دفعت مجازر طالت المدنيين/ات في الساحل السوري، نفّذتْها عناصر وُصفت بغير المنضبطة، تابعة للإدارة الجديدة في سوريا، خلال وبعد عملياتٍ عسكرية ضد بقايا نظام الأسد، العديدَ من المثقفين/ات السوريين/ات، المتحدرين من تلك المناطق، ذوي التاريخ النضالي الطويل ضد نظام الأسد، إلى مراجعة نظرتهم للمجتمع الثائر معهم ضد الاستبداد يوماً، مع غياب تضامنٍ شاملٍ وواضح مع الضحايا.
خيبة أملٍ وعتبٌ كبير حملتهما ردود ضيفنا الكاتب والطبيب راتب شعبو (من مواليد اللاذقية)، على النشطاء والنخبة المناهضة للنظام سابقاً، لقاء مواقفهم من تلك المجازر.
يدعو شعبو، الذي قضى من عمره 16 عاماً متّصلة (1983 - 1999) في معتقلات الأسد، إلى تشكيل مجلس حكماء، ويوضح لماذا ينبغي أن يكون كل سوريّ/ة معنياً بإيقاف الانتهاكات والمجازر في الساحل، ويضع علامة استفهامٍ حول قدرة هذه الإدارة الجديدة على استعادة ثقة أهل الساحل بهم.
فيما يلي نص المقابلة:
*لنبدأ حوارنا بانطباعاتك عن حال المجتمع السوري في الأسابيع القليلة الماضية. من يقرأ أو يسمع لك، يتلمّس خيبة أملٍ كبيرة لديك من المجتمع السوري، مجتمع الثورة تحديداً إن صح التعبير، من غياب إدانةٍ شاملةٍ وغير مشروطة للمجازر في الساحل، إلى ماذا تعيد ذلك؟
- مُحبط من سيادة تيارٍ سلطوي عقب سقوط النظام، يستعيد بالحرف سلطوية النظام السابق. كنت أعتقد أنّ المأساة التي شملت سوريا خلال حوالي عقد ونصف من الزمن، سوف توّلد لدى السوريين رفضاً جذرياً لكلّ العوامل التي أوصلت سوريا إلى ما عاشته من كوارث على يد نظام استطاع أن يحيل الدولة إلى وسيلةٍ لتدمير المجتمع. تماماً كما ولّدت الحرب العالمية الأولى والثانية نزوعاً أوروبياً لعدم تكرار الكارثة. ولكني فوجئت في أنّ النزوع التشبيحي عند الناشطين السوريين، رغم كلّ مرارة التجربة، أقوى من النزوع إلى العدالة، ومن إدراك ضرورة بناء دولةٍ حديثة يكون الشعب فيها مصدر السلطة. لم أكن أتوقّع أن يكون ضمير نسبةٍ غالبةٍ من الناشطين رخواً ومطواعاً إلى حدود قبول مجازر.
يعود ذلك برأيي إلى سطحية الناشطين عموماً. السطحية في السياسة تحرم المرء من فهم أسباب البؤس والتراجع، وتجعله يجسّد البؤس في أشخاص وليس في علاقاتٍ وبنى. هذا يولّد تماماً ما نشهده اليوم من تحميل فئةٍ معينة مسؤولية خراب البلاد، أي تجسيد الشر في فئة والجاهزية النفسية لجرائم الإبادة، ومن قبول تكرار العلاقات السلطوية ذاتها، التي قادت سوريا إلى الكارثة.
*تشتكي في تصريحاتك وأحاديثك الصحفية من شرائح مثقفة، نخبة، تتطوّع لخدمة السلطة. ترى أنّ السلطة في أيّ بلد، تسعى لمصلحتها، ومن واجب المجتمع المدني أن يلزمها بحدودها وإلا سنتجه نحو ديكتاتورية، إلى ماذا ترجع هذا الميل للتماهي مع السلطة؟
- القاعدة هي أنّ السلطات تميل إلى أن تكون مُضادةً للمجتمع وليست خادمة له، وهي تمارس التسلّط والمزيد من التسلّط حين لا تجد من يقف في وجهها. لا يبدو لي أن "النخبة" تدرك هذه القاعدة، أو تتصرّف وفقها. المثقف غير النقدي هو مجرّد خادم للسلطة، والناشطون الخدم عندنا أكثر بكثير من المثقفين. وبالمناسبة ظاهرة الأبواق والمبرّراتية ومن يغلّفون موت ضمائرهم بكلامٍ عن ضرورات سياسية، نجدها اليوم بمقدارٍ لا يقل عمّا كانت عليه في ظلّ حكم الأسد.
النزوع التشبيحي عند الناشطين السوريين، رغم كلّ مرارة التجربة، أقوى من النزوع إلى العدالة، ومن إدراك ضرورة بناء دولةٍ حديثة يكون الشعب فيها مصدر السلطة. لم أكن أتوقّع أن يكون ضمير نسبةٍ غالبةٍ من الناشطين رخواً ومطواعاً إلى حدود قبول مجازر.
للسلطة موقعٌ فوق طبيعي في ثقافتنا العامة، فيها الكثير من مفهوم الإله. الإله يُعبد ولا يُنتقد. يجوز أن تؤمن به أو تكفر به. أعتقد أن هذا التصوّر يفعل فعله لدى العامة والخاصة. والمرء حين يكفر بالإله، يعود للاعتذار منه وطلب المغفرة. هكذا تكون المعارضة إنكاراً لإله وتطلّعاً لإله آخر. هذه هي القاعدة الشائعة، التي تنفي النسبية السياسية لصالح الإطلاقية الإيمانية. العامة يفكرون كذلك ويسلمون أمرهم للسلطة/الإله. ولكن الخاصة أو "النخبة" ليست أرقى من العامة، من هذا الجانب "التأليهي"، فيكون رفضها إطلاقياً وولاؤها إطلاقياً. في الأمر استصغارٌ للنفس من جانب الناشطين.
*ونحن نتحدث عن النخبة، أنتَ تدعو إلى تشكيل مجلس حكماءٍ يميل إلى ضميره، خارج إطارات الأحزاب والكيانات. إلى أيّ حد يبدو ذلك ممكناً في ظلّ الاستقطاب الحاليّ؟
- أعتقد أنّ علينا إنتاج هذا النوع من "الرأي العام" الذي يُحسب له حساب، أن تكون المرجعية ضميرية أولاً وفوق كلّ شيء. أن توجد نخبةٌ تحتكم إلى القيم العامة التي تشكّل خطوطاً حمر لا يُسمح بتجاوزها باسم أيّ شيء. لا حاجة لأن تكون هذه النخبة منظّمة، أو ذات تنسيق فيما بينها، يكفي أن تلتقي على إعلاء القيم العامة فوق كلّ شيء. هذه المبدأ يمكن أن يجمع نخبةً عابرةً للميول السياسية وللاتجاهات الفكرية وللأقوام والطوائف.. الخ. يمكنك أن تكون من اليسار أو من اليمين أو من الوسط، ولكن يبقى ما يجمع الناس هو الضمير، وهو ما ينبغي ألا نكتمه بأيّة حجة.
على سبيل المثال، لا يمكن لضميرٍ أن يقبل قتل عائلة عزلاء في بيتها، ولكن يمكن للمرء أن يخون ضميره بتسويغاتٍ شتى، تجعله يقول مثلاً: "أنا بالتأكيد ضد قتل المدنيين، ولكن.."، هذه الـ (لكن) هي الباب إلى خيانة الضمير. أعتقد إنّه من الضروري لسوريا وجود جماعةٍ وازنة لا تخون ضميرها، وأن يكون لها حضورٌ يُحسب له الحساب، لنصرة القيم العامة التي تُنتهك في سوريا كلّ يوم وعلى مرأى وقبولٍ من السلطات التي ينبغي أن تحمي هذه الحقوق. برأيي هذا ممكن جداً، والحق أنّ هذه الحاجة تكون ملحةً أكثر حين يكون الاستقطاب واسعاً أكثر.
* كان هناك موقفٌ مرحِّبٌ بحذر لدى سوريي/ات الساحل بإدارة أحمد الشرع، مع عدم حدوث مجازر طائفية مع سقوط النظام، رغم أنّ الانتهاكات وعمليات الخطف والقتل حصلت قبلها، إلا أن المجازر الأخيرة يبدو أنها قد دفعت الكثيرين منهم نحو رفضٍ كاملٍ لإدارة "أبو محمد الجولاني". هل لديهم رفاهية الرفض الجذري؟
- ما سبق المجازر خلال ثلاثة أشهر كان شيئاً يشبه التمهيد أو البروفات، وكان بمثابة جسّ نبضٍ للشارع السني أولاً، وللسلطة الجديدة، وقد التمس المجرمون تساهلاً ساعد في الوصول إلى مجازر الساحل التي أحدثت صدعاً مبكّراً في أسس بناء دولةٍ وطنية بعد نظام الأسد. إن كان يمكن للعاقل أن يفهم وجود جماعاتٍ منفلتة مجرمة، استغلّت انهيار الدولة وارتكبت مجازر طائفية، فمن غير المفهوم ألا تلتفت طلائع الدولة الجديدة إلى ما جرى، وألا تعبّر بكلام "وطنيّ" عن موقفها مما جرى. عدم اكتراث من يُنظر إليه على أنه رئيس سوريا، ومن يقول عن نفسه إنه رئيسٌ لكلّ السوريين، وغياب تفاعله الوطني الصادق مع نكبة أهل الساحل، يدل على أنه حريصٌ على شراكته مع المجرمين أكثر من حرصه على تمثيله للسوريين جميعاً. يحق للعلويين أن يفهموا أنّ الشرع اشترى ولاء هذه الفصائل المجرمة بدمائهم.
بقيتْ قريتي في اللاذقية ستة أيامٍ من دون خبز، فقد تم منع معتمد الخبز من نقله إلى القرية، وتمّ ضربه وإهانته بعباراتٍ طائفية قذرة، عباراتٌ باتت للأسف تملأ المجال السوري من دون حسيبٍ أو رقيب. في اليوم السادس، وُزّع على الأهالي نوعٌ جديدُ من الخبز ذو رائحة غير زكية، كما قالت لي إحدى قريباتي، وقد خافوا أن يأكلوه قبل أن يطعموا منه الكلب أولاً، كي يتأكّدوا من أنه آمن. انظر إلى مستوى الثقة هذا، وانظر أيّ نوع من العلاقة تبنيه السلطة مع العلويين.
هل يمكن للعلويين أن يستعيدوا الثقة بمن غدروا بهم من أهل السلطة؟ أتمنى ذلك، ولكن أعتقد أنّ هذا يحتاج إلى جهدٍ دؤوبٍ وصادق من جانب أهل السلطة، وليس لديّ كثيرُ ثقةٍ بذلك. ينبغي أن يكون للنخبة الصادقة دورٌ فاعل فيه، ولاسيما النخبة العربية السنية التي يجب ألا تكرّر الخطأ الضميريّ الذي ارتكبته النخبة العلوية حيال مجازر الأسد.
أعتقد أنّ العلويين باتوا يحملون في قلوبهم رفضاً جذرياً لسلطة الشرع، بعد أن رحبوا به بحذر في البداية، ثم تبيّن لهم أن هناك ما يبرّر هذا الحذر. لاحظ أنّ هناك علويين اعتبروا أنّ قبول أحد العلويين بمنصب وزيرٍ في الحكومة الجديدة خيانة، وأنه وضع يده بيد قاتل العلويين.
*تعتبر أن سرد شهادات الضحايا لا يؤجّج الصراع أكثر، بل فيه مصلحةٌ ليس للعلويين/ات فحسب، بل أيضاً لمناصري هذه السلطة الجديدة، معتبراً أنّ "الفئات المعتدية لا تنتمي إلى السوريين/ات، وهي أسوأ ما في السلطة حتى". وفقاً للشهادات التي وصلتك بشكلٍ شخصي، هل يمكننا الانطلاق من أنّ هذه السلطة لم تشترك بالفعل في المجازر، أو حاولت منعها فعلاً، وهل تتوقّع نتائج ذات أهمية من لجنة تقصي الحقائق التي شكلها الشرع؟
- ينبغي ألا ننسى الجذور والنشأة والإطار الفكري لمن يشغلون مواقع القرار في السلطة الجديدة. رأيي أنّ ما جرى لم يكن من دون رغبةٍ مضمرة من السلطة. ليس لأنّ هذه السلطة تريد ذلك تماماً، ولكن لأنها أرادت إرضاء نزعةٍ انتقامية عند شركائها في القتال وهم في الواقع من أسوأ ما أنتج المجتمع السوري، لا يشبهون في ذلك سوى شبيحة النظام السابق من أرباب المجازر السابقة، مطعّمين بإرهابيين متشدّدين أجانب. أليس من الطبيعي أن تجرح مشاركةُ هؤلاء كرامةَ أيّ سوري بقتل أبناء بلده؟ حتى بات المرء يتساءل بحسرة: هل هذا التبرير والترويج للأكاذيب، وهذه الاستهانة بالمجازر من قبل (ثوار) الأمس، دليلٌ على رغبةٍ مضمّرةٍ لديهم بالانتقام الطائفي؟
السياسة الأمنية للنظام، وتركيبته الطائفية المزمنة، جعلت من شبه المستحيل إسقاطه، إذا استبعدنا التدخل الخارجي المباشر، إلا على يد قوىً كالتي دخلت دمشق على جثة النظام، مدعومةً بتوافق دولي أو بتدخلٍ خارجيٍ غير مباشر. ولكن من الخطأ التعامل مع هذه القوى على أنّها قوى ثورة، إنّها القوى التي وجّهت الضربة القاضية للنظام لكي تبني نظاماً لا يقلّ سوءاً، ومن مصلحة المجتمع السوري أن يقف بوضوحٍ وحزم في وجه تطلّعاتها التسلّطية.
سلطة الشرع لم تدن المجازر، ولم تعترف بها أصلاً. السلطة لم تتوجّه حتى بكلمة تطمينٍ للعلويين الذين يعيشون حتى اليوم في رعبٍ وانعدام أمنٍ كامل، فيما المجزرة مستمرة، وإن بوتيرة أقلّ، وبعيداً عن التصوير، فضلاً عن سياسة التفقير الحادّ الذي مارسه أرباب المجازر بالتوازي مع القتل والتنكيل والتحقير، عبر أعمال حرقٍ ونهبٍ وتسريحٍ من العمل وقطع رواتب، جعلت الناس تتسوّل الخبز.
بقيتْ قريتي في اللاذقية ستة أيامٍ من دون خبز، فقد تم منع معتمد الخبز من نقله إلى القرية، وتمّ ضربه وإهانته بعباراتٍ طائفية قذرة، عباراتٌ باتت للأسف تملأ المجال السوري من دون حسيبٍ أو رقيب. في اليوم السادس، وُزّع على الأهالي نوعٌ جديدُ من الخبز ذو رائحة غير زكية، كما قالت لي إحدى قريباتي، وقد خافوا أن يأكلوه قبل أن يطعموا منه الكلب أولاً، كي يتأكّدوا من أنه آمن. انظر إلى مستوى الثقة هذا، وانظر أيّ نوع من العلاقة تبنيه السلطة مع العلويين.
*لا يشعر سكان الساحل بوجود دولةٍ تسهر على أمانهم، ويعتبرون سماع أيّ صوت خارج منزلهم بمثابة تهديد، تقول. افترض أنك فكرتَ بالفعل فيما ينبغي على هذه السلطة فعله لاستعادة ثقة الناس وإعادة هذا الشعور.. هل بوسعها ذلك في المقام الأول، أم أنها تعاني من مشكلةٍ في بنيتها تعيق تحقيقه؟
- تستطيع السلطة أن تفعل الكثير إن شاءت أن تبني على أساسٍ نظيف، وأن تنطلق من أرضٍ وطنية، لا من مذهبيةٍ مغلقة. لا شك أنّ السلطة تعاني من مشكلةٍ في بنيتها، وهي مشكلة تتحمّل النخبة السورية، مرّة أخرى، مسؤوليةً عنها بسبب تراخيها في النقد. على أنّ المسؤولية الأكبر هي مسؤولية النظام السابق، الذي ساهم عبر سياساته المجرّدة ليس فقط من الوطنية، بل ومن أيّة قيمةٍ أخلاقية مهما تكن، بإخراج أسوأ ما في المجتمع من منازع، وإيصال قوى لا علاقة لها بالثورة، وإن كانت مضادة للنظام السابق، إلى سدّة الحكم.
السياسة الأمنية للنظام، وتركيبته الطائفية المزمنة، جعلت من شبه المستحيل إسقاطه، إذا استبعدنا التدخل الخارجي المباشر، إلا على يد قوىً كالتي دخلت دمشق على جثة النظام، مدعومةً بتوافق دولي أو بتدخلٍ خارجيٍ غير مباشر. ولكن من الخطأ التعامل مع هذه القوى على أنّها قوى ثورة، إنّها القوى التي وجّهت الضربة القاضية للنظام لكي تبني نظاماً لا يقلّ سوءاً، ومن مصلحة المجتمع السوري أن يقف بوضوحٍ وحزم في وجه تطلّعاتها التسلّطية.
* هل تتفهم الدعوات إلى التدخل الخارجي، التي تخرج من الساحل، في ظلّ هذه الظروف؟
- أتفهم دعوات التدخل الخارجي من قبل كلّ مَن يشعر أنه بلا حماية، ولاسيما حين يكون عرضةً لهذا العنف الإباديّ الذي يتعرّض له العلويون إلى اليوم.
سبق لأهل الثورة أن طالبوا بحمايةٍ خارجية من الموت الذي راح نظام الأسد يصبّه فوق رؤوسهم، ومن جهتي تفهمت ذلك حينها، مع إدراكي، الآن وحينها، أنّ التدخل الخارجي ليس حلاً، وأنه سوف يزيد عبئاً على عبء. أما أن نضع الناس في حالة انعدام أمنٍ كامل ثم نتشارف عليهم بالوطنية، فهذا سلوك ساقط.
العيب ليس فيمن يطلب التدخل الخارجي، بل فيمن يدفع الناس إلى طلب التدخل الخارجي. والعيب فيمن يعيب على الناس طلب التدخل الخارجي ويسكت عن الفعل الإجرامي الذي يدفع الناس لمثل هذا الطلب.
العيب ليس فيمن يطلب التدخل الخارجي، بل فيمن يدفع الناس إلى طلب التدخل الخارجي. والعيب فيمن يعيب على الناس طلب التدخل الخارجي ويسكت عن الفعل الإجرامي الذي يدفع الناس لمثل هذا الطلب.
*وأنا أتحدّث معك من ألمانيا، ساد في العام الماضي جدالٌ حول، على مَن تنطبق "ليس مجدداً"، في إشارةٍ إلى عدم جواز تكرار مجازر الهولوكوست في عالم ما بعد النازية. هناك ميلٌ الآن إلى كنس كلّ ما يحيط بهذه المجازر في الساحل إلى تحت السجادة، كما يُقال، والعودة إلى الحياة اليومية. إلى أيّ حد نحتاج إلى شعارٍ مماثل في سوريا، ينطبق على جميع طوائف وإثنيات الشعب السوري، وهل من بدايةٍ جديدةٍ ممكنةٍ في سوريا من دونها؟
- الحقيقة إنني كنت أعتقد، واهماً كما تبيّن لي، أنّ سنوات الجحيم التي عاشها السوريون، من كلّ الأطراف، ولاسيما الجمهور المُضاد لنظام الأسد، سوف تولّد في المجتمع السوري، ولدى النخبة السورية، تياراً وازناً يحتاط ضدّ تكرار ما جرى، بفهم أسبابه الحقيقة ومعالجتها والعمل على نزع أسباب التكرار. توقعت أن يسود في سوريا تيارٌ فكريٌ أخلاقي يقول بكلّ إرادةٍ وحزم: لا لسياسة المجازر بعد رحيل نظام المجازر. للأسف كنت واهماً، وخاب الأمل، وتبين أن المجتمع السوري لا يراكم معرفةً من التجارب التي يدفع ثمنها دماً كل حينٍ من الزمن. في زمن النظام السابق، هناك مثقفون تغنّوا بالسوخوي، وسخروا من ضحايا المجازر، وارتضوا، ربما مع غبطةٍ آثمة، أن تُجمع أجسادُ ضحايا القتل بالجرافات. لم يكن ليخطر لي أن يتكرّر الأمر بعد رحيل نظام الأسد، وأن تجد كثيرين يمتلكون القدرة على السخرية أمام كلّ هذا الموت وهذه المجازر.
توقعت أن يسود في سوريا تيارٌ فكريٌ أخلاقي يقول بكلّ إرادةٍ وحزم: لا لسياسة المجازر بعد رحيل نظام المجازر. للأسف كنت واهماً، وخاب الأمل، وتبين أن المجتمع السوري لا يراكم معرفةً من التجارب التي يدفع ثمنها دماً كل حينٍ من الزمن.
الدم الذي سال في الساحل هو دمٌ سوري وليس دماً علوياً، وهو يعني كل سوري. الرصاص الذي قتل عائلات آمنة وعزلاء في بيوتها، هو رصاص مؤجّل موجّه إلى صدر كلّ سوري مهما اعتقد هذا السوري الصامت أو "المتشفّي" إنه بعيد عن الرصاص. لا شك أنّ كثيرين ممن حصدهم الرصاص من أهل الساحل، كانوا لا يبالون بمن كان يقتله الرصاص في غير مكانٍ من سوريا طوال 14 عاماً، إلى أن وصل إلى اللحظة التي اغتاله فيها الرصاص نفسه، وربّما بالبندقية نفسها.