مجزرة الغوطة وصفقة الكيماوي ٢٠١٣

السيادة والأكاذيب في سوريا


تحلّ اليوم (٢١ أغسطس/آب) الذكرى الثانية عشرة لمجزرة الغوطة التي استخدم فيها نظام الأسد السلاح الكيميائي، ممّا أسفر عن مقتل أكثر من ألف مدني، وما أدى في نهاية المطاف إلى تسليم نظام بشار الأسد السلاح الكيميائي بعد اتفاق روسي أميركيّ، ما يعكس الفجوة بين الخطاب الذي ادّعى الدفاع عن السيادة الوطنية والقضية الفلسطينية من جهة، بينما اتخذ قراراتٍ على حساب سيادة الدولة لإنقاذ حكمه الاستبدادي.

21 آب 2025

جوزيف ضاهر

ناشط سياسي، له منشورات بالعربية والفرنسية والانكليزية. يدوّن في SyriaFreedomForever (سوريا حرية للأبد). نال درجة الدكتوراة من كلية الدراسات الآسيوية والمشرقية (سواس) بلندن. ركزت رسالته على المادية التاريخية وحزب الله. يعيش د. ضاهر في سويسرا، حيث يدرس في جامعة لوزان.

في ٢١ أغسطس/آب ٢٠١٣، استخدم نظام الأسد أسلحةً كيميائية لمهاجمة مناطق تسيطر عليها المعارضة في ريف دمشق، الغوطة الشرقية والغربية، ممّا أسفر عن مقتل أكثر من ألف مدنيّ. حصل ذلك أثناء وجود لجنة تحقيق دولية في دمشق كانت قد وصلت قبل ثلاثة أيام للبحث في هجومٍ كيماوي أضيق نطاقًا كان قد سبق بفترة قصيرة. بدا توقيت الهجوم تهوّرًا سياسيًا، بالإضافة إلى كونه جريمةً نكراء. في الأيّام التالية،  تزايدت التهديدات بتدخلاتٍ عسكرية بقيادة غربية ضدّ النظام السوري على الساحة الدولية. إلا أنّ اتفاقًا أميركيًا روسيًا سمح للنظام السوري السابق بمواصلة قمعه للشعب السوري حتى سقوطه في ٢٠٢٤. انطلاقًا من هذا الحدث المأساوي، يتناول هذا المقال الفجوة بين خطاب النظام الأسدي السابق في سوريا، الذي ادّعى الدفاع عن السيادة الوطنية والقضية الفلسطينية من جهة، بينما اتخذ قراراتٍ على حساب سيادة الدولة لإنقاذ حكمه الاستبدادي.

في أعقاب الهجمات الكيميائية التي شنّها نظام الأسد على المدنيين في ريف دمشق، الغوطة الشرقية والغربية، والتي نفت دمشق مسؤوليتها عنها، أعلن الرئيس الأمريكي باراك أوباما أنه قبل شنّ ضربةٍ عسكريةٍ متوقّعة على نطاقٍ واسع ضدّ قوات النظام، سيطلب أولاً تفويضًا من الكونغرس لاستخدام القوّة. كان من المفهوم أنّ أيّ عمل عسكري أمريكي سيعتمد على تصويت الأغلبية في الكونغرس الأمريكي المنقسم باستمرار. أدى هذا الخيار إلى تراجعٍ حاد في معنويات حلفاء واشنطن في المعارضة السورية، الذين كانوا يأملون بالالتزام بـ “الخط الأحمر" الذي كان الرئيس قد حدّده بشأن استخدام الأسلحة الكيميائية. جاء الهجوم بالفعل بعد عامٍ ويوم من تصريحات الرئيس الأمريكي باراك أوباما حول "الخط الأحمر" في ٢٠ أغسطس/آب ٢٠١٢، والتي حذّر فيها قائلاً:  "حتى الآن لم أعطِ أمرًا بالتدخل عسكريا" في سوريا. وتدارك "لكن إذا بدأنا نرى نقلا أو استخدامًا لكمياتٍ من المواد الكيميائية فذلك سيغير حساباتي ومعادلتي ".

لكن لم يحدث شيء. لو تدخلت الولايات المتحدة، لكان من المرجح أن تتحسن قدرات الجماعات المسلحة التابعة للجيش السوري الحر، ممّا يقوض القدرة العسكرية للنظام. ألا أنّ الذي حصل هو أنّ الحركات الأصولية والجهادية تعزّزت بينما فقدت قوات الجيش السوري الحرّ مصداقيتها بشكل متزايد، واعتُبرت المعارضة المنفية منفصلةً عن الوضع على الأرض وأقرب صلةً بالدول الغربية. وقد استمرت هذه الديناميكية في السنوات التالية، مع تزايد نفوذ الحركات الإسلامية والجهادية.

في غضون أسابيع من الهجوم الكيميائي، تغيّر الوضع جذريًا، إذ توصلت واشنطن وموسكو إلى اتفاق للتخلّص من الأسلحة الكيميائية للنظام وتدميرها بحلول نهاية عام ٢٠١٤. ساعد هذا الاتفاق على دحض التهديدات الأمريكية بالتدخل العسكري، بينما أصبح بشار الأسد شريكًا في عملية نزع سلاحٍ بإشرافٍ دولي.. من الأهمية بمكان هنا التأكيد على أنّ هذه الأسلحة محرّمة دوليًا وأنّ المساعي لنزعها ضرورية، لكن المشكلة في الحالة السورية كانت أنّ الاتفاق استهدف الترسانة التي كانت تقلق إسرائيل، من دون نزعٍ تام يحمي المدنيين.

سارع الدبلوماسيون الروس والأمريكيون إلى التفاوض على اتفاقٍ لانضمام سوريا إلى اتفاقية الأسلحة الكيميائية، والذي يتضمّن تدمير مخزوناتها، التي طُوّرت في معظمها منذ ثمانينيات القرن الماضي (بما في ذلك غاز الخردل والسارين ، بالإضافة إلى صواريخ قصيرة المدى قابلة للتشتيت)، تحت رعاية منظمة حظر الأسلحة الكيميائية. صرّح الرئيس الأمريكي آنذاك بأن “فرصة تحقيق أهدافنا من خلال الدبلوماسية" أفضل من التدخل العسكري، لكن الولايات المتحدة لا تزال "مستعدة للتحرك" في حال عدم امتثال سوريا.

أظهر هذا استخفاف القوى العظمى التام بالأرواح البشرية، وخاصة في دول الجنوب.  (ولنا في الإبادة الجماعية التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة منذ ما يقرب من عامين أوضح مثال...) فالاتفاق لم يُقيّد قدرة سوريا على استخدام الأسلحة الكيميائية. صرّحت سوريا بامتلاكها ١٣٠٠ طن من الأسلحة الكيميائية بأنواعها، ألا أنّ النظام لم يسلّمها كاملة.. تمّ الاحتفاظ بنسبةٍ صغيرةٍ منها، مكّنت، نظام الأسد من الاستمرار باستخدام الأسلحة الكيميائية ضدّ الشعب السوري بشكلٍ متكرّر بعد ذلك ولعدّة سنوات من دون أن يواجه أيّة عواقب وخيمة، (باستثناء غاراتٍ جوية أمريكية على منشآتٍ عسكرية ٢٠١٧ و٢٠١٨). وبحلول عام ٢٠١٩، كان توثيق وقوع ٣٣٦ هجومًا قد تمّ، ٩٨ بالمئة منها من قِبل النظام الأسدي، والباقي من قِبل تنظيم داعش، وفقًا لتقرير صادر عن معهد السياسات العامة العالمية في برلين.

ومع ذلك، فإنّ القدرة المتبقية من الأسلحة الكيميائية للنظام السوري لم تعد تشكّل تهديدًا لجيرانه، أو على الأقل كذلك تمّ تقديمها في وسائل الإعلام الإسرائيلية. رحّبت تل أبيب بالاتفاق المذكور أعلاه. أخبر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وزير الخارجية الأمريكي جون كيري قبل إبرام الاتفاق أنه يجب أن يحاول التوصّل إلى اتفاقٍ مع روسيا لمصادرة ترسانة الأسلحة الكيميائية السورية كبديلٍ لضربةٍ أمريكية تهدّد بالإطاحة بنظام الأسد، وفقًا لصحيفة وول ستريت جورنال. علاوة على ذلك، لم تكن إسرائيل أبدًا مؤيّدة لإسقاط النظام السوري السابق بعد اندلاع الانتفاضة الشعبية في عام ٢٠١١. في تموز/يوليو ٢٠١٨، على سبيل المثال، لم يكن لدى نتنياهو أيّ اعتراضٍ على استعادة الأسد السيطرة على البلاد، بعد عودة قوات النظام للسيطرة على مناطق واسعة من ريف دمشق والمناطق الجنوبية، واستقرار سلطته فيها. وأضاف أنّ إسرائيل لن تتحرّك إلا ضدّ التهديدات من قوات إيران ونفوذ حزب الله، موضّحا: "لم تكن لدينا مشكلة مع نظام الأسد، ولم تطلَق رصاصةٌ واحدة على مرتفعات الجولان لمدة ٤٠ عاما".

كانت موافقة النظام السوري على الصفقة الروسية الأمريكية بشأن ترسانة سوريا الكيميائية من أوائل قرارات التضحية السيادية التي اتُخذت لإنقاذ حكم الأسد.

في الواقع، لم يُشكّل نظام الأسد تهديدًا مباشرًا لإسرائيل، على الرغم من ادعائه بأنه مناصرٌ للقومية العربية والقضية الفلسطينية. فقد تجنّب أيّة مواجهة مباشرة مع إسرائيل منذ عام ١٩٧٤. كما لم يردّ النظام السوري على حرب إسرائيل على غزة، على الرغم من تعرّضه أيضًا لهجمات. بالإضافة إلى ذلك، مارس النظام قمعًا تاريخيًا للفلسطينيين في سوريا، وقتل الكثيرين منهم منذ عام ٢٠١١. كما دمّر مخيم اليرموك في دمشق، الذي كان موطنًا لعددٍ كبيرٍ من اللاجئين الفلسطينيين ويُعتبر عاصمة فلسطين في الشتات. هاجم النظام أيضاً الحركة الوطنية الفلسطينية في مناسباتٍ عديدة، وحاول إخضاعها لمصالحه السياسية. في عام ١٩٧٦، تدخّل نظام حافظ الأسد ضدّ الحركة الوطنية الفلسطينية والمجموعات اليسارية اللبنانية لدعم الأحزاب السياسية اليمينية المتطرّفة في لبنان لدعم الأحزاب السياسية اليمينية المتطرّفة في لبنان. كما نفّذ عملياتٍ عسكرية ضدّ مخيّمات اللاجئين الفلسطينيين في بيروت عامي ١٩٨٥ و١٩٨٦. في عام ١٩٩٠، قُدّر عدد السجناء السياسيين الفلسطينيين المعتقلين في السجون السورية بحوالي ٢٥٠٠ معتقل..

السيادة والنضال ضدّ إسرائيل كانا كذبتين من كذبات نظام الأسد

علاوة على ذلك، وقبل سقوطه، كان نظام الأسد قد فقد الكثير من سيادته لصالح إيران وروسيا، سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، من أجل البقاء في السلطة. ولهذا السبب، لعب إضعاف حلفاء النظام الرئيسيين، روسيا وإيران (وحزب الله)، الرعاة والداعمين الدوليين الرئيسيين للأسد، دورًا رئيسيًا في الإطاحة به.

في هذا السياق، كانت موافقة النظام السوري على الصفقة الروسية الأمريكية بشأن ترسانة سوريا الكيميائية من أوائل قرارات التضحية السيادية التي اتُخذت لإنقاذ حكم الأسد. أزالت هذه الصفقة أيضًا تهديدًا أمنيًا مُتصوّرًا من قبل إسرائيل، وإن كان احتمال استعماله ضدها بعيدًا عن الواقع من نواحي عديدة. وبينما قدّم المسؤولون السوريون هذه الصفقة على أنها انتصارٌ أنقذ سوريا من اجتياحٍ أمريكي، إلا أنّ هذا الحدث أثبت أن السيادة لم تكن يومًا هدفًا حقيقيًا لنظام الأسد، ولا المقاومة أيضا،  بل كان الهدف حماية حكمه الاستبداديّ بأيّ ثمن.

بشكلٍ أعمّ، يثير سلوك نظام الأسد واستراتيجياته تساؤلاً حول مفهوم السيادة. عموماً، يشير المفهوم الرئيسي للسيادة إلى امتلاك الدولة سلطةً مطلقةً ومستقلة على إقليمٍ معيّن. بمعنى آخر، احتكار العنف في أيدي الجيش والشرطة تحت سلطة الدولة وحماية حدودها. في الوقت نفسه، تمارس الدولة سلطتها الكاملة في قراراتها في مجال العلاقات الدولية، من دون أيّة قوى خارجية تُجبرها على التصرّف بطريقةٍ معيّنة أو الخضوع إلى التزاماتٍ معينة تجاهها.

ومع ذلك، فإنّ هذا الفهم للسيادة من "الأعلى"، يُغفل عجز بعض الدول عن تحقيق احتكار العنف على أراضيها. وتتعدّد الأسباب، بدءًا من تحدّي جهاتٍ غير حكومية، والحروب الأهلية التي تُؤدي إلى تفتيت سلطة الدولة، والتدخلات الأجنبية، وبالطبع تكمن المشكلة الأعمّ في عدم تكافؤ التنمية والعلاقات بين الدول في النظام العالمي.

علاوةً على ذلك، وسواءٌ أكانت الدولة هي الطرف الوحيد المسيطر من حيث احتكارها للعنف على الأراضي التي تحكمها أم لا، فإنّ هذا الفهم للسيادة يقتصر على استخدام القوّة والقوّة العسكرية. بدلاً من ذلك، ينبغي توسيع نطاق فهم السيادة ليشمل الحقوق الديمقراطية والاجتماعية والاقتصادية للسكان الذين يعيشون في دولةٍ معينة أو كيانٍ آخر. من هذا المنظور، تشمل السيادة أيضاً تنظيم الدولة الذي يوفّر "الأمن الإنساني" الذي يضمن احترام حقّ الحياة، والذي يتضمن دوراً محورياً في التنمية الديمقراطية والاقتصادية والاجتماعية.

وعلى نحوٍ مماثل، فإنّ الفهم الأوسع للسيادة، والذي يشمل مكوّنات الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتنمية، يمنح البلدان النامية قدرةً أكبر على مقاومة الضغوط الدولية، على الرغم من القيود القائمة في مواجهة اختلالات القوة العالمية.

ختامًا، في ذكرى شهداء الغوطة، وشهداء الثورة عمومًا، علينا أن نتعلم من دروس الماضي لنقول إنه لا سيادة حقيقية تُبنى إلا بإجماعٍ شعبي ومشاركةٍ شعبية، ولا يمكن مقاومة محتلٍّ دون سيادة حقيقية. السيادة لا تُفرض بالقوة، ولا بشعاراتٍ كـ “احتكار العنف بيد الدولة" إذا كانت هذه الأخيرة مستبدةً أو ظالمة.

مقالات متعلقة

الغوطة في إدلب... من بعد؟

06 حزيران 2018
لم تكن تتوقع أم سليم (40عاماً) أن يتم استقبالها مع أسرتها في ريف إدلب بكل تلك الحفاوة والتكريم، فما إن ترجلت من الباص الذي كان يقلها مع عدد كبير من...
من الغوطة إلى إدلب، الشعب السوري واحد

04 أيلول 2018
عن الأيام الأخيرة في الغوطة، ورحلة التهجير الصعبة يتحدث الصحفي، محمد حميدان، في هذه الشهادة الموجعة، إذ يقول: "نعم لا بدّ لي أن أهجر كلّ ذلك ولا مجال للعيشِ تحت...
كيف تشرح لطفل لماذا هو جائع؟ (7)

08 كانون الثاني 2021
"بهذه الصورة كنت أنقل الحقيقة، حقيقة بأننا ككل البشر، نستحق الحياة والحرية والكرامة، ساعيا لأن يكون صوت الناس فوق كل التحليلات التي تتحدث عن معارك وتقدم عسكري أو سياسي، وبأن...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد