(ملاحظة: أخفى حكاية ما انحكت بيانات ومعلومات هامة من هذه الشهادة حفاظاً على الشاهد/ة من أيّ تبعات أمنية)
ابتداءً من يوم الثلاثاء 29 نيسان/ إبريل ولمدّة أربعة أيّام، عاشت مناطق من سوريا مثل مدينة جرمانا في ريف دمشق الشرقيّ، ومدينتا أشرفية صحنايا وصحنايا في الريف الغربي للعاصمة السورية، ومحافظة السويداء، حالة رعبٍ وتهديدٍ طائفيّ وإعداماتٍ ميدانية بحقّ مدنيين عزّل، دفعت عدداً كبيراً من سكان تلك المناطق إلى مغادرتها خوفًا إلى قرى جبل الشيخ ومناطق أخرى، في محاولةٍ لإنقاذ مَن تبقى.
حدث الأمر بطريقةٍ مشابهةٍ لما كانت قد عاشته منطقة الساحل السوري من مجازر ارتكبتها فصائل "متشدّدة وغير منضبطة"، في يوم السادس من آذار/ مارس 2025 ولمدّة ستة أيّام تالية، من دون أن يستقر الوضع الأمنيّ بعد.
راتب شعبو: مجازر الساحل أحدثت صدعاً مبكّراً في أسس بناء دولةٍ وطنية بعد نظام الأسد
02 نيسان 2025
هنا نقدّم شهاداتٍ من أهالي المدنيين في أشرفية صحنايا، الذين تعرّضوا لإعداماتٍ ميدانية حتى بعد دخول الأمن العام إلى البلدة بتاريخ 30 نيسان/ أبريل 2025، وذلك بعد 20 ساعةً من القتال المُتواصل بين الفصائل المتشدّدة، التي كانت تهتف بإبادة مكوّنٍ سوريٍّ كامل، وبين الفصائل المحلّية في هذه البلدة.
هذه الشهادة من شاهد/ة في منتصف الأربعينيات يحدّثنا/ تحدثنا عن تفاصيل متعلّقة بحادثة إعدامٍ ميداني لأحمد (اسم مستعار)، شخص خمسيني، مقيم في البلدة:
"كأنّ كلّ ما عشته نهاية نيسان/بداية أيار الماضي كان كابوسًا لا يمكن تصديقه. لم أكن أتخيّل يومًا أني سأبكي في يومين متتاليين قتل عدّة شبانٍ من عائلتي، وأنّني سأراهم مثقوبي الصدر والعين والرأس. ولم أتخيّل أن أشارك في عزائهم في أيام متتالية، وأن يصبح العويل هو الصوت الوحيد الذي يحاوطني، ويصبح الأسود هو اللون الوحيد للحياة.
نعم، لم أصدّق يومًا أنّ مدينتي التي وُلدتُ وكبرتُ فيها، والتي تُعتبر جزءًا من العاصمة دمشق بسبب قربها منها، وتضمّ أكثر من مليون نسمة من مختلف مكوّنات المجتمع السوري، وقد استقبلت خلال سنوات الثورة أكثر من 300000 ضيفًا قدموا من المدن المدمّرة مثل داريا ودير الزور، يمكن أن تصبح مدينةً محاصرةً من قبل مجرمين، أشكالهم غريبة لم نعتد رؤيتها من قبل، بعضهم لا يتقن العربية، ويطالبون بإبادتنا نحن الدروز.
طلب أهل المنزل منهم تأجيل التفتيش وإن كان ليومٍ واحد، حتى نقوم بدفن الشهيد. حينها استشاطوا غضبًا من كلمة شهيد وقالوا إنّ "الكلب الذي مات وهو يقاتلهم ليس شهيدًا" وأصروا على دخول البيت. لكن مجموعةً من شباب العائلة خافوا وبدأوا يقنعونهم بأن الشاب المتوفّى لم يكن ينتمي إلى أي فصيلٍ مسلّح وأنه قد مات ميتةً طبيعية، فوافقوا على مضض. حينها توقّعنا أنهم يُبدون تصرّفًا ينم عن ذوقٍ وإنسانية، وقد قدّرنا ذلك لهم، ولم نكن ندرك أنّ الفجيعة الجديدة قادمة.
مطلع شهر أيار/مايو، شاركت في عزاء شاب لم يكن قد حمل سلاحًا قبل نهاية نيسان/أبريل ٢٠٢٥ المنقضي. قضى في اليوم الأوّل الذي حمل فيه السلاح ليدافع عن البلدة. كان الشهيد ممدّدًا في المنزل، باردًا وشاحبًا ومثقوب الصدر، حين جاءت إلى البيت مجموعةٌ من الرجال الملتحين والمسلحين ولهم أشكالٌ غريبة، ينتمون إلى إحدى الفصائل المسلّحة التي كانت تسمّى بأنصار الهيئة، تريد وبشكلٍ هجوميّ تفتيشه مثلما فعلت مع كلّ بيوت الحارة، وذلك عقب انتهاء القتال الذي استمرّ لمدّة عشرين ساعةً. طلب أهل المنزل منهم تأجيل التفتيش وإن كان ليومٍ واحد، حتى نقوم بدفن الشهيد. حينها استشاطوا غضبًا من كلمة شهيد وقالوا إنّ "الكلب الذي مات وهو يقاتلهم ليس شهيدًا" وأصروا على دخول البيت. لكن مجموعةً من شباب العائلة خافوا وبدأوا يقنعونهم بأن الشاب المتوفّى لم يكن ينتمي إلى أي فصيلٍ مسلّح وأنه قد مات ميتةً طبيعية، فوافقوا على مضض. حينها توقّعنا أنهم يُبدون تصرّفًا ينم عن ذوقٍ وإنسانية، وقد قدّرنا ذلك لهم، ولم نكن ندرك أنّ الفجيعة الجديدة قادمة.
هنا، تقدّم قريبي (أحمد)، والذي كنا نناديه دومًا في العائلة بـ "الغالي"، وذلك لأنه فعلًا كان شديد الغلاوة في قلوبنا، فهو اللطيف الخلوق الأنيق المحترم دائمًا في كلّ تصرّفاته، وهو الشخص الذي أثق به وأُسرّ له بكلّ شيءٍ يخصّ العائلة، وهو أيضًا الرجل جميل الطلّة والمتعلّم والحكيم الذي كان دائمًا مرجعي ومصدر بسمتي واطمئناني، وقد عزّزتْ صداقتي بزوجته علاقتي به. هنا، ولأجل أن يهدّئ من روع المجموعة المسلّحة ويصرف نظرهم، قال لهم الغالي: أنا أسكن في بيت مجاور، تفضّلوا إن أردتم وفتشوا بيتي. حينها سألوه عن هويته فأجابهم أنها في المنزل.
الساحل السوري... سقط النظام فتزايدت الهجرة!
22 أيار 2025
لذا ذهب الرجال الملتحون المسلحون التابعون لأنصار الهيئة مع الغالي إلى بيته. وعندما وصلوا اقتحموا البيت بهمجية ومن دون أيّة مراعاةٍ لحرمته، وذلك حسب ما أخبرتني زوجته، ومع ذلك فقد دعاهم الغالي للجلوس (نقلاً عن زوجته أيضًا) فجلسوا قليلًا في الصالون ثم قاموا بتفتيش كلّ قطعةٍ في المنزل وطلبوا من زوجته وأولادهما الموجودين البقاء في الغرفة الصغيرة، وعندما انتهوا ولم يجدوا في المنزل أيّ شيء، قالوا للغالي "ستأتي معنا". فأجابهم "لدي واجب عزاء الآن، حين ينتهي العزاء تعالوا وسأذهب معكم". لكنهم قالوا له "لا ستأتي معنا الآن". عندها وافق مجبرًا وتحت تهديد السلاح لأنهم قاموا بإطلاق رصاصةٍ في الهواء عندما حاول مجادلتهم، فخرج معهم من المنزل وسط صراخ زوجته التي كانت تحاول أن ترى من شباك بيتها ما يحصل على الطريق أمام بيتهم: وين رايح؟ وين أخدينو؟
أمام باب المنزل، وعندما طلبوا منه أن يصعد معهم في السيارة، قال لهم "معي سيارة، سأذهب بسيارتي معكم"، وهذا ما حصل وشاهده أولاده وبعض مَن كانوا في العزاء.
بعد نصف ساعةٍ تقريبًا من ذهابه معهم بسيارته الخاصة إلى جهةٍ مجهولة، حاولت زوجته (كما أخبرتني) الاتصال به على جواله. لكن جواله كان مغلقًا وخارج التغطية، ثم أعادت المحاولة بعد عشرة دقائق وكان ما يزال مُغلقًا لتمضي بعد ذلك ساعةٌ كاملة وجواله مغلق. هنا بدأ الجميع يقلق ويحاول الاتصال به أو السؤال عنه لكن من دون الوصول إلى أيّة إجابة.
قضينا الوقت ونحن نحترق من الداخل، وبدأ الخوف من فاجعةٍ جديدة يأكل قلوبنا جميعاً وحتى أهل الشهيد الذين كانوا في مجلس العزاء صاروا يبحثون معنا بلا جدوى، أما أنا فقد تصلّب الدم في شراييني، لكنّني كنت أقنع نفسي بأنه سيعود فالغالي لا يمكن له أن يرحل.
مضى الليل ونحن نحاول البحث عنه، خرج أفراد العائلة للبحث في كلّ شوارع وحارات أشرفية صحنايا ومدينة صحنايا، على الرغم من حالة الرعب التي كانت تسود المدينة، لكنهم لم يجدوا أي أثرٍ له أو للسيارة.
لم أصدّق يومًا أنّ مدينتي التي وُلدتُ وكبرتُ فيها، والتي تُعتبر جزءًا من العاصمة دمشق بسبب قربها منها، وتضمّ أكثر من مليون نسمة من مختلف مكوّنات المجتمع السوري، وقد استقبلت خلال سنوات الثورة أكثر من 300000 ضيفًا قدموا من المدن المدمّرة مثل داريا ودير الزور، يمكن أن تصبح مدينةً محاصرةً من قبل مجرمين، أشكالهم غريبة لم نعتد رؤيتها من قبل، بعضهم لا يتقن العربية، ويطالبون بإبادتنا نحن الدروز.
في اليوم التالي، وصلتْ إلى جوال أحد أفراد العائلة، صورةٌ من رقمٍ يعود إلى شخصٍ مُقيمٍ في البلدة، لكنه من عائلةٍ ثانية. في الصورة كان هناك جثة لرجلٍ غارقٍ بدمه ومهشّم الرأس موضوعة في براد أحد المشافي. هنا توقفت قلوب الجميع رعبًا. حاول أحدهم تكبير الصورة ولم يستطع التعرّف على ملامح الجثّة، فأعاد الاتصال بالرقم ولم يتلقّ أيّة إجابة.
بعد حوالي نصف ساعة جاء اتصالٌ من الشخص الذي أرسل الصورة، والذي عرفنا لاحقًا أنه كان متواجدًا في المستشفى (تم إغفال ذكر اسم المستشفى لدواعي أمنية) من أجل التعرّف على جثّة أخيه الذي كان قد أُعدم ميدانيًا أيضًا. في الاتصال، أكّد الرجل أنّ الجثة تعود فعلًا إلى "الغالي"، على الرغم من أنّ ملامحها شبه مهشّمة بسبب طلقٍ ناريٍّ في الرأس.
الشائعات.. كجذرٍ من جذور الطائفية
23 أيار 2025
حينها أحسست أنّ قلبي سقط مني، وأني غير قادر/ة حتى على الصراخ. توقّف الكلام وتوقفت الدموع، فقط الدهشة والجمود هو ما أصابني، أحسستُ أنّ الزمن تجمّد، لم أستطع التصديق ولا القبول، كانوا يهزونني ويحاولون وضع الماء على جبيني لكني كنت غير قادر/ةٍ على الاستيعاب.
بعد ذلك توجّهت العائلة إلى المشفى لاستلام الجثة ثم المضي بها فورًا إلى المقبرة من دون إقامة مراسم عزاء في المسجد أو ما يسمّى بمجلس البلدة، بسبب حالة الذعر، الشبيهة بحالة منع التجوّل التي كانت تسود في المدينة، وانتشار المسلحين التابعين لأنصار الهيئة في كلّ الشوارع، واقتحامهم للمنازل من دون مراعاة أيّة حرمة لأصحابها، وتفتيشها وسرقتها أيضًا، بالإضافة إلى انتشار مجموعاتٍ من الأمن العام لاحقًا.
عرفنا لاحقًا أنّ ثمّة أشخاصًا من البلدة كانوا قد وجدوا الغالي مصابًا بعدّة طلقات في رأسه وظهره، ومرميًا على جانب الطريق وبجانبه هُويّته الشخصية، وذلك في منطقة تقع بين صحنايا وأشرفية صحنايا، وأنهم قاموا بنقله إلى المستشفى بعد أن تعرّفوا عليه عبر بطاقة الهُويّة، في محاولةٍ منهم لإسعافه. في المستشفى تمّ التأكيد على أنه فارق الحياة قبل ساعةٍ من وصوله إليها.
قبل الذهاب بالغالي إلى المقبرة، مروا بالجثمان قليلًا، لمدّة لا تزيد عن نصف ساعة، إلى المنزل كي تودّعه زوجته وأولاده وعائلته. عندها استجمعتُ كلّ قواي واقتربت أنا منه، لم أستطع التعرّف أبدًا على ملامح الغالي، الجميل والوسيم. كانت جبهته مهشّمةً تمامًا وكان باقي وجهه أزرقاً، أما صدره فقد كان مثقوباً.
قبل الذهاب بالغالي إلى المقبرة، مروا بالجثمان قليلًا، لمدّة لا تزيد عن نصف ساعة، إلى المنزل كي تودّعه زوجته وأولاده وعائلته. عندها استجمعتُ كلّ قواي واقتربت أنا منه، لم أستطع التعرّف أبدًا على ملامح الغالي، الجميل والوسيم. كانت جبهته مهشّمةً تمامًا وكان باقي وجهه أزرقاً، أما صدره فقد كان مثقوباً.
أخيرًا، وبعد قيام بعض شيوخ العائلة بصلاة الجنازة على جثمان الغالي، حمله بعض أفراد العائلة ومضوا به إلى المقبرة ليصبح جارًا لمن دُفنوا في المقبرة نفسها في الأيّام السابقة، وأنا تركوني هنا أكمل نواحي وعمري الشقي من دون أن أنادي أحدًا بالغالي بعد اليوم، تركونا نُكمل أعمارنا كأشباحٍ بلا قلوب، فقلوبنا سقطت منا مع الغالي هناك.