين، ويفعلون نفس الشّيء مثلنا.

أكلنا العشبَ أيضاً؛ الكثيرُ مِن العشببشكل رئيسيّ نبات القرّاص والهندباءبالنسبة لنبات القرّاص، كنّا نُقطّعه ونضيفُ القليل مِن الدقيقِ والملح والماء لعجن كلّ شيء معاً ونخبزهكانت تلك هي الأيام التي شبعنا وسُعدنا فيهاكنّا نأكلُ الهندباء كسلطة بشكل أساسي، نأكلُ الكثير منها لملء بطوننا، كما تفعل الأبقارُ والأغنام.

إنسانيّون حقيقيّون

اليوم، عندما أفكّر في تجربتي في زمنِ الحربِ والجوع، نادراً ما أتذكّر المُساعدات الغذائيّةما أتذكّرهُ هو العديدُ من الأشخاص العاديين من غوراجدي، وبعضهم من أصدقائنا، وبعض معارفنا، وأحياناً حتّى الغرباء، الذين شاركونا ما عندهم عندما اكتشفوا أنّنا نتضوّر جوعاًفي بداية عام ١٩٩٣، عندما علمنا أنّ والدي مريض، جاء لزيارتنا صديقٌ، كان أحدَ الأطبّاء القلائل الذين يعملون في مستشفى المدينةصُدِمَ عندما رأى والديبحلولِ هذا الوقت، كان والداي قد فقدا نصفَ وزن جسميهماأبي، الذي كان وزنهُ أكثر من ٩٠ كيلوجراماً قبل ثمانيةِ أشهر، باتَ يرتدي ملابسيفي ذلك الوقت، كنتُ في الثالثة عشرة من عمري، ونحيفٌ جداًعادَ الطّبيب إلى المنزل وأرسلَ شخصاً يحملُ كيسين ممتلئين من الطّعام؛ وأنقذَ حياة والدي.

وفي يومٍ آخر من أوائلِ أيّام ربيع عام ١٩٩٣، استيقظنا ذاتَ صباح ولم يكن هناك طعامٌ في المنزلاعترانا الشّعورُ باليأسِ والبؤس، وعدمِ القدرةِ على فعلِ أيّ شيءٍ حيالَ ذلك، وكان ذلك قاسياً بشكلٍ خاصٍ في مثل تلك اللحظاتخرجَ جدّي، على أملِ إيجاد وسيلة للعثورِ على بعض الطّعام، في مكان ما، ولكن ربّما أيضاً للخروج من الشّقة، وعدمِ الاضطرار إلى رؤيةِ أحفاده البائسين والجائعين في المنزل.

بينما كان يعبر جسرَ المشاة فوق نهر درينا وسطَ المدينة، صادفَ رجلاً يعرفه وزوجتهحيّوا بعضهم البعض وتحدّثوا لفترة وجيزةأخبرهُ الرجل أنّه وزوجته ذاهبان إلى قرية في التّلال حيثُ يملكان بعضَ الأراضي، للبدء في تنظيفها وإعدادها لزراعة الغذاءثمّ أخبر جدي أنّه سمع أنّنا نُعاني وتمنّى لو أنّه يستطيع المُساعدة، ولكنّ عائلته كانت تُعاني أيضاًوبينما كان هو وزوجته يودّعان جدّي ويهمّان بالرحيل، أعطاه كيساً بلاستيكيّاً صغيراًقال إنّه لم يكن شيئاً كافياً وهو كلّ ما لديهما في الوقت الحاليّ، إلّا أنّهما أرادا منه أن يأخذه إلى المنزلِ لأحفادهغادرا دون منحِ جدّي أيّ فرصةٍ للرفضكان في الكيسِ رغيفُ خبزوكان هذا هو الطّعام الوحيد الذي أخذاه معهما في طريقهما إلى القرية سيراً على الأقدام لعدّة كيلومترات، حيثُ خطّطا للبقاء هناك خلال عطلة نهاية الأسبوعأكلنا الخبز لعدّة أيّام.

ما يهمّ هو، أنّهما، وكثيرون غيرهما، لم يتوجّب عليهما مُساعدتنالقد عانيا مثلناولكنّهما تخطّيا خطاب الكراهية في زمن الحربِ الذي جعلنا أعداء، وشاركا معنا ما بحوزتهمالقد كان هؤلاء هم الإنسانيّون الحقيقيّونوليس أولئك الذين يرسلون لنا طعامهم مُنتهي الصّلاحيّة منذ فترةٍ طويلة.

الفتات والقنابل

اليوم، أشاهدُ الكثير من الأحداثِ المشابهة وأكثر، التي تحدثُ للفلسطينيين في غزّةلقد عاشوا تحتَ حصار خانق لسنوات عديدة في ظلّ الإرهاب والفصلِ العنصريّ الإسرائيليّوعلى مدى الأشهرِ القليلةِ الماضية من قصفِ وهجمات الإبادة الجماعيّة، شهدنا جزءاً كبيراً من غزّة مسوّى بالأرض، بما في ذلك تدمير منازلِ النّاس والمستشفيات والمدارس والمخابز ومخازن المواد الغذائيّة بالكامللقد رأينا أيضاً جنوداً إسرائيليين يصوّرون أنفسهم وينشرون مقاطعَ فيديو متعدّدة عبر الإنترنت لهم وهم يُخرّبون الطعام في المنازلِ والمتاجر الفلسطينيّةيبدو أنّ الوحشيّة والهمجيّة التي تتسمُ بها هذه المشاهد، والمعروضة أمام الجميع، هي النقطةُ التي يريدون توضيحها ويريدون أن يُدركها الجميع.

وجود الحصار الوحشيّ المفروض على غزّة حال أيضاً دون السماح بدخول قوافلِ المُساعدات الغذائيّة خلال مُعظم الأشهرِ القليلة الماضيةوعندما يُسمح لعددٍ قليلٍ من الشّاحنات بالدخول، لا تكون كافية على الإطلاقيُستخدم الجوعُ والمجاعة في غزّة كسلاح قويّ لتدميرِ وقتلِ أكبر عدد مُمكن مِن الفلسطينيين؛ أولئك الذين لا تقتلهم قنابلُ وذخائرُ إسرائيل التي تزوّدهم بها الولايات المتحدة وبريطانيا والعديد مِن الدولِ الأوروبيّة.

لستُ مستغرباً من رؤيةِ المُساعدات الغذائيّة وهي تُستخدم كأداةِ للحربِ في غزّةهذه ليست المرّة الأولى، ولسوء الحظ، لن تكون المرّة الأخيرة التي يحدث فيها ذلك حول العالملا أتفاجأ برؤية الفلسطينيين ينشرون صوراً لحصصِ المُساعدات منتهيةِ الصّلاحيّةمن الواضح أنّ المجاعة أثناءَ الحرب هي فرصةٌ عظيمة بالنسبة لبعضِ البلدان للتخلّص من المنتجات المُخزّنة في مستودعاتها المليئة بالأغذية منتهية الصلاحيّةإنّ نقلها إلى مكبّ النفايات سيكون بمثابة هدر فرصةٍ مناسبة لمُساعدة وإذلال وإهانة الأشخاص المنكوبين في الوقت ذاته، مع كسبِ نقاط في العلاقات العامّة لبلادهملا بدّ من وجود كتاب قواعدٍ لهذه اللعبة في مكانٍ ما يتبعونه جميعاً.

كما أنّني لا أستغربُ رؤيةَ المُساعدات الغذائيّة، وخاصة المُساعدات الجويّة، تُستخدمُ لكسبِ نقاطٍ سياسيّة ودعائيّة في الداخلِ من قِبل دولٍ مثل الولايات المتحدة وزعمائها السياسيّين الفاسدينفبدلاً من ممارسةِ الضّغطِ السياسيّ والدبلوماسيّ على حليفهم الوثيق للسماحِ بوصول المُساعدات الكافية إلى غزّة، يقومون بإسقاطِ الفُتات من الجوإنّ التفاخر بإسقاط الطائرات حوالي ثلاثين ألف وجبة على أكثر من مليونيّ شخصٍ محاصرٍ في غزّة، في الفترة الفاصلة بين تسليم القنابل والأسلحةِ الأُخرى إلى إسرائيل لقتل هؤلاء الأشخاص أنفسهم، ليس سوى سلوك ساديّوينطبقُ الشّيء نفسه على استهدافِ إسرائيل لقوافل الغذاء لقتلِ المدنيين الفلسطينيين الذين يتضوّرون جوعاً.

أتمنى أن أقولَ شيئاً يبعثُ على الأملِ في النهايةأتمنّى أن أقولَ للأطفال الجياع والخائفين واليائسين في غزّة أنّ كلّ شيء سيكونُ بخيرلكن لا شيء يتبادرُ إلى ذهني في هذه اللحظةلا يوجدُ شيء شبه إيجابيٍّ حتّى ليقوله المرءإنّ الوحشيّةَ الصّارخة التي أطلقتها إسرائيل على الفلسطينيين في غزّة وغيرها من الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، بدعم مباشر وتأييد من العديد من الديمقراطيّات الغربيّة المزعومة، مثيرةٌ للاشمئزاز ويبدو أنّه لا يُمكن إيقافها.

الشيء الوحيدُ الذي يُمكننا القيام به هو التنظيم والاحتجاج والتحدّث علناً وفضحِ النفاق والوحشيّة في كلّ ما يجريلا أعرفُ إذا كان من الممكن إيجاد عالمٍ أفضللا يبدو الأمر كذلك، ليس الآن حتماًولكن علينا أن نستمرّ في التحدث علناً والكتابة ودحضِ أكاذيب السياسيّين ووسائل الإعلام الرئيسيّة، ودعمِ الفلسطينيّين وغيرهم من الشّعوبِ التي تُعاني في السّودان وجمهوريّة الكونغو الديمقراطيّة وأماكن أُخرى، بأيّ طريقةٍ مُمكنة، بكلماتنا وأصواتنا وأفعالنا.

مقالات متعلقة

هل نشبه الأرض إلى كلّ هذا الحد؟

08 تشرين الثاني 2023
في الكوارث كما في غيرها تدفع الأقليات الثمن الأكبر، ما بالك بأصحاب التقاطعيات منها. ومن بين هؤلاء هناك فئة تعاني من عدوانية وإقصاء بشكل مضاعف، ألا وهم أفراد مجتمع الميم...
رسمٌ فوق جدران سجون داعش

22 شباط 2022
في المهجع رقم أربعة في سجن المحكمة الإسلاميّة في مدينة الباب، والذي تبع تنظيم داعش، كان أبو ديار معتقلًا، فقط لأنّه كرديّ. رسم أبو ديار فوق جدران ذلك السجن، وكتب...
فلسطين: المعيشة والاقتصاد على هامش العدوان

20 أيار 2024
لا يمكن فهم الواقع الفلسطيني عموماً والحالي خصوصاً دون تفكيك الجانب الاقتصادي وانعكاساته على القرار السياسي الفلسطيني، حيث أن الأرقام قد تعطينا مؤشرات عن شكل الواقع، إلا أنها غير كافية...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد