أجلسُ على رصيفٍ حجريٍّ في مدينة يوتوبوري (غوتنبيرغ) في شمال السويد، وأراقب صفحة الماء الرقراق. أراقب اللون الذهبي للماء عند غروب الشمس وأفكّر في تعريف الماء.
أتذكر أبياتًا ساخرة قالها أحدهم في زمان قديم:
الأَرضُ أرضٌ والسماءُ سَماءُ والمَاء مَاءٌ والهَوَاءُ هَواءُ
ويقَال إنَ النّاس تَنطق مِثلنَا أمّا الخِرافُ فَقَولهَا مَأمَاءُ
كلُّ الرِّجالِ عَلى العُمومِ مذَكرٌ أما النِّساءُ فَكلهنّ نِساءُ
أبتسم، وأعيد نطق كلمة الماء. أردّد "والمَاءُ ماءٌ" عشرات المرات. أقول لنفسي، ما الذي يفيد التفكير بتعريف الماء، فمهما حاولت سيبقى الماءُ ماءً، وهل أكون أفضل من ذاك الذي "فسّر الماءَ بعدَ الجهدِ بالماءِ"؟
قبلها بساعات، كنتُ أجلس مع صديقة في بار الفندق الذي نزلتُ فيه. في الخلفية صوتُ موسيقى البيتلز وموسيقى أخرى تشبهها. أقولُ لصديقتي إنّني أفكّر في الماء. أشاركها ما يجولُ في خاطري.
في اليوم التالي، في القطار، في طريق عودتي إلى بيتي في برلين، أكتبُ هذه الكلمات في دفتر الملاحظات الصغير. أنظر من النافذة الواسعة فأرى القطار يعبر بجانب بحر الشمال، أرى القطار يعبر فوق بحر البلطيق؛ القطار الواصل بين بلادٍ لا تتصّل، القطار العابر في وقتٍ هاربٍ من زمن عارٍ، القطار المتحرّك بسرعة نحو مستقبل مجهول، القطار المجانب لماء البحر، وأكتب. أكتبُ عن الماء وأتذكر حياةً مرّت أحيانًا سريعة كومضة شهاب، وأحيانًا ثقيلة كجبل. لا شيء يوقف قطار الوقت.
ماءُ دمشق
أتذكر نفسي طفلًا أحمل وعاءًا أو إبريقًا فارغًا وأقطع شارع الثورة في وسط دمشق، متجهًا نحو منطقة ساروجة لأملأ الإبريق ماءً من جامع الورد الكبير، أو من السبيل المقابل له. أشعر بعذوبة الماء فوق شفتي. أعود بالإبريق إلى دكان جدي في منطقة القرماني.
كانت سُبُل الماء منتشرةً في دمشق، وكان الناس يؤمنون بالثواب وبأنّ سقاية العطشى هي أنبل الأفعال، والسبل هي محطّات ماء لعابري السبيل مجانًا. أتذكّر سُبُلًا في دمشق القديمة وفي سوق القرماني وفي ساروجة وفي ركن الدين. أتذكّر برادات الماء والثلج وطعم الماء في أيام الصيف القائظة.
اعتقدتُ، حين كنتُ أعيش في البلاد، أنّ هذا الأمر موجود فقط في دمشق، أو في سوريا بشكل عام، لكن لاحقًا اكتشفت سُبُل الماء في اسطنبول والقاهرة وغرناطة، وفي قرى الغابات السوداء في جنوب ألمانيا، وهي من أعذب المياه وأنقاها.
لكن هذا كان لاحقًا. في سنوات بُعادي الأولى عن دمشق، عدتُ بعد وقتٍ قصيرٍ في أوروبا إلى بيروت وعشتُ فيها، وكنت أشتاق لطعم ماء الشام. في تلك الفترة، كنتُ أطلبُ من أيّ صديق أو صديقة قادمين من دمشق إلى بيروت أن يحملوا لي عبوة من مياه نبع الفيجة. أشربُ الماء في بيروت، وأحس بطعم دمشق يجري في عروقي.
في سنواتي المدرسيّة الأولى، وفي السنة الخامسة تحديدًا، أي حين كنتُ في العاشرة من عمري، كنتُ طالبًا في مدرسة محي الدين بن عربي في حي ركن الدين، وتوجّهنا في رحلةٍ مدرسيّةٍ إلى نبع عين الفيجة غربي دمشق، وعين الماء هذه تقع في وادي بردى وتزوّد مدينة دمشق بحاجتها الأساسية للماء. أدخلونا إلى محطة معالجة المياه هناك، كنّا أطفالًا منبهرين بما نراه أمام أعيننا.
كانت سُبُل الماء منتشرةً في دمشق، وكان الناس يؤمنون بالثواب وبأنّ سقاية العطشى هي أنبل الأفعال
لكن رغم ذلك لم يكن في دمشق ما يكفي من الماء، مياه نهر بردى الذي كان ممتلئًا بالمياه حتى ثمانينات القرن الماضي، ويعبر المدينة والبساتين المحيطة بها، ويوفّر مياه الري والتنظيف وغيرها من الاستخدامات، وحتى أنّ الناس كانوا يسبحون في بعض مواضع النهر، كانت قد جفّت.
قامت الحكومة السورية بإقامة مشاريع سكنية وتجارية وتوسّعت المدينة دون وجود أيّ تخطيطٍ واضح، فاقتُطعت مساحات عظيمة من الغطاء الأخضر، وجرّت مياه النهر للاستخدام في بيوتِ وقصورِ أصحاب السلطة، ممّا أدى إلى نضوب مياه النهر إلا في بعض أسابيع فصل الربيع.
في سنوات الألفية الجديدة، وُجدت خطط مبتكرة لإعادة المياه إلى بردى، منها مثلًا تحويل المياه الزائدة المستخدمة في الري في الحدائق العامة وتجميعها في خزانات مفلترة، تغذّي النهر بالمياه على طول مسرى جريانه. أو مثلًا تحويل مياه الصرف الصحي بعد تنقيتها إلى النهر، لكن كلّ هذه الخطط اصطدمت بفساد المسؤولين الحكوميين ولم يُنجز شيء منها، ممّا أدى في النهاية إلى نقص الغطاء الأخضر في المدينة وتحوّلها إلى ما يشبه المدينة الصحراوية، وإلى تحوّل مجرى النهر إلى مسارٍ بشع في معظم مناطق المدينة.
في معظم الأوقات لم تكن المياه تصل بيتنا في الطابق الثالث في بناء بُني على سفح جبل قاسيون، فكنا نركّب مُولِّدًا (دينمو) يساعدنا في الحصول على المياه عند قلّة ضغط المياه المتدفقة؛ يُساعد المُولِّد المياه في الوصول إلى صنابير بيتنا.
كنتُ أطلبُ من أيّ صديق أو صديقة قادمين من دمشق إلى بيروت أن يحملوا لي عبوة من مياه نبع الفيجة. أشربُ الماء في بيروت، وأحس بطعم دمشق يجري في عروقي
لم نمتلك في البيوت مياه ساخنة طوال الوقت، كان علينا تشغيل "سخّان الحمام" كي نحصل على المياه الدافئة والحارة، لذلك لم نكن نستطيع الاستحمام يوميًا، فكان الأمر يتم مرّة في الأسبوع أو مرّتين كحدٍّ أقصى، ولم نكن نستهلك الكثير من المياه مثلما يفعل المواطنون العاديون في دول أوروبا الغربية، بل كنّا نقتصد ما استطعنا.
كذلك الأمر في القامشلي، حيث عشت سنوات قليلة خلال طفولتي، كان المُولِّد يجلب لنا الماء من الآبار القريبة المحفورة حول المدينة، لم تكن مياه الشرب عذبة وطيّبة مثل تلك التي في دمشق. كلّ استخداماتنا كانت من المياه الجوفية.
مياه دول الجوار
تنوس أفكار المرء أوّل اغترابه بين أمرين، أولهما أنّ بلاده أحلى البلاد، وثانيهما أنّ بلاده الأكثر خرابا.
وصلتُ إلى اسطنبول، المدينة الساحرة. أردتُ شربة ماء، فقالت لي صديقتي، صاحبة البيت، إنّ هذه العبوة الكبيرة لماء الشرب وإنّ ماء الصنبور لا يُشرب. صُدمت. كنتُ شابًا في أوائل عشرينياتي، لا أعرفُ الكثير عن البيئة في دول العالم، رغم دراستي الجامعية للعلوم البيئية لسنوات ثلاث، ورغم تطوّعي في الجمعية السورية للبيئة لسنوات خمس، ورغم عملي في شركة دراساتٍ بيئية خلال أحد سنوات دراستي الجامعيّة.
كيف يُشترى الماء؟ أو ليس ماءُ الشربِ حقًا لجميع الناس ويجب أن يكون مجانيّ التكلفة؟ كنتُ ساذجًا.
صُدمت بهذا الأمر في تركيا وفي مصر وفي الأردن. كيف نشتري المياه والأرض أصلها ماء؟ صرتُ أقرأ عن المياه العذبة وعن حروب المياه وعن تحلية مياه البحر وعن مدن ومناطق شاسعة من العالم لا توجد فيها مياه للشرب. عرفت أشياءًا وغابت عني أشياء.
مثلي مثل طائر السنونو الذي هاجر، تركَ جنوبه واتجه شمالًا، وبعد أن ترك أثره في بلاد الشمال الباردة، اشتاق إلى بلاده الحارّة وأراد العودة
في الأردن مثلًا، وفي إحدى زيارات العمل، حجز لي الداعون غرفة في فندق ذو نجوم خمسة. شربت بعضًا من قارورة الماء الموضوعة بجانب السرير، في اليوم التالي كانت القارورة نفسها موجودة. عادة في الفنادق يقومون بتغيير قوارير المياه المفتوحة، لإظهار الفخامة، في ذلك الفندق في عمّان لم يفعلوا، بل علّقوا ورقة صغيرة في الحمام تطلب من النزلاء أن يقتصدوا في استخدام المياه، لأنّ لا ماء يكفي في البلاد.
كآبة الماء
تحيط ببرلين عشرات البحيرات، يرتادها سكّان المدينة في أسابيع الصيف القليلة. في الأيام القائظة، تكاد تخلو المدينة من قاطنيها، تراهم كلّهم يسبحون في ماء البحيرات والمسابح. يبدو أنّ هذه المدينة لا تحتاج إلى بحر حتى تكون جميلة. يكفي برلين بحيراتها ونهرها، لكن ينقصها رائحة هواء البحر؛ بحر بيروت، بحر اسطنبول، بحر اللاذقية، بحر البلطيق، بحر… أيّ بحر.
في برلين استحم بالمياه الساخنة متى أشاء. بجانب موقع مِرَش الماء (الدوش) هناك نافذة صغيرة، أغلقها واستحم، صيفًا وشتاءً.
في صباحاتِ شتاء برلين شديدة البرودة، أستحم بماء ساخن وأفكر بأولئك الذين "يرضعون الغمام"، أولئك الذين لا مأوى لهم ولا ماء. تقول لي شريكتي: في كلّ شتاء تحزن وتحتلك الكآبة، ما بالك؟ أقول لها أولًا: الشمس، لا تشرق الشمس في برلين وأنا من محيط البحر المتوسط، أحتاج إلى الشمس. تقول إن هذه حُجّة، وأنّ هناك أسباب أخرى أعمق. أحاول أن أشرح لها إنّني حزين لأنّني أستطيع الاستحمام بالماء الساخن، وفي المكان الذي أتيت منه لا يجد كثير من الناس ماءً للشرب، أو حتى في مدينتي التي أعيش فيها، برلين، هناك الكثير من المشرّدين والفقراء الذين لا يجدون ماءً للشرب. أقول لها إنّ ما يصيبني هو كآبة الماء. تحزن حبيبتي لحزني وتقول إنّه ربّما عليّ أن أراجع طبيبًا نفسيًا.
أكتب الآن وعلى طاولتي كأس من الماء، أتأمّل الكأس. نصفه فارغ، وفي النصف الآخر ماءٌ سيُشرب بعد قليل. أنظر من شباك الغرفة فأرى مطرًا يهطل بنعومة. حواف الأبنية مبلّلة. السماء رمادية تميل إلى الزرقة، وفوق البناء المجاور تقف الحمامات في خطٍّ مستقيم تنظر إلى الأفق.
أرى كلّ هذا، وفي ذهني صورة لمخيّمٍ غارقٍ في الطين.
وكأنّي سنونو
في يوتوبوري (غوتنبيرغ) في شمال السويد أرى النوارس تحلّق فوق المدينة، أتذكر نوارس اسطنبول أول عهدي بالمنفى. كنتُ مبهورًا بهذا الطائر الذي يرافق السفن والقوارب التي تنقل أهل المدينة بين شطريها.
أجلس الآن في مطبخ بيتي وأقرأ الملاحظات التي دونتها في القطار وأتذكر سماء القامشلي. كنتُ طفلًا صغيرًا مبهورًا بأسراب السنونو التي تحتل سماء المدينة في موعد هجرتها نحو الدول الأوروبيّة لتضع بيوضها وتعود حين تصبح الحياة غير محتملة هناك بسبب البرودة.
مثلي مثل طائر السنونو الذي هاجر، تركَ جنوبه واتجه شمالًا، وبعد أن ترك أثره في بلاد الشمال الباردة، اشتاق إلى بلاده الحارّة وأراد العودة.
ربّما، في الصيف القادم، سيلعب طفل ما بالكرة في شوارع القامشلي، بينما ترشّ أمّه الماء أمام باب البيت لتنظيفه، يلعب بالكرة دون أن يفكّر بشيء آخر غير اللعب، يرفع نظره إلى السماء ويرى أسراب السنونو، فيحلم.