رسالة إلى سمر صالح: سقط النظام لكن عالمنا حزين في غيابك


ترافقت فرحة السوريين/ات بسقوط النظام مع كارثة وطنية، إذ تكسّرت أحلام مئات الآلاف من العوائل بالإفراج عن أحبائهم في سجون النظام، أو معرفة مصيرهم لدى التنظيمات الأخرى كداعش، على صخرة الواقع. في هذه الرسالة العاطفية، تخاطب مريم حايد صديقتها سمر صالح، التي غيّبها تنظيم داعش منذ أكثر من عقد، وتصف مشاعرها المختلطة، التي يغلب عليها حزن، يكبح حماسها حيال المضي في بناء سوريا جديدة.

14 كانون الثاني 2025

مريم حايد

(أخصائية نفسية وناجية من الاعتقال)

لقد سقط النظام ولم يعد للأسد وجود، هل تستوعبين معنى ذلك؟ لا مزيد من القصف ولا الجوع ولا الرعب ولا الحصار. جميع سجون النظام فُتحت وخرج جميع المعتقلين/ات الأحياء، لكن للأسف ظهرت الكثير من الجثث التي تعود لشهداء تحت التعذيب. لو رأيت فقط مشاهد المعتقلين والمعتقلات المحررين من تلك السجون، حتى سجن صيدنايا، لقد اعتقدوا أن الأسد قد أصدر عفوًا لأنهم لم يتخيلوا أن ذلك النظام المتوحش قد زال وانتهينا منه ومن قمعه واحتلاله لبلدنا مدة 54 عامًا.

في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024 سقط النظام للأبد ورحل الأسد وبدأت حريتنا كسوريات وسوريين. ذاك اليوم امتزج بمشاعر مختلطة، فرح بانتهاء حقبة الأسد وحزن عمن فقدناهم منذ ال 2011، وأمل بمعرفة مصير المغيبين والمختفين والمختطفين قسرًا، لترتاح قلوب الأهالي والأمهات الثكالى.

لكن فرحتنا يا سمر غائبة بغيابك وعدم كشف مصيرك حتى الآن. لا أدري ماذا أقول لك، فمنذ رحيل الطاغية وكلي أمل في معرفة معلومات جديدة عنك وعن محمد، واعتقدت أن فتح السجون وتحرير المعتقلين والمعتقلات سيعطي أجوبة ويكشف عن مصير جميع المعتقلين بمن فيهم أنت، لكن لا معلومات حتى الآن للأسف. أعرف أن الكشف عن مصيركما يستلزم الصبر والانتظار والوقت وتحقيق طويل الأمد وتحليلات ولجان دولية، لكنني تعبت من بناء السيناريوهات في رأسي، ومع ذلك لا زلت مثابرة على الأمل، من أجلك ومن أجلي.

إنها البداية وعلى أمل أن تصبح سوريا أجمل لنا جميعا نساًء ورجالًا، أقليات وأكثريات، دينيين ومحايدين ولا أدريين، مثليين وغير مثليين. أن تكون لدينا جميعًا دون استثناء نفس الحقوق والفرص، للعيش بكرامة وحرية دون تمييز أو تفضيل. وعلى أمل أن نسمع خبرًا مفرحًا عنك يريح قلوبنا ويكمل فرحتنا الناقصة بك وبكم.

وأنا أكتب هذه السطور أعود لتذكر كل تفصيل من تفاصيل حياتك. كنت منذ صغرك قوية ومندفعة، لا تفكرين بعواقب تصرفاتك وخياراتك، ولا حدود لحريتك. كنت مندفعة في كل شيء، بعطائك ومساعدتك ودعمك ومشاعرك، وفي المقابل لا تنتظرين أي مقابل من أي أحد.

منذ اختفائك يا سمر وأنا أعيش على أمل أنني يومًا ما سأعرف ما جرى معك

عندما بدأت الثورة كنت من أوائل من تحمسوا للمشاركة في المظاهرات وتقديم الدعم للعائلات والمحتاجين، ولم يمنعك خوفك من الاستمرار  على الرغم من ممارسات النظام الوحشية لمنع المتظاهرين من التظاهر السلمي والتعبير عن أنفسهم بحرية ورغبتهم في إسقاط النظام، بل حفزك أكثر لتكوني مثالًا يحتذى بك،  تشجعين الآخرين لعيش تلك اللحظة التاريخية الفريدة بعد أن وصل الربيع العربي أخيرًا إلى سوريا، حلم كنا نخشى تخيله وها قد بدأنا نعيشه بلهفة على أرض عانت ما يكفي من سنوات قمع وأوجاع وكتمان لأصوات الآلاف،  بسبب وحشية عائلة الأسد، التي احتكرت السلطة وأرهبت الشعب.

(صورة للناشطة سمر صالح المختطفة من قبل الدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش ) منذ تاريخ 12آب/ أغسطس 2013. المصدر: صفحة "الرقة تذبح بصمت" على فيسبوك))

كنت يا سمر كعادتك متحمسة وغير حذرة على الإطلاق خلال التظاهرات والاحتجاجات أو أثناء نشاطك السلمي. علمتنا الحياة أن هناك دائما ثمن لأفعالنا، إيجابية أكانت أم لا. أظن أنه لم يخطر يومًا لك أو لنا أن الثمن الذي ستقدمينه سيكون باهظًا هكذا، وإلا لكنا جميعا بما فيهم أنت، لنغير اعتباراتنا قليلًا ونضغط عليك، أكثر ليكون الثمن أقل ألمًا وأقصر مدة وأكثر أمانًا لنا ولك.

كنت في بداية الثورة في حلب وأنا في الشام. وفي كل مرة كنت فيها معك في حلب، كنت تشركيني معك في المظاهرات والأنشطة التي تقومين بها دون بذل أي جهد في التخطيط، ولطالما كنت جزءًا من حياتك، كما كنت جزءًا من تفاصيلي.

أتذكر تمامًا ذلك اليوم الذي تم فيه التخطيط للاجتماع مع نساء أخريات في منطقة الميدان في حلب خلال الأشهر الأولى للثورة. اتفقنا على كتابة بيان يدين فيه همجية النظام في قمع المظاهرات السلمية التي تطالب بحقها في التظاهر بشكل سلمي في الشوارع، كما تدين عمليات الاعتقال التعسفي التي يتعرض لها المتظاهرون، الذين عناصر الأمن والشرطة.

اُتفق سرًا على لقاء يجمع مجموعة من النساء اللواتي في منزل أحد شباب مدينة حلب في حي الميدان، وتمت تغطية جدران الغرفة التي سيتم التصوير فيها بأغطية ستائر حتى لا يتم التعرف على المكان، وكي لا يتعرض الشاب لأي مخاطر.

اُتفق مع النساء على وضع شال يغطي بإحكام كامل الوجه واليدين، وأي علامات أخرى مميزة، إذ إن التعرف على واحدة منهن، سيجعل الأخريات في خطر. تمت المهمة بنجاح وبسلاسة وبعد الانتهاء من التصوير، تم إخلاء المكان بسرعة. ولاحقًا عُرض البيان على قناة الجزيرة.

لاحقًا وكلما اقتضت الحاجة، كنت تساعدين في استقبال آلاف العائلات المهجرة من حمص وإدلب ودير الزور، بداية ٢٠١٢، التي اضطرت لترك منازلها والنزوح إلى حلب بحثًا عن الأمان لها ولأطفالها نتيجة قصف النظام العشوائي على المناطق التي ثارت ضده. كانت العائلات قد استقرت في مدارس بعد أن تم إخلائها واعتمادها كمراكز إيواء.

إنها البداية فقط يا سمر وعلى أمل أن تصبح سوريا أجمل لنا جميعا؛ نساًء ورجالًا، أقليات وأكثريات، دينيين ومحايدين ولا أدريين، مثليين وغير مثليين...

تركز نشاطك كما أتذكر الآن على تلبية احتياجات الأسر الأساسية من الطعام والأدوية والحليب والسلل الغذائية، من خلال تنسيق العمل التطوعي بين شبكة من أصدقائك. لم يقتصر عملك على التواصل مع الأهالي فقط وتلبية احتياجاتهم، بل امتد ليشمل أيضًا القيام بأنشطة تطوعية للأطفال، وقضاء المزيد من الوقت معهم في محاولة لتخفيف الأثر السلبي للنزوح والحرب على حالتهم النفسي، ولا سيما أن حياتهم وعالمهم وروتينهم، كان قد انقلب رأسًا على عقب. كان عليهم تقبل أن حياتهم لن تعود كما كانت، ولن يذهبوا مرة أخرى للمدرسة ليتابعوا تعليمهم ولن يلعبوا ولن يلتقوا بأصدقائهم الذين اعتادوا قضاء غالبية أوقاتهم معهم.

تابعتِ نشاطك السلمي وتقديم المساعدات إلى أن أتيحت لك فرصة متابعة الدراسات العليا في مصر، والحصول على ماجستير في كلية الآثار التي درست فيها.

لم تكن ترغبين بالرحيل، أتذكر ذلك، لكن تشجيع عائلتك وأصدقائك أقنعك بالسفر. أشاروا إليك بأن بإمكانك العودة إلى سوريا ومتابعة نشاطك بعد أن تنهي دراستك. اقتنعتِ وسافرتِ على مضض، حزينة على اتخاذك قرار الرحيل. في العام 2013 عدتِ يا سمر إلى سوريا وتحديدًا إلى مسقط رأسك، الأتارب في ريف حلب في الوقت الذي كانت تحت سيطرة تنظيم داعش.

لم تكن ترتدين الحجاب يومها وكنت مصرة على رفض ارتدائه. كنتِ مصرة على إثبات وجهة نظرك وتحدي ما فرضته داعش على الأهالي، كما كنت مصرة على التمرد والنضال ضد قوانين وقواعد التنظيم في المنطقة على الرغم من محاولة والدتك إقناعك بالعدول عن ذلك، وعدم المخاطرة لتلك الدرجة، لما لذلك من عواقب وخيمة. لكن بالتأكيد لم يخطر لك أو لوالدتك أن تصل العواقب لدرجة الاختطاف.

(سمر صالح وصديقها محمد العمر الذي اختطفتهما داعش في مدينة الأتارب شمال غربي سورية بتاريخ ١٢ أب/ أٌغسطس ٢٠١٣- المصدر: وسائل التواصل الاجتماعي))

خلال فترة وجودك في القرية مع صديقك محمد العمر، قررتما التقاط الكثير من الصور للأماكن التي تم دمرها داعش في المنطقة. لم تكتف بذلك فقط، بل طرحتِ أيضًا استبيانًا على أهالي المنطقة، حول رأيهم بسيطرة داعش وقوانينهم الجائرة، من تقييد الحريات وفرض لباس معين عليهم.

ماذا حصل؟ ما علمناه يا سمر، أن أحدهم تكفل بإيصال تلك المعلومة بطريقة ما لداعش، وعلم التنظيم كما يبدو بمكان وجودك ومحمد ووالدتك. كنتم تتمشون في إحدى شوارع المنطقة في طريق عودتكم للمنزل. توقفت ثلاث سيارات قربكم، علمنا لاحقًا، ونزل منها عدد غير قليل من المسلحين الملثمين، بلباس مدني، قام أحدهم بإمساك محمد وتوجيه سلاح لرأسه ثم إدخاله قسرًا لإحدى السيارات، في حين توجه مسلح آخر نحوك ليمسكك من شعرك ويوجه سلاحه نحوك ويدخلك قسرا أيضًا إلى إحدى السيارات. حاولت والدتك، منعهم وحمايتك، لكنها لم تستطع أن تنقذك، على الرغم من صراخها وطلب المساعدة.

عن معتقل صيدنايا ووثائقنا .. هل كان بالإمكان تفادي الوضع الكارثي بُعَيدَ سقوط النظام؟

23 كانون الأول 2024
تحرير معتقل صيدنايا وغيرها من المعتقلات، فيما كان النظام السوري ينهار، صدم السوريين/ات، وعلى نحو خاص ذوي المعتقلين/ات، إذ لم تضم إلا قلّة من أخفاهم خلال العقود الماضية، خرجوا وهم...

اختفت السيارات ومعها، أنتِ ومحمد منذ ال 13 من أغسطس/آب 2013 حتى الآن؛ وإلى الآن لا زالت والدتك تبحث عنكما، لكن للأسف دون جدوى.

لا زال الأمل يحدو أهلك وأهل محمد وأصدقائكما، ولا زلنا جميعًا ننتظر معلومة عن مكان وجودكما أو خبرًا يطمئننا بأنكما بخير، ولا زال الأمل حاضرًا، بأنه سيأتي اليوم الذي تتحقق فيه العدالة لجميع من عانوا وعذبوا وخُطفوا وغيبوا قسرًا في السجون، وبأنه سيأتي اليوم الذي سيُطلق فيه سراح جميع المعتقلين والمغيبين والمختفين قسرًا، سواء في سجون النظام أو في سجون داعش.

سمر، منذ اختفائك وأنا أعيش على أمل أنني يومًا ما سأعرف ما جرى معك، وأملي زاد بهروب الأسد، لكن إلى الآن لا جديد. لا أدري إن كان الأمل يخفف ثقل وطأة الأيام ويعيننا على الاستمرار أم أنه يزيد الوجع والوهم والحلم والخيبة. الانتظار متعب والاحتمالات كثيرة، الأمل متعب لكن لربما العيش بلا أمل متعب أكثر.

رحل الأسد صحيح لكنه أخذ تفاصيل حكايتنا السورية معه، فرحتنا كانت ناقصة، ممزوجة بالوجع والحزن وقلة الحيلة والضياع وهول صدمة المشاهدة. رحل الأسد صحيح، لكن حكايتنا لم تنته وجرحنا لم يلتئم ولم يشف ووجعنا لم ينته، وأنتم أين أنتم؟ هو رحل وأعادنا للبداية، ثم زاد أملنا بمعرفة مصيركم ثم خاب أملنا بمشاهد المقابر الجماعية، والآن نتخبط وننتظر.

لا زالت أسئلتنا بلا أجوبة، والأمهات مفجوعات تنتظر معرفة ما حل بأبنائها وبناتها، ولا زال الجرح السوري ينزف ويلتهب، ولا زلنا ننتظر خاتمة لهذا الوجع، من خلال معرفة ما جرى معكم لنتمكن من إغلاق جراحنا والمضي قدما في بناء سوريا الجديدة. سأبقى انتظرك وأتمنى أنك في مكان جيد ومريح وهادئ، لا تعب فيه ولا وجع.

مقالات متعلقة

هل نشبه الأرض إلى كلّ هذا الحد؟

08 تشرين الثاني 2023
في الكوارث كما في غيرها تدفع الأقليات الثمن الأكبر، ما بالك بأصحاب التقاطعيات منها. ومن بين هؤلاء هناك فئة تعاني من عدوانية وإقصاء بشكل مضاعف، ألا وهم أفراد مجتمع الميم...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد