كنت قد وصلت إلى دمشق، للمرّة الثانية، في الثامن من أذار/ مارس ٢٠٢٥، بعد هروب الأسد، على أمل أن أرى عائلتي مرّةً أخرى وألّا تحدث عقباتٌ تُباعد/ تلاقيّ معهم. لكنّ وصولي تزامن مع المجزرة التي كانت تقع في الساحل السوري بين السادس والثامن من آذار، وراح ضحيتها قرابة 1700 مدنيّاً من أطفالٍ ونساء وشيوخ.
بقيتُ في دمشق، اختبرتها، مكان ولادتي وطفولتي ومراهقتي وعشرينياتي، ولكن كمكانٍ غريبٍ عني، شعرت بأني ضيفةٌ غير مُرحّبٍ بها. وفي الوقت نفسه لا مكان آخر أذهب إليه. ضاقت سوريا بي مرّةً ثانية وأصبحت سجنًا كبيرًا. منذ السابع من آذار/ مارس أخاف أن أصحو كلّ يوم على خبر مجزرةٍ من الساحل، كلّ يوم يصبح عملاً شاقّاً، لينتهي بخوف من قدوم يومٍ آخر، شبيهٍ في ظلمه وعدم يقينه. ينتهى يومٌ آخر، مع حقيقة أنّ عائلتي وعائلاتٍ علويةً عديدة لاتزال تنتظر البقاء على قيد الحياة.
بدأت شرارة الأحداث الدامية على خلفية الهجوم الإرهابي الذي شنّته مجموعاتٌ مسلّحة، مموّلة من رجل أعمالٍ سوري مقيمٍ في روسيا في ٦ آذار/ مارس، حيث هوجمت حواجز قوات وزارتي الداخلية والدفاع، في بانياس وجبلة واللاذقية وأريافها. ولم يقابَل الهجوم الإرهابي بدعواتٍ للتهدئة وضبط النفس، على العكس من ذلك، فقد تمّ إعلان النفير العام ضدّ "فلول نظام الأسد " والدعوات إلى الجهاد في المساجد للانتقام من الطائفة العلوية.
الساحل السوري... سقط النظام فتزايدت الهجرة!
22 أيار 2025
أجد نفسي مضطرةً في هذا النصّ، لإظهار بعض الهُويّات التي لطالما قاومتُ إسقاطها عليّ من محيطي الاجتماعي، اليوم أجد نفسي ساذجةً ومُحبطة لسقوط هُويّتي كمواطنةٍ سورية، وإرجاعي إلى هُويّةٍ ضيّقة؛ أنني علويةٌ ولدت في دمشق. لم يكن ذلك بسبب المجازر فقط، بل لأنّ المجازر كانت نتيجةً لسلسةٍ من الأحداث التي وقعت سابقًا، وتمّ التقليل من أهميتها في خضم الابتهال والابتهاج بالتحرير.
بدأت تلك الأحداث منذ ليلة ٨ كانون الأول/ ديسمبر ٢٠٢٤، ليلة هروب الأسد، حيث شهدتْ طرقات السفر بين دمشق والساحل على هروب مئات العائلات العلوية، (سواءٌ أكانت عائلاتٍ مدنية أم كان أحد أفرادها في الجيش أو الأمن)، من دمشق بعد إشاعة خبر أنهم مستباحون. كنت سطحيةً حين حاولتُ أن أكون واقعية، واعتقدت أنّ العائلات العسكرية فقط قد تشعر بالتهديد، وكان من المفهوم ضمناً أنّ الغضب المُتراكم والانتقام سيكون من الجيش والمخابرات ومن أيّ شخصٍ مرتبطٍ بهاتين المؤسستين بسبب الجرائم التي ارتُكبت على مدار ١٤ عاماً، وأنّ الفوضى القادمة لن تتسامح مع الجهات ذات الارتباطات المباشرة بالنظام البائد. وقتها لم تحدث عمليات قتلٍ كبيرةٌ أو مُمنهجة، كانت لاتزال في إطار "الأخطاء الفردية"، "حالات انتقام"، سرقة ممتلكات بعض المسافرين وسياراتهم، ولكن ما حدث منذ ذلك الوقت، كان نشْر الخوف والذعر، واستخدام العنف واستباحة الطائفة العلوية ببساطة، لتهديد كلّ مَن يخالف الحكّام الجدد.
الخطاب القائل: لا مكان للعلوية خارج قراهم ولابُدّ من إعادتهم إليها، كان، وربما ما زال، متداولًا منذ هروب الأسد. في مكالمةٍ مع صديقةٍ شاميةٍ من الطائفة السنيّة، وفيما كنا نتحدّث عن احتماليات تنسيق زيارتنا إلى دمشق سويةً، قالت لي "ليش مين بقيان لك بالشام؟". حينها شعرتُ بسكينٍ في قلبي، وتظاهرت بأني واثقةٌ أنها لا تعرف أنّ أخوتي ما زالوا هناك.
سبقت المجزرة شهورٌ من التطبيع مع السؤال عن انتمائنا الطائفي في الدوائر الحكومية، والسؤال عن الهُويّة على الحواجز، ومنح التصاريح، الصحفية مثلاً، بالاعتماد على هذا الجواب ومزاجية صاحب السلطة لحظتها. بالمثل، حصلتْ قبل المجزرة سلسلةٌ من الإعدامات الميدانية، ذهب ضحيتها شبابٌ من الطائفة العلوية في مناطق عدّة في الساحل، بحجّةٍ مزيفة، مفادها أنهم فلول النظام السابق. كانت عائلتي تشارك معي هذه الأخبار بحذر، لأنها لم تجد طريقها إلى الإعلام حينها لتؤخَذ على محمل الجد، بل وتمّ تبريرها ضمن الأوساط السورية كنتيجةٍ حتمية لإرث النظام البائد، وأنّ "الأخطاء الفردية" واقعةٌ لا محالة، وعلى رغم أنّ أعدادًا كبيرة من الجنود السابقين أقدموا على تسوية أوضاعهم وحملوا أوراقاً رسمية تؤكّد ذلك، لكن القتلة لم يهتموا بها. حتى إنّ مدنيين من الطائفة، قُتلوا لأنهم أجابوا بصراحةٍ على السؤال الملعون "أنت سني ولا علوي؟" كما أخبرتني أختي في زيارتي لسوريا مطلع هذا العام.
أردت أن أفرح لكوني في سوريا ، أشهد الاحتفال من دون خوفٍ من الأسد، ولكن الخوف من قوى الأمر الواقع، المسلّحة، خطف فرحتي.
في ٨ آذار/ مارس هذا العام، زرتُ سوريا للمرّة الثانية. كنت أمشي في شوارع دمشق وعلى بعد ثلاث ساعات، تقع المجزرة. عائلتي تختبئ في الأحراش ليلاً، الكثير من القصص خرجتْ إلى العلن، بعضها عبر بثٍّ مباشر بأيدي القتلة أنفسهم. عندما تحولت أصوات الرضّع والصغار إلى قنابل موقوتةٍ محتملة، كان يجب على صغار أخي كتم الخوف، تحمل القلق والجوع، وتعلّم النجاة بنظرةٍ من الأم أو حركة رأسٍ من الأب؛ وأن يغطوا في نوم عميق عندما يُطلب منهم ذلك، أن يركضوا في أيّ اتجاهٍ للاختباء لحظة رؤية مسلحين، وألّا ينظروا خلفهم، وأن يتركوا آباءهم وأمهاتهم وأجدادهم خلفهم. طفلةٌ في الثالثة من عمرها تعلّمت كيف عليها أن تنجو لو ظهر مسلحون أمام الباب. الفيديوهات التحريضية، خاصة من سورييّ الخارج لقتل العلوية كادت أن تتحول إلى ترند عالمي .. كلّ ذلك حصل والمجزرة مُستعرة. أمشي في دمشق، يشغلني سؤال، كيف يمكن أن يحدث كلّ ذلك على بعد ثلاث ساعاتٍ فقط، والناس هنا في سعيها اليومي لأشغالها.
خلال وجودي في دمشق، دعت ناشطاتٌ وناشطون، منهم أصدقاء، إلى وقفةٍ تضامنيةٍ صامتة تضامناً مع ضحايا الساحل وقوى الأمن العام الذين تعرّضوا إلى كمائن. أذهب إلى ساحة المرجة "ساحة الشهداء" مكان الوقفة كمراقبة. لم أستطع كتابة لافتةٍ ورفعها، ماذا كنت سأكتب عليها؟ لا كلمات كانت ستُسعفني وكيف لي أن أتضامن مع عائلتي التي لا تعرف ماذا تنتظر ولا مِمّن تختبئ. أريد أن أرى غيري من السوريات والسوريين يقومون بهذا الفعل، تعبتُ من حمل القضايا على مدار ١٤ عاماً، من مناصرةٍ لحقوق الإنسان، والدفاع عن حرية التعبير والإعلام، أنا اليوم محتاجةٌ إلى أن تَحمل القوى المدنية في سوريا قضيّتي، أمسك نفسي وأنا أتجنّب الكتابة صراحة، وأتحاشى أن أضيف أنني تحديدًا محتاجةٌ إلى أن تحمل القوى السنية المدنية، المؤمنة ببناء دولةٍ سورية، قضيتي.
رحل "الغالي" من دون أن يودّعنا
29 أيار 2025
كانت وقفةً شجاعة في الساحة، الوجوه الغاضبة والحزينة والمُتضامنة هم أصدقائي وأصدقاء أصدقائي، أين باقي السوريين والسوريات؟ لا زلنا ندور في الدوائر المغلقة نفسها. بدأت المناوشات في الساحة وعلت الأصوات من الجهة المضادة للوقفة بالتشديد على أنّ قوى الأمن العام هي من تستحق التضامن، وانطلقت عباراتٌ تحقيرية للطائفة العلوية، وبدأت الهتافات تعلو "سنية، سنية"، ليردّ مَن هم من طرف الوقفة "سلمية، سلمية" ثم تختلط الأصوات ويبدأ الشدّ والشتم والصراخ ليتم التصعيد بإطلاق رصاصٍ في الجو، لم يكن واضحًا من أطلق الرصاص. بالتأكيد رجلٌ ما أطلق الرصاص. صديقةٌ لي كانت في الوقفة أكدت أنها رأت مدنيّاً يسحب السلاح ويطلق الرصاص في الجو.
الأمن العام لم يصل إلى المكان بعد، ولم يأت لاحقًا، وبدأت حالة تذمّرٍ من قبل السيارات المارة في الساحة. أحوم بدوائر حول الحدث وأحاول الابتعاد عن المركز، خفتُ، ولربْما لم تكن لديّ الثقة مع انتشار السلاح الخفيف وغياب القانون أن يتم وقوع خطأٍ فرديّ وأكون أنا قصته الحزينة.
ينتهي اليوم وأعود إلى أختي، نتفقّد حال أهلي في الساحل، أخبرهم أنّ مجموعةً خرجت للتضامن والاحتجاج على ما يحصل من قتل، ترد أختي عبر الهاتف بصوتٍ يائس: "يعني شو بيفيدنا هالحكي؟"، تشتعل مشاعري المواطنية وأقول بحماس: "مهمة كتير حتى الناس تعرف شو عم يصير لأن الصمت أبشع"، ترد على مضض " أي ماشي".
مجازر.. وذكرى الثورة!
احتفالات الثورة السورية الأولى بعد هروب الطاغية تخلّلت زيارتي تلك، وذلك بعد عدّة أيام من المجزرة في ١٥ آذار/ مارس. لم يُعلن أيّ حدادٍ عام، وكيف ذلك؟ هي لحظةٌ مهمّة لتغذية شعبية الحكّام الجدد؟
من وسط دمشق، من ساحة الأمويين قبل موعد الإفطار في رمضان، اجتمع بعض الناس للاحتفال، وترافق الأمر مع خطاباتٍ سطحية وعراضاتٍ شامية وهتافاتٍ دينية "قائدنا للأبد، سيدنا محمد".
أجد نفسي ساذجةً ومُحبطة لسقوط هُويّتي كمواطنةٍ سورية، وإرجاعي إلى هُويّةٍ ضيّقة؛ أنني علويةٌ ولدت في دمشق. لم يكن ذلك بسبب المجازر فقط، بل لأنّ المجازر كانت نتيجةً لسلسةٍ من الأحداث التي وقعت سابقًا، وتمّ التقليل من أهميتها في خضم الابتهال والابتهاج بالتحرير.
تمضي ذكرى الثورة باحتفالٍ باهتٍ قبل الإفطار واحتفالٍ مهيبٍ بعد الإفطار وفي عدة مدن سورية، أردت أن أفرح لكوني في سوريا ، أشهد الاحتفال من دون خوفٍ من الأسد، ولكن الخوف من قوى الأمر الواقع، المسلّحة، خطف فرحتي.
أخبار متفرقة.. "صرنا عبرة"
أتابع الأخبار كلّما سمحت لي الفرصة، يبدو أن الدروز يتصدرون المشهد بعد طردهم قائد الأمن العام (القادم من إدلب) وتفضيلهم أن تكون قيادة الأمن في المحافظة من أبنائها، ثم حصل اتفاق مع قائد حركة رجال الكرامة السورية. أيّامٌ قليلة ثم تقوم مجموعة مشايخ دروز بزيارةٍ إلى دولة الاحتلال، لتنطلق حملات التخوين لكلّ الدروز على مواقع التواصل الاجتماعي، وهنا بدأ استخدام مجازر الساحل كعصا ضدّ الدروز في حال لم يتفقوا مع حكومة الجولاني "الشرع". أردّد في رأسي "انمسحت الأرض بكرامتنا وصرنا عبرة" فجأة تقول لي أختي، وكأنه صدى يخرج من رأسي "شفتي؟ عملونا عبرة ليربوا غيرنا، الله يفرج".
نعود إلى الأخبار لنتابع أخبار لجنة تقصّي الحقائق، لا أحد ممّن تحدّثت معهم بيّن أيّة ثقة، بل على العكس كان الخوف من التحدّث إلى اللجنة أكبر، أحاول بثّ أيّ نوعٍ من التطمين، لكن من اختبر المجزرة لا كمن شهدها من دمشق.
"فشرتوا"
نام أهلي تحت سقف البيت بعد عدّة ليالي من النوم في البراري. كيف يشعرون الآن؟ لا أعلم. كيف لهم أن يشعروا بعد اليوم تحت سماء سوريا؟ لا أستطيع تخيّل ذلك حتى.
الشائعات.. كجذرٍ من جذور الطائفية
23 أيار 2025
يبدأ القلق والخوف والاكتئاب بالتسلّسل إلى قلبي، لا أعرف إن كنت أريد البقاء في سوريا أم أودّ العودة إلى بيتي البعيد عنها في أوروبا. أكمل أيامي في دمشق على مضض، حتى لحظة نشر فيديو أم أيمن ريحان الذي تردّ فيه على رجال مسلحين يتهمون أولادها بالغدر، وأنهم سيدوسون كلّ علويّ لأنهم غدروا بعدما أُعطَوا الأمان، تردّ أم أيمن رافعة سبّابتها "فشرتوا نحنا ما منغدر".
"فشرتوا" أعادت بعض الكرامة، أم أيمن بوقفتها تحرس جثث أولادها جعلت النار توقد من جديد في داخلي لأن أفعل شيئاً ما حيال هذا الجنون والظلم. لكنّ هذه النيران لم تستمر، فبعد عدّة أيام زار وفدٌ رسمي أم أيمن، بدت أمّاً ثكلى وقد شاخت فجأة، مشتّتة ولم أسمع صوتها كثيراً في ذلك اللقاء الرسمي، كان الرجال في ذاك المكان والزمان هم مَن تعلو أصواتهم، بقيت جملةٌ واحدة منها تتردّد في ختام ذلك اللقاء: "كلكم أولادي".
من اتصالاتي شبه اليومية مع عائلتي، أعلم أن القتل، كأخطاء فردية، مستمرٌ حتى الآن بحقّ أبناء الطائفة العلوية في دمشق وحمص وحماه ومدن الساحل. تستمر حالات السرقات لممتلكات العائلات، والتي يصدف أنها علوية! تُخطف نساء من الطائفة ويبقى مصيرهن مجهولًا، يُقتل أطفال بانياس في أوّل أيام العيد، كما تستمر الانتهاكات. إلا أن وقف العنف ضدّ الطائفة العلوية، لا يبدو من أولويات الحكومة الانتقالية، فالتعامي عنها يزيد من شعبيتها ويحلّل الانتقام ويعطي شرعيةً لمشروع سوريا السنية الجديدة التي يشكّك كثيرون بها، لكنْ هناك رغبةٌ عارمة بإقامتها لدى الأغلبية، هكذا يخبرني إحساسي على الأقل حاليًا.
كيف سننجو؟
كيف سننجو من كلّ هذا؟ كيف سننجو من هذا التاريخ الذي نشهد عليه؟ هذه ليست قصصاً عن عليّ ومعاوية وفتوى من ابن تيمية لإبادة العلويين، إن كان من الممكن تكذيب كلّ المجازر التي ارتُكبت بحقّ الأقليات في التاريخ، فكيف يمكن أن نكذّب هذه المجزرة؟
لن أدخل في جدل المجازر ضد العلويين في الماضي، إن كانت قد حصلت كما يقول بعضهم، أم لم تحصل كما يرد بعضٌ آخر، قائلًا إن العلويين اختاروا الهجرة إلى الجبال لأنهم لم يرغبوا في دخول الدين؛ عن أيّ دين تحديداً نتحدّث؟
مع ذلك، وبعيدًا عن كلّ هذا الجدل التاريخي الذي يُترك للمؤرخين، أقول: مَن قتل الأطفال أمام أمهاتهم؟ من قتل الفلاحين تحت أشجارهم؟ من ذبح أبناء أم أيمن؟ من هجم على العائلات في وضح النهار وسرق أموالها؟ من هتف "أموية وسنية"؟.
إن لم يتم الاعتراف بأن ما حدث في الساحل هو مجزرة، فهذا يعني أننا نشهد على كتابة تاريخٍ يطمس، مرّة أخرى، حقيقةً نعيشها ولكنّنا نرفضها لقسوتها، أو لربما لأنها ستهدم أحلامنا "الوردية" عن الثورة التي لم تنتصر بعد لكرامة جميع السوريات والسوريين.
لا تتوقّف أخبار القتل والنهب المُمنهج، ولا تأخذ الحكومة الجديدة خطابًا واضحًا، كلّ تصريح يأتي بغموضٍ أكبر من الذي قبله فيما يتعلّق بسوريا، وتحديدًا بالمجازر ومرتكبيها من الفصائل الأجنبية وغيرها، والتي تُستخدم حتى اللحظة ببراغماتية، داخليًا وخارجيًا، سواء بالتهديد بها أو بإعطاء وعود بالسيطرة عليها وتضمينها ضمن قوى الدولة، بما يعني أنّ الإرهاب سيصبح شرعيًا من داخل مؤسّسة الجيش! ما هو البديل الذي تقدّمه الحكومة اليوم عن النظام البائد في هذا الخصوص؟!
بعد ما يقارب شهرين ونصف من المجزرة أجد نفسي منسحبةً من الفضاء العام، منكمشةً ومتقوقعة، أواجه يومياً عدم الثقة وخيبة الأمل، خاصةً من رفاق الدرب المطبّلين للحكّام الجدد، والذين يجدون الأعذار لكلّ انتهاك يحصل بحقّ أيّ مكونٍ في سوريا، بحجة أنّ المرحلة الانتقالية تحتاج صبرًا، وأنّ البلد مُنهكٌ من حكم الأسد، وأن تحسين الأمور لن يحدث بعصا سحرية...
إنّ تغليف تبرير المجازر بصعوبة المرحلة وعدم التوقّف والتفكّر بأنها مخطّطة، يجعل مضغ هذا التبرير صعباً جدًا. يعيد التاريخ نفسه، أصل اليوم إلى هذه الخلاصة. كلّ السنوات التي كنا نناضل فيها لإبقاء سرديات الناس حيّةً وأن نصدقها بشكلٍ راديكاليّ، تسقط اليوم في هذا الاختبار، أسأل نفسي: إن لم يتم الاعتراف بأن ما حدث في الساحل هو مجزرة، فهذا يعني أننا نشهد على كتابة تاريخٍ يطمس، مرّة أخرى، حقيقةً نعيشها ولكنّنا نرفضها لقسوتها، أو لربما لأنها ستهدم أحلامنا "الوردية" عن الثورة التي لم تنتصر بعد لكرامة جميع السوريات والسوريين.