عن سوريا التي زرتها بعد سبعةٍ وعشرين غياباً

وجه البلاد.. حزينٌ ممزقٌ مع ابتسامة خفيفة


"قبل شهرٍ من سقوط الطاغية، قالت لي أمي: سأرحل من دون أن أراك! وها أنا ذا، بعد سبعةٍ وعشرين عاماً، أقف أمام باب منزلي في القرية في طرطوس. على حائط بيتنا المتهالك، ما يزال اسمي الذي كتبته في طفولتي.. نزلتُ بسرعةٍ على درج البيت وناديت أمي التي ما إن رأتني حتى بدأت في البكاء، وهي تكرّر: ماني مصدقة… ماني مصدقة.."، يقول غياث الجندي، واصفاً المشاعر التي تملكته خلال رحلة عودته إلى سوريا، وعلى نحوٍ خاص مسقط رأسه في الساحل السوري، الذي شهد بعد مغادرته وطنه، مجزرة.

07 نيسان 2025

غياث الجندي

كاتب سوري

بعد سبعةٍ وعشرين عاماً دخلتُ سوريا كسائحٍ غريب لا أملك أيّة وثيقة سفرٍ سورية أو بطاقة هويةً وطنية أو أوراقاً ثبوتية، فكيف لمعارضٍ لنظامٍ امتلك البلاد لمدة أربعةٍ وخمسين عاماً أن يمتلك مثل هذه الوثائق!

حين غادرتُ البلاد مُكرهاً، اقترحتُ على قلبي أن يتعوّد على غيابٍ طويل، فطريق العودة مقطوعٌ لأسباب بات الجميع يعرفها.

على الجانب السوريّ من الحدود السورية الأردنية لافتةٌ كبيرة، كُتب عليها "اشتاقت لكم بلادكم". حتى تلك اللحظة، كانت الحلقة بيني وبين تلك البلاد ما تزال مقطوعة. أحسستُ أنّ من كتبها، كان يعني أشخاصاً آخرين ولا علاقة لي بها. كان وجه البلاد التي أدخلها حزيناً ممزقاً يحاول أن يحافظ على إبتسامةٍ خفيفة لعلها تفتح الطريق بعض الشيء. أيّ بلد أعود إليه؟ كان السؤال المسيطر على حواسي وعواطفي.

ابتسم لي موظف الهجرة وقال: أنت مطلوب. مطلوب؟ الكلمة التي عاشت معي سنيناً طويلةً في سوريا.

  • مرة أخرى؟ سألت؟

أخبرني الموظف بودٍّ ولطفٍ شديدين، أني مطلوبٌ لخمسةٍ من فروع الرعب الأمنية لدى النظام السابق. ختم جواز سفري وقال لي "أهلا بك في بلدك"...لم أستطع هضم تلك العبارة بسهولة فنحن السوريون غير معتادين على هذه العبارات.

انطلقنا بإتجاه دمشق. الطريق شبه فارغ، وأول ما يلفت نظرك هي الحواجز الأمنية الفارغة التي ما تزال أعلام النظام على جدرانها. راح السائق الأردني يشرح لي مرّةً بعد الأخرى عما كان الناس يعانون منه على تلك الحواجز من إذلالٍ ونهبٍ ورشوةٍ بالإكراه.

دمشق

ودخلت دمشق الحزينة. لما استطع أن أصدّق أنني مرّة أخرى في دمشق. فلقد حصل بيننا طلاقٌ مريرٌ منذ سنين طويلة، وكنت حين أمشي في بلدان غريبة وأسمع صوت "سوري" أو اسم سوريا أستمر بما كنت فيه، أشعر بأنه لا يعنيني ولا يقصدني أو يثير انتباهي. بدأت أنظر من نافذة السيارة كطفلٍ استيقظ للتو من النوم. عيناي تطيران مع الفوضى المحيطة بكل مكان وقلبي يخفق مع الهواء الملوّث. السيارات المهشّمة وعيون الناس الضائعة في كلّ مكان. كانت الطرقات محفّرةً والأرصفة منهكةٌ من كلّ صوب بباعة صغار، ربما أتوا من أمكنةٍ بعيدة، حيث لم يسمح لهم من قبل أن يأتوا.  رائحة الوقود الموجود على الأرصفة للبيع كانت تملأ المكان وتغطي على كلّ الروائح الأخرى.

راتب شعبو: مجازر الساحل أحدثت صدعاً مبكّراً في أسس بناء دولةٍ وطنية بعد نظام الأسد

02 نيسان 2025
"الرصاص التي قتل عائلاتٍ آمنةٍ وعزلاء في بيوتها، هو رصاصٌ مؤجّل، موجّه إلى صدر كلّ سوري مهما اعتقد هذا السوري الصامت أو (المتشفّي) إنه بعيدٌ عن الرصاص" هذا ما يقوله...

لم أستطع أن أتذكر شيئاً من دمشق، لا شارعاً  ولا ساحةً ولا بناء. كلّ الأشياء تغيّرت بشكلٍ قاسٍ، والأبنية في كلّ شارعٍ على وشك الانهيار، أو أصابها اليأس مثل بقية الناس. في كلّ شارعٍ صرت أسأل "أين نحن؟". لحسن الحظ ما زلت أتذكر بعض الأسماء أو بعض الأماكن التي كنت أتردّد عليها. في الأيّام الأولى، زرت الأماكن التي ما زالت تسكن إذني من نشرات الأخبار؛  جوبر، القابون، عين ترما، وغيرها. مساحاتٌ من الدمار الوحشيّ. بقايا بيوتٍ وأبنيةٍ ودموعٍ ودماءٍ وأجسادٍ تحت الركام الذي تركته طائرات القتلة. في جوبر، التقيت برجلٍ على أبواب الثمانينات يخرج من المنطقة الخالية تماماً من السكان. أخبرني أنه يأتي أحياناً ليلقي نظرةً على بيته المدمَّر أو ليلقي نظرةً على بيت ابنته التي قُتلت بصاروخٍ قبل دخول النظام إلى المنطقة بأيّام. ومنذ ذلك الحين يعيش مع أسرته في خيمةٍ في منطقةٍ قريبة. لا يمكن لأيّة دموعٍ أن تكفي لمسح الألم على وجه ذلك الرجل. حين ابتعد بدراجته القديمة، خيّم الفراغ على كلّ شيء.

في مقاهي دمشق، غيومٌ من الدخان والاحتفالات المتواصلة. بين أغنيةٍ وأغنية، يقف الناس لتصدح أصواتهم/ن "ارفع راسك فوق، أنت سوري حرّ" ثم يعودون لسجائرهم. في كلّ مقهى دخلتُ إليه، تفاجأت بأصدقاء وصديقاتٍ أعرفهم من بلاد الاغتراب أو التهجير كما يطلقون عليه في سوريا.

كانت المحبّة مختلفةً والدفء مختلفاً لأننا جميعاً لم نكن نحلم يوماً أن يكون لقاؤنا في دمشق. صديقي الفيسبوكي عليّ، الذي حاولنا مراراً أن نلتقي في باريس ولم ننجح، دخل فجأةً إلى مقهى الروضة وتعانقنا وشكرنا كلّ شيء أننا لم نلتقِ في باريس بل في دمشق. كانت الجملة التي تتكرّر مراتٍ ومراتٍ خلال اليوم، "متل الحلم- مو هيك؟".

بقيتُ في دمشق في اليومين الأولين، أمشي في شوارعها من دون أيّ هدف، فقط لأتعرّف عليها كما يتعرّف الشخص على طباع حبيبته الجديدة. قصدتُ الأماكن التي أعرفها كساحة عرنوس مثلاً، فقط لأحتفل بعدم وجود تمثال الديكتاتور. لم تكن تعنيني الأماكن الأثرية أو السياحية أبداً، فقط أحببت أن أتعرّف على الشوارع، وأن أركب في الباصات الصغيرة المكتظة بالناس المتأملة قليلاً والمتعبة كثيراً.

كان وجه البلاد التي أدخلها حزيناً ممزقاً يحاول أن يحافظ على إبتسامةٍ خفيفة لعلها تفتح الطريق بعض الشيء.

ينظر إليّ سائق التاكسي بعد قليلٍ من التأمّل، حين سماع لهجتي الممزوجة بلهجاتٍ غير محلية.

  • عيشك. قلت له بعد أن توقف ليأخذني إلى حيث كنت ذاهباً.
  • الأخ من تونس؟ سألني.
  • لا. أنا من سوريا، ولكن...

لم يستطع السائق أبو حسام أن يمسك دموعه حين أخبرته أنني لم أزر سوريا منذ سبع وعشرين سنة، وحدّثني بكثرةٍ عن "الكابوس" الذي كان يحكم سوريا بيدٍ من قمع ويدٍ من فساد.

  • كنت أدفع أحياناً نصف ما أكسبه يومياً كرشوة كي أستطيع مواصلة عملي ناهيك عن التهديد والوعيد والإذلال. قال لي واصفاً كيف كانت سوريا قطعةً من الجحيم الإنساني.

طرطوس

بين ودمشق وطرطوس مسافاتٌ من التفكير والقلق. جبالٌ عاريةٌ وأبنيةٌ مدمرة وتفكيرٌ غامر. كيف سألتقي عائلتي بعد سبع وعشرين سنة؟!  كيف ستكون أمي، وهل بقي لديها دموعٌ تستقبلني بها؟. كان غيابي وأخوتي يؤرّقها دوماً، ولكنها كانت تقول "أفضل من أيام كنتم مسجونين".

وصلتُ إلى المدينة، لا شيء فيها يذكرني ولا شيء فيها أذكره. الفوضى سيدة المدينة. عددٌ من الأقرباء الأصدقاء ينتظرونني في محطة الحافلات وسط المدينة، وصراخ السائقين والباعة علامة المكان. مَن سيعرف مَن؟ بيني وبين المنتظرين سنواتٌ طويلةٌ من الغياب. نظرت في جميع الجهات، لا شيء يعرفني هناك. شرح لي صديقي ماذا تغيّر وماذا كان موجوداً بالقرب من المحطة. سينما الكندي وراءها وفرع الأمن السياسي على يسارها، يقف محروقاً ربما لإخفاء أدلّة العذاب والتعذيب. وأنا أنظر من نافذة السيارة التي تأخذني لأزور قبر ابن عمي الذي فقدناه منذ سنة، أرى أبنيةً عاليةً ملوّنةً بالبنفسجي والزهري من دون أبواب أو شبابيك.

  • إنها بناياتٌ للطلاب، ولكنها بقيت من دون سكان. إنها أحد وجوه العبث بهذا البلد. تقول علا التي صحبتني لزيارة حيث يرقد زوجها.

وكما في دمشق، الباعة يحتلّون أرصفة المدينة، وخصوصاً باعة وقود السيارات. بقي لديّ السؤال المتكرّر: أين نحن الآن! هذه ليست مدينتي، وهذا ليس أنا الذي مشيت في شوارعها وتعلمت في مدارسها.

على باب فرع الأمن السياسي، حيث قضيت شهوراً من القسوة، تبدّل لون العلم وتغيّر شكل البوابة التي أُدخلت عبرها بعد منتصف الليل في يومٍ بائسٍ مكبّل اليدين لأنني "أوهنت نفسية الأمة". في الجانب الأمامي أُضيفت إلى البناء واجهةٌ من الحجارة البيضاء التي تلوّنتْ ببقايا الحريق الذي اندلع يوم سقوط الطاغية. صرت أفكّر أنّ الواجهة هي فقط لمكاتب ضباط التعذيب، أمّا الزنزانة التي قضيت فيها أوقاتاً لا أُحسد عليها، فلا شك أنها بقيت تلك الزنزانة القديمة، المحفور عليها بالأظافر أسماء المعتقلين الذين مرّت قلوبهم من هناك.

على الباب شابٌ صغيرٌ بلحيةٍ غير مكتملة، وبندقيةٍ صامتةٍ على الأقل في الوقت الحالي.  يقترب بابتسامةٍ خجولة ويطلب منا الابتعاد لأنّ التصوير ممنوع.

انطباعاتٌ أوليّة عن عودتي الخاطفة إلى سوريا/ السويداء

07 شباط 2025
"نصل السويداء ليلاً.. أدخل مدينتي التي أظنني أحفظ ملامحها كمسرى أوردتي على ظهر يدي، آتيها بلهفتي وشوقي وتوقي وآمالي ورهبتي من لقائها.. أستسلم لهذا الألم العميق البطيء والصاخب، شوقٌ وخوفٌ...
  • هذا صديقي تمّ سجنه في هذا الفرع، وها هو يعود بعد سبعٍ وعشرين سنة ويريد التصوير قليلاً ولو من الخارج. قال له مالك، صديقي الطرطوسي الذي رافقني طيلة بقائي في المدينة كدليلٍ سياحيٍّ وعاطفيّ.
  • ممنوع، ولكن سأطلب من الأمير التكلّم معك.

عاد الشاب وجاء معه الأمير الذي أصرّ أنّ علينا مغادرة المكان وعدم التصوير "لأنها منطقةٌ حساسة". وحين مازحته بسخريةٍ خفيفة: وهل ستعتقلني إذا قمت بالتصوير؟ أجاب بابتسامةٍ لا تخلو من الغضب: نعم.  أجبته، إذاً أنت تعيد أفعال النظام؟ أصبحت ابتسامته حنونةً أكثر وقال: أعدك. نحن أفضل من النظام.

- لا شكّ. قلت له وغادرت من دون تصوير. نظرت إلى واجهة المبنى المحروق، الآن قلبتُ تلك الصفحة.

زرتُ بعدها مدرستي التي لا تبعد كثيراً عن المكان، وكانت ما تزال واقفةً بقرب البحر المليء بالسيّاح الجدد من المناطق الداخلية التي كان يحاصرها النظام.

أمي

فكرت كثيراً قبل قدومي ألا أخبر أمي بأنني قادم. كنت أفكّر بعنصر المفاجأة لكني تذكرت أنّ يوم سفري كان سرّياً أيضاً. يوم فرّ النظام هارباً وتاركاً جرائمه خلفه، قالت لي أمي "لأوّل مرة أنام مرتاحة". تفهّمتُ وفكرت كثيراً بتلك العبارة. لقد عذّب الطاغية أمهاتنا جميعاً وجعل الخوف على أولادهن جزءاً من قلوبهن.

على حائط بيتنا المتهالك في القرية، ما يزال اسمي الذي كتبته في طفولتي. الباب الحديدي الصدئ والأعشاب النامية في كلّ مكان، وشجرة الليمون الجميلة في أسفل درج البيت. كلّ هذه الأشياء عادت إلى الذاكرة بسرعة. نزلت بسرعةٍ على درج البيت وناديت على أمي التي ما إن رأتني حتى بدأت في البكاء.  وبدأت تكرّر "ماني مصدقة" لمرّاتٍ ومرات. بالطبع لم تكن أمي التي تركتها. لا أعرف فيما إذا كنت سأتعرّف عليها لو رأيتها في الطريق عابرةً بقربي. كان اللقاء غريباً، ممزوجاً بعواطف، بدموعٍ ونقصٍ واضحٍ في مخزون الكلمات التي يمكن أن تقال في هكذا حالة. قبل شهرٍ من سقوط الطاغية، قالت لي أمي سأرحل من دون أن أراك.

لقد عذّب الطاغية أمهاتنا جميعاً وجعل الخوف على أولادهن جزءاً من قلوبهن.

بيتنا يقع على تلّةٍ خضراء ويشرف على وادٍ ساحر ومُحاطٌ بجبال عالية. كانت تلك المرّة الأولى في حياتي التي أرى فيها القرية جميلة. للمرّة الأولى أتمتع بهذا الجمال الطبيعي، بأشجار الزيتون والبرتقال. لم أكن، قبل أن أغادر، أستطع أو أريد التمتّع بهذا الجمال. كانت العلاقة مع البلاد كالزواج القسريّ. كانت زياراتي للقرية محفوفةً باليأس والمُخبرين. في الحقيقة، لأوّل مرةٍ أرى سوريا جميلة، على الرغم من حجم الدمار الذي لحق بها.

أنهيت اليوم الطويل ويدُ أمي على ذراعي والاستماع لعبارة "ماني مصدقة".

لقد تغيّرتْ عائلتي كما تغيرت سوريا. في يومي الأخير مع العائلة قابلت ابنة أخي التي وُلدتْ بعد رحيلي وعدت لألتقيها مع ابنتها، لقد أصبحت أمّاً في غيابي.

صحفيّ؟

لدى مروري في دمشق، رتبت موعداً مع مسؤولين في وزارة الإعلام. كان البناء قديماً ومتهالكاً. بعض الشبان يتحركون في كلّ مكاتب الوزارة، وضعٌ يعكس الفوضى القائمة في الخارج. كان من الصعب معرفة مع مَن يجب التكلّم للحصول على تصريحٍ لزيارة سجن صيدنايا وفرع الخطيب وفرع فلسطين سيء الصيت. كّل دقيقتين كان يجب علي أن التقي بشخصٍ ليقول لي، يجب أن تتكلّم مع فلان. آخر فلانٍ التقيته قال لي "لا يمكنني أن أمنحك تصريحاً لدخول صيدنايا. ممنوعٌ زيارته لأنه مستخدمٌ الآن من قبل منظماتٍ حقوقية". ثم حوّلني إلى الفلان بعد الأخير الذي أخبرني بأنني لا يمكنني العمل في سوريا كصحفيّ، لأنني "أحمل جواز سفر أجنبياً فقط". كانت عيناه مزيجاً من عدم الرغبة بالكلام معي ورغبته في رؤيتي خارجاً من الوزارة العتيدة.

  • هل هذه من مورثات النظام البائد؟
  • لا نحن أفضل من النظام. أجابني.

بعد أخذٍ وردٍّ واحتجاج، منحني تصريحاً صحفياً للعمل في سوريا لمدّة أسبوع من الأسبوعين اللذين كنت سأقضيهما في البلد. كان التصريح ممهوراً ب "يمنع الاقتراب والتصوير من المناطق العسكرية والأبنية الحكومية والحساسة". كان عليه أن يكتب ذلك ليعيد إليّ ذكرياتٍ خبيثةً ربما. لكن بعد ذلك، أتت معجزةٌ من مكان ما ودخلت صيدنايا.

صيدنايا

المسلخ البشري، موطن القسوة الأوّل وبقايا الألم. دخلتُ سجن صيدنايا الذي كنت أكاد أحفظ تفاصيله من قصص أصدقائي الذين احتُجزوا هناك لسنواتٍ طويلة. صور المفقودين وأرقام هواتف ذويهم على الجدران الأمامية للمسلخ تملأ المكان والعيون. جاء الأهالي للبحث عن أحبائهم بعد انهيار السجن وحين لم يجدوا أيّ أثر لهم، تركوا صور المفقودين وأسماءهم لعل هناك من رآهم. يا إلهي، إنه منظرٌ من القسوة والألم لا يمكن للكلمات أن تصفه. صرت أتخيّل عيون الأهالي وهم عائدون بلا قلب. لقد بحثوا تحت أرض السجن وخارج جدرانه عمّن يحبون. آثار الحفريات ما زالت واضحة، حلموا بوجود زنزاناتٍ سريةٍ تحت الأرض ولم يجدوا.

سوريا... العودة ممكنة

01 شباط 2025
"في اللحظة الذي تخطت قدمي اليمنى البوابة الحديدية، قلت وشعرت وشممت ورأيت أنني وصلت، هنا سوريا، أنا في سوريا. ركبت الباص وبدأت بالبكاء، بكاء التشافي من الغربة، بكاء أنّنا كنّا...

دخلت إلى أجنحة السجن، الروائح القاتلة في كلّ مكان، تدمع العيون من شدّتها. الأغطية العسكرية الملقاة على الأرض وبقايا ما تركه السجناء حين علموا أنّ القيود تحطّمت وصار في وسعهم الخروج إلى الحياة مرّة أخرى.

هذا الجناح (أ) يمين. زنزاناتٌ صغيرة، ربما احتُجز فيها المئات لسنوات. هنا سجينٌ غسل ملابسه الداخلية وعلّقها على خيطٍ أمام باب المرحاض الصغير، وهناك في زنزانةٍ مجاورة صحنان بلاستيكيان ترك فيهما أحد السجناء حبتين من الطماطم وبصلة. لقد نبتت للبصلة أوراقٌ خضراء. ربما كان يعدّ طعامه البسيط حين علم بسقوط القيود فخرج مُسرعاً غير مبالٍ بجوع أو طعام، تخيلتُ.

جدران المهاجع ملطخةٌ بالألم وقسوة السجانين، "أبناء البلد". كيف يمكن لكائنٍ بشريٍّ أن يقوم بتعذيب الناس إلى هذا الحد؟

بين مسامات الجدران والأبواب المعدنية الثقيلة، التي تتوسّطها فتحاتٌ صغيرة "الشراقة" للتواصل بين السجناء والمعتدين على حقوقهم، قرأت تفاصيل الجحيم، جحيم صيدنايا. وفي فوضى الملابس والأمتعة والأغطية رأيت حجم الهياج والجنون الذي طغى على المكان حين علم السجناء بوصول الحرية لهم.

كانت الأبواب الثقيلة مفتوحة، وكان السجن خالياً تماماً إلا من بقايا الألم المنتشرة في كلّ مكان. مثنّى، ابن عمي، الذي لم يتعرّض للاعتقال من قبل النظام، رافقني في تلك الزيارة العابرة للمشاعر، وقف على أحد أبواب أجنحة السجن وبكى شاتماً مَن تسبّب في هذه المعاناة.

في يومي الأخير مع العائلة قابلت ابنة أخي التي وُلدتْ بعد رحيلي وعدت لألتقيها مع ابنتها، لقد أصبحت أمّاً في غيابي.

التقيت بعائلاتٍ ليس في وسعها إلا الانتظار، على الرغم من أنّ المعطيات تقول إنّ الانتظار انتهى والأخبار الحزينة أتت، لا يزالون يبحثون عن الأمل. وأين الأمل!

عائلة الممثل والسيناريست عدنان زراعي انتظرتْه منذ اعتقلتْه قوات النظام عام 2012. وحين سقط النظام ذهبت زوجته مع ابنهما الوحيد وفتّشت بين آلام صيدنايا ولم تجد أيّ أثرٍ له. بعد أيام قليلة، اتصل بهم سجينٌ أُطلِق سراحه يوم سقطت أسوار صيدنايا، وأخبرهما عن اليوم الذي تمّت تصفيته داخل صيدنايا. لقد كان ذلك الخبر، هو الدليل الوحيد الذي ينهي معاناة الانتظار.

الخوف

ما إن اجتزتُ الحدود الأردنية بإتجاه سوريا، عاد منسوب الخوف للارتفاع على الرغم من زوال مسبّباته.

الخوف جزءٌ من أجسادنا نحن السوريين والسوريات. الأجهزة الأمنية في كلّ مكان. كانت وظيفتها زرع الخوف فينا. إنها فعلا مملكة الخوف.

لم يكن الخوف منظراً غير اعتيادي. كانت دقات قلبي تتراوح بين السرعة والسرعة القصوى، فلقد وضعت أول قدمٍ في بلد الخوف. بعد قليلٍ صرت أدرك بالفعل أنّ الأمور تغيّرت.

في دمشق، جلستُ في المقاهي ومشيت في شوارعها كالمشرّد السعيد. للمرّة الأولى لم ألتفت يميناً وشمالاً لأرى مَن كان حولي أو ورائي، مَن يراقبني ويراقب الناس، وللمرّة الأولى لم أجبر نفسي على اختيار الكلمات المناسبة للمخبرين الفاشلين، وللمرّة الأولى أمشي في الشوارع ولا أرى الصور المقيتة للطاغية المنتشرة في كلّ مكان، والتي لم يكن باستطاعتي تمزيقها أو رشّها بالشتائم المناسبة. لا تماثيل للطاغية الأكبر ولا دورياتٍ أمنية. صرت أتفحص جسدي، عقلي، عيوني. لقد تلاشى الخوف.

على عدّة حواجز، تم إيقافي وطلبُ هويتي، أنا الذي لا امتلكها. تم الاكتفاء بجواز سفري الأجنبي. على حاجزين، سُئلتُ إن كنت من الطائفية السنيّة أم لا. وحين احتججتُ على السؤال، قام العنصر الذي سألني بالاعتذار. أما ساكن الحاجز الثاني، فقرّر أنّه يلزمني "الهداية". تركته ومشيت من دون أن أهتدي منه.

اليوم الأخير

وأنا أودّع دمشق، أحسست أني لم أكتشف كلّ الأشياء وكلّ الأماكن التي أحببت أن أكتشف. قلت لنفسي سأعود. تركت في الشام نصفي كأس. أحسست أنّ البلاد تقف على نارٍ ستندلع بعد قليل. كان اليأس يغمر كلّ شيء، والفراغ السياسي يقتل ما كان يحلم فيه الكثيرون. هناك فصل الموظفين من وظائفهم تعسفياً عن سبق إصرارٍ وجهلٍ بالواقع. وكان النصف الآخر يدفعني لأبتسم وأنا أغادر وأقول: لا لقد تعلّم السوريون/ات من محنة البلاد ولا بد أن يقوم العقل بفعله.

وإن كان الخوف من النظام تلاشى أثناء وجودي في سوريا، لكن الخوف عليها بقي عالقاً في قلبي وأنا أنظر إلى الوراء قاطعاً الحدود. كان هناك خوفٌ من إمكانيّة اشتعال البلاد في أيّة لحظة. كنت أعرف أّنّ السلطات الجديدة لا تفعل أيّ شيءٍ لتعلّم أصول قيادة بلاد، وكيف يمكنها قيادة بلدٍ ممزّقٍ كسوريا!

الانتظار البطيء

ذاكرة مصرية "شبه متخيّلة" و"مختزلة أحيانًا" عن محاولات عودة الروح السورية

07 كانون الثاني 2025
"حفرت سوريا تحت حكم الأسد مكانها في ذاكرتي عبر قصص السوريين والسوريات الذين مروا بحياتي على مدار السنوات الست الماضية، محمّلةً بتناقضات الحياة والموت، المقاومة والمراوغة" أنا التي "لم أكن...

لم تحمل الخطوات التي توقعناها أو انتظرناها أيّة قيمة، بل كانت تحمل إحباطًا علنياً. بعد شهر عسل التغيير وسقوط النظام، بدأت الحوادث الانتقامية هنا وهناك. هجومٌ على قرية فاحل في حمص، وهجومٌ على قرى في حماه ومصياف. بدأ المصفقون للنظام الجديد كما بدأ مسؤولو النظام الجديد بتقديم تبريراتٍ لا تسير مع المنطق العام. إنّها "حوادث فردية " أو إنّها "فصائل غير منضبطة". أما المبررون، فاستمروا بنشر التحديثات المتكرّرة "الشرع غير قادر على السيطرة على الفصائل".

استمرت هذه "الحوادث الفردية" بالازدياد مقابل هجومٍ من الموالين الجدد على كل من يتجرّأ على نقد النظام الجديد. أيضا أعيد استخدام أساليب النظام القديمة في مهاجمة المتظاهرين أو المعتصمين من أجل مطالب تتعلّق بالتسريح التعسفي المُتزايد بصورةٍ سريعة، وخصوصاً التسريح الانتقائي الذي يستهدف شريحةً معيّنةً من السوريين/ات. ففي مدينتي طرطوس، خرج العشرات يوم 10 شباط/ فبراير للمطالبة بإعادة العاملين إلى وظائفهم، وأيضاً تطبيق العدالة الانتقالية. على الفور قامت مظاهرةٌ مضادة من سكان محليين موالين للسلطة الجديدة، استخدمت العنف حتى ضدّ صحفيين يقومون بتغطية الاعتصام. حدثت هذه التحرّكات أيضا في دمشق في يوم 9 آذار/ مارس حين وقف متظاهرون ضدّ ما يحصل في منطقة الساحل.

ساحل الرعب

كانت منطقة الساحل محطّ اهتماماتٍ كثيرةٍ بعد التغيير، ففي هذه المنطقة يعيش أغلبية الذين وقفوا مع النظام السابق. غالبية الأشخاص الذين تحدثتُ معهم/ ن كانوا يعبّرون عن خوفٍ أو قلقٍ من الأيّام القادمة. بدأت مقدّمات الأيام الصعبة القادمة تظهر شيئاً فشيئاً، وبدأت تظهر كمياتٌ هائلةٌ من المعلومات الزائفة والمضلّلة. كان هناك شعورٌ بالإحباط ينمو بشكل متسارع، فآلاف الأشخاص فقدوا وظائفهم، وفقدوا بذلك قوت حياتهم. أيضا بدأ الناس في الساحل يشعرون بأنهم مستهدفون، بالإضافة إلى معاناتهم من غياب الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والماء. ثمّة رجالٌ ملثمون على حواجز أو أمام البنايات العامة، ما زاد من شعور الناس المحليين بالقلق والخوف.

بعد هجومٍ خاطفٍ يوم 06 آذار/مارس 2025 من قِبل ما بات يُعرف بقوات الفلول (موالين للرئيس المخلوع بشار الأسد) على قوات الأمن العام في مدينة جبلة الساحلية، والتي راح ضحيتها عشرات العناصر من قوات الأمن العام، قامت فصائل مسلحة يُقال إنها تابعةٌ لإحدى الفصائل التي تشكّلتْ منها هيئة تحرير الشام الحاكمة بهجومٍ مضاد. دخلت عناصر من هذه القوات إلى مدن الساحل وكان لبانياس نصيبها الأكبر.

التقيت بعائلاتٍ ليس في وسعها إلا الانتظار، على الرغم من أنّ المعطيات تقول إنّ الانتظار انتهى والأخبار الحزينة أتت، لا يزالون يبحثون عن الأمل. وأين الأمل!

تمّ الهجوم على العائلات وقُتل الكثير منها داخل بيوتها في حي القصور الذي يسكنه العلويون. أشخاصٌ وعائلاتٌ نعرفهم ولهم تاريخٌ في النضال ضدّ نظام الأسدين قُتلوا داخل بيوتهم. عائلاتٌ تمّ حصارها ونهب ممتلكاتها. ووفقاً لمصادر متعدّدة، لم يكن هناك أسباب واضحةٌ لقتل هذه العائلات ولم يكن في بانياس أصلاً أيّ إطلاق نار من قَبل ضدّ قوات الأمن. في بانياس كان الرعب يخيّم على قلوب الناس. الناس المحاصرة في بيوتها أيقنتْ أن نهايتها اقتربت لا محالة. عائلةٌ صديقةٌ تركتْ بيتها وحاولت الهروب بعد أن انتشر خبرٌ من المسجد القريب بأنّ المسلحين سمحوا للعائلات بالانتقال إلى مكانٍ آمن. حال خروجهم من البيت مع ولدين صغيرين، تعرّضوا لإطلاق نارٍ فعادوا إلى البيت ينتظرون مصيرهم.

الغرباء وأهل بانياس

أخبرنا شهودٌ وعائلاتٌ صديقةٌ حضروا تلك المقتلة، بأنّ الكثيرين من المسلحين كانوا غرباء  يتحدثون لغةً عربية مكسرة، وعلى جهلٍ شديد بالمنطقة. لم تكن لغتهم هي الشيء المهم بل بنادقهم التي حصدت أرواحاً كثيرة. أما أهل بانياس غير المستهدفين، فلم يبخلوا بجهدٍ لمساعدة جيرانهم في المنطقة المنكوبة. الكثير منهم فتحوا أبوابهم لحماية العائلات المستهدفة. كان التعاطف الإنساني في غاية جماله.

أما السلطات الجديدة في دمشق، فانتظرتْ لأيّامٍ ثلاثة لكي تبدأ باتخاذ خطواتٍ لم ترقَ إلى المستوى المطلوب لكي تجنّب البلاد الممزّقة أصلا المزيد من الخراب.

سوريا

بعد ما حصل في مناطق الساحل، تقف سوريا الآن على حافة وادٍ عميق يمكن أن تنزلق عجلاتها وتسقط في قاع الخراب الذي لا يمكن النجاة منه. سوريا تحتاج إلى قراراتٍ صعبة، منها إشراك الشعب السوري أو "الشعوب" في اتخاذ القرارات، وحماية الناس المستهدفين خصوصاً بسبب معتقداتهم الدينية. سوريا تحتاج إلى عدالةٍ انتقالية، يتم بموجبها محاكمة من اقترف الجرائم أثناء حكم النظام السابق. سوريا تحتاج إلى منصةٍ للعيش المشترك. سوريا محتاجة أكثر من أي وقت مضى إلى الحب والمحبة.

مقالات متعلقة

الخيال وقد تحقّق... عن يوم سقوط الأسد

12 كانون الأول 2024
في ساحة الرئيس في جرمانا كان رأس حافظ الأسد قد أُسقط ورُمي على يمين الساحة، وصعد الشباب إلى أكثر من صورة لبشار، ومزّقوها بأيديهم وأقدامهم. عمار ديوب يأخذنا معه في...
الساحل السوري بعد سقوط النظام السوري

09 كانون الثاني 2025
في الساحل السوري، سحب البعض صور أبنائه من الشارع بعد أن كانت تملأ الجدران تحت اسم "الشهيد في سبيل الوطن"، والذين باتوا اليوم إرهابيون وفطائس وقتلى حرب لدى النظام الجديد"...
الهنا والهناك .. الراحلون والباقون

24 نيسان 2024
في ملفِ العودة إلى سوريا، وبعد أن نشرنا نصاً لكاتبٍ يقيمِ ويستقر في ألمانيا ويزور سوريا بين الحين والآخر، ثم مقالاً لباحثة إيطالية زارت البلاد، ننشر هذا النص لديالا المصري،...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد