بدايات العلاقة بالثورة ثم العمل السياسي
هاجرتْ أسرتي إلى الولايات المتحدة الأمريكية لأسباب سياسية في منتصف التسعينيات. عندما بدأت التظاهرات في سوريا عام ٢٠١١، لم يكن القرار صعباً بشأن موقفي. بدأتُ العمل مع مجموعاتٍ من الناشطين داخل سوريا في دمشق وحمص، حيث كنت أركّز على كتابة تقارير قانونية لإيصالها إلى المنظمات الدولية، وأساعد في إيصال صوت الناشطين إلى الخارج، لا سيما وأنّ العديد منهم لم يكن يرغب في الظهور الإعلامي خوفاً من الاعتقال ولكوني أتكلّم الإنجليزية.
عندما تمّ تشكيل المجلس الوطني السوري وبدأ البحث عن أشخاص من الخارج للمشاركة فيه، دُعيت إليه واعتذرت في البداية. لكن عندما تمّ ترشيحي من قبل الناشطين في حمص، شعرتُ بمسؤوليةٍ كبيرة تجاههم، فقرّرت الانضمام، خاصةً لأنهم لم يرشحوني لانتمائي إلى أقليةٍ دينية أو لأنني أمثّل صورةً غير نمطية.
لاحقًا، انتقلت إلى تركيا في أوائل عام ٢٠١٣ لأنني شعرت أنّ العيش والعمل في أمريكا يضعني في عالمٍ منفصلٍ تماماً عن الواقع السوري. هناك، عملت مع المنظمات الدولية التي تدعم الملف السوري، لكن سرعان ما أدركت أن مكاني الحقيقي هو في العمل السياسي، خاصةً مع قلّة مشاركة النساء، ولهذا انضممت لاحقًا إلى الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية في عام ٢٠١٦.
العلاقة بين الناس والهيئات السياسية المعارضة
هل مازلنا نُقدّم صورة حالمة عن المرجلة؟
13 آذار 2025
أكثرية الأعضاء كانوا من المنفيين. دورنا الأساسي كمعارضين كان السعي نحو حلٍّ سياسي للوضع السوري، يناسب تطلّعات السوريين رغم كلّ التحديات وعدم رغبة النظام في أيّة مفاوضات. بعض الناس اتهمونا بأننا نحبّ السفر، وبعضهم الآخر أعتقد أنّ هذه المفاوضات لم تكن ذات جدوى، لكننا كنا نراها ضرورية. صحيحٌ أنّ العمل السياسي لم يُحقّق نتائج ملموسة بسبب تعنّت النظام. لكننا عملنا على ملفاتٍ مهمة حول شكل الدستور السوريّ المستقبلي، وقانون الانتخابات، ومعايير البيئة الآمنة للانتقال السياسي.
أما عن تشكيلات الهيئات والحكومات فلا ينبغي أن يكون التعريف بهؤلاء الأشخاص مسألةً استعراضية، بل على الأقل تقديم معلوماتٍ بسيطة عن خلفياتهم الأكاديمية وخبراتهم المهنية، فبعضهم يخشى الظهور بسبب حملات تشويه السمعة أو الاتهامات من دون أدلة. شخصياً، أحرص دائماً على التعبير عن أفكاري عبر وسائل التواصل الاجتماعي، هناك زملاء وزميلاتٌ يتردّدون في ذلك، خصوصاً النساء، حيث تُستخدم أساليب الهجوم التي تمسّ حياتهن الشخصية وشرفهن، مما يخلق ضغطاً اجتماعياً هائلاً عليهن.
لكن لا بد من الاعتراف بأنّه كلّما زاد التعارف والتفاعل بين الساسة والناس، كلما تلاشت الحواجز، مما يسمح ببناء الثقة.
النساء الفاعلات يفضلن البقاء في الظل
بعض النساء تراجعن عن العمل السياسي بعد تعرضهن لمحاولات ما أسمّيه "الترهيب الأخلاقي". بيئة العمل العام غير ودية، لا للرجال ولا للنساء، لكنها أكثر قسوةً على النساء. مثلًا، عند خوضي بعض النقاشات السياسية، كنت أواجه تلميحاتٍ غير لائقة، ومحاولاتٍ للتقليل من شأني أو إخراجي من دائرة الجدل، مما جعلني أتساءل عن جدوى ما أقوم به. ومع ذلك، كنت دائمًا أردّ بوضوح أن هذه الأساليب غير مقبولة، مما أجبر بعضاً منهم على تغيير أسلوبهم؛ وهو أمرٌ إيجابي، لأنه يعكس وجود تغييرٍ تدريجي.
اليوم بعد سقوط النظام، البلد بحاجةٍ إلى كل الجهود الممكنة. لذلك أنا مستعدةٌ للمساهمة بأيّة طريقة، سواءٌ إن كانت بشكلٍ تطوّعي أو رسمي، لإحداث تغييرٍ إيجابي. لكن في المجال السياسي، قراري واضح: أريد أن أظلّ ناشطةً سياسية، وأرى أن مكاني الطبيعي هو في سوريا، وليس في الخارج. بالطبع، شكل النشاط السياسي في المستقبل غير واضح، لكنني مصمّمة على البقاء جزءاً من هذا المشهد، لأنني لا أريد أن أعود إلى الحقبة التي كان فيها العمل السياسي يتم بسرّيةٍ تامة.
صحيحٌ أن الذكورية لا تزال تحاول إعادة النساء إلى الأدوار التقليدية، لكنهن هذه المرّة أكثر وعياً، ولن يقبلن بسهولة.
أؤمن بأن كلّ شخصٍ يجب أن يكون جزءاً من الحياة السياسية بمعناها الواسع. المشاركة في النشاط المدني، الاقتصادي، والثقافي هو جزءٌ من السياسة، لأنّ السياسة ليست مجرّد انتخاباتٍ وحكومات، بل هي كلّ ما يؤثّر على حياتنا اليومية. في الشهور الأولى بعد سقوط النظام رأيت لدى الناس تعطّشاً كبيراً للمشاركة. المرحلة القادمة ستكون حاسمة، ويجب على الجميع الانخراط فيها بطريقتهم الخاصة.
خلال السنوات الماضية كانت النساء هنّ المعيلات الأساسيّات لعائلاتهن، مما غيّر من نظرة المجتمع إليهن. واليوم، هناك نساءٌ يرفضن العودة إلى الأدوار التقليدية، وأصبحن مصمّماتٍ على المشاركة في العمل السياسي والمجتمعي. لم يعد مقبولًا أن نرى اجتماعاتٍ سياسية تخلو من النساء. هذه نقطةٌ إيجابيةٌ تدعو إلى التفاؤل.
صحيحٌ أن هناك أمثلةً تاريخية، مثل ألمانيا التي تمّت فيها محاولاتٌ لتهميش النساء بعد أن أدّين أدواراً رئيسية في إعادة الاعمار بعد الحرب، لكن السياق الآن مختلف. وسائل التواصل والتجارب السابقة تجعل من الصعب تكرار ذلك. صحيحٌ أن الذكورية لا تزال تحاول إعادة النساء إلى الأدوار التقليدية، لكنهن هذه المرّة أكثر وعياً، ولن يقبلن بسهولة.
الأولويات السياسية والحقوقية
تمرّد على سلطة الحكايات
17 أيار 2024
نمرّ حالياً في مرحلة إعادة النظر في قضايا أساسية، من أهمّها: الدستور. علينا التركيز على هذه النقطة، لأن القوانين التي سيتم وضعها لاحقاً يجب أن تكون متماشيةً مع مبادئه. كثيرٌ من الناس لا يدركون تأثير الدستور والقوانين على حياتهم اليومية. لذلك، يجب علينا إظهار كيف أنّ كلّ كلمةٍ في الدستور يمكن أن تؤثّر عليهم مباشرة.
كلُّ المطالب التي خرج بها السوريون في المظاهرات الأولى عام ٢٠١١، كانت في جوهرها قضايا دستورية. الدستور ليس مجرّد وثيقةٍ شكلية، بل هو أداةٌ يمكن أن تكون في يد الشعب، كما يمكن أن تكون في يد السلطة، إذا لم يشارك الشعب في صياغته والمطالبة بحقوقه من خلاله.
من الناحية القانونية، لم يكن النظام يفعل شيئاً من دون أن يكون لديه غطاءٌ قانوني، حتى لو كان صورياً. أنشأ مثلاً محكمة الإرهاب، رغم أنّه كان يمكنه قمع المعارضين من دون الحاجة إلى مبرّراتٍ واضحة، ومع ذلك، حرص على وجود قانونٍ يمنحه تلك السلطة.
بشكلٍ عام، تحتاج مسألة العدالة الانتقالية إلى نقاشٍ عميق، فهناك من يرفض العفو تمامًا، وهناك من يرى ضرورة إيجاد آلياتٍ للمحاسبة والتصالح، مثل لجان الحقيقة التي تُستخدم في بعض الدول لفتح الملفات وكشف الحقائق قبل اتخاذ قراراتٍ بشأن العقوبات أو العفو.
أما بالنسبة للنساء تحديداً، فالقضية الأساسية هي المواطنة المتساوية، وهي تثير جدلاً واسعاً، لأنّ هناك رجالاً يرون فيه تهديداً. علينا إيصال الفكرة إليهم وإقناعهم بأنّ المساواة ليست تهديداً لهم، بل هي في صالح الجميع.
إنّ السماح لأيّة جهةٍ بالتمييز ضدّ فئةٍ معينة، يعني أنها ستجد لاحقاً مبرّرات للتمييز ضدّ فئاتٍ أخرى.
بعض الأشخاص يقولون: "نحن مع المساواة، ولكن..." وهنا تكمن المشكلة. المساواة لا تحتمل الاستثناءات، لأنها إذا خضعت للاشتراط، فإنها تفقد معناها تماماً. إنّ السماح لأيّة جهةٍ بالتمييز ضدّ فئةٍ معينة، يعني أنها ستجد لاحقاً مبرّرات للتمييز ضدّ فئاتٍ أخرى، سواءٌ أكانت بناءً على الرأي السياسي، أو الخلفية الاجتماعية، أو النوع الاجتماعي. لذا، علينا أن نكون أكثر إبداعاً في الدفاع عن هذه القضايا، وأن نبحث عن طرق غير صداميةٍ لإقناع الناس بها.
وأخيرا ألخّص رحلتي بالقول: عندما بدأت الثورة، كنتُ بالكاد أتحدث العربية وبعيدةً عن الشأن السوري. لكن مع انخراطي في القضية قد تغيّر الوضع. تركت عملي في أمريكا، وانتقلت إلى تركيا، وكرّست نفسي بالكامل لهذا الملف. لكن الحقيقة هي أنني لم أشعر بأنني في وطني إلا عندما عدت إلى سوريا بعد سقوط النظام. طوال واحدٍ وثلاثين عاماً كنت أعيش في أماكن مختلفة، لكنني كنت أشعر بالغربة في كلّ مكان، حتى أدركت أن سوريا هي المكان الوحيد الذي أنتمي إليه حقاً.