بين السويداء المدينة، التي كانت طيلة مئة وخمسة وعشرين عاماً تعيش في أغانيها وقصائدها الشعبية، المبنية بمعظمها على الفخر بما قدّمته في الثورة العربية الكبرى 1916 ضد الاحتلال العثماني، وفي ثورة عام 1925 ضد الاحتلال الفرنسي، وبين السويداء التي تعيش منذ أكثر من شهرين في طقوس النواح وقصائده؛ بين هاتين المدينتين"بعض المجازر ليس إلاّ".
"وظيفة المأثورات الشعبية تتمثل في تثبيت القيم الأخلاقية والاجتماعية والاعتقادية، إذ أنها تدعم التقاليد والموروثات وتضفي عليها قيماً أكبر، ومكانةً أرفع وأسمى من الحقيقة"، حسب مالينوفسكي، بينما يرى باسكوم أن "الفنون الشعبية الصوتية أو القولية أو الفلكلور الذي تشكل الموسيقى عنصراً أساسياً من مكوناته، تتمثل جميعها بالتآلف الخلاق لمجتمعٍ حقيقي يقوم بوظائفه، وتعتمد على عناصر دينامية وليست جمالية، متكاملة وليست معزولة، ذات مركزية وليست ثانوية".
يشتد ارتباط الناس بموروثهم الغنائي الشعبي بسبب قدرة الأغنية الشعبيّة على التعبّير عن الوجدان الجمعيّ وعن المستوى الفكريّ والعاطفيّ والإفصاح عن عادات وتقاليد وذوق الشّعوب وحضارتهم وثقافتهم. على الرغم من أنّ هذه العلاقة واضحة في كل المدن السورية، مثلها مثل معظم مدن بلاد الشام والعراق، إلا أن هذا الارتباط في مدينة السويداء يختلف عن أي مكان آخر، فهي تغالي جداً به وقد حولته إلى أحد تمظهرات هويتها، فأهلها ينشدون الأغاني الشعبية الوطنية في كل طقوس أعراسها، عندما تذهب الجاهة لطلب العروس، وفي موكب العرس، وفي سهرة العرس، وفي احتفالات النجاح الدراسي وفي السهرات وعند كل تجمع لأبنائها وبناتها، وفي مواقف العزاء، مثلما في الحراك الذي استمر لسنتين ضد نظام الأسد، ومثلما يغنون الآن في مظاهراتها بعد المجزرة.
شكلت الأحداث الثورية الوطنية التي شارك فيها أهل السويداء هويتهم الحقيقية الأعمق والأهم من الهوية الدينية أو حتى القومية. لم يبدأ الاستقرار الفعلي في الجبل لسكانه الدروز الحالين إلا عام 1711م، حيث بدأت الهجرات إليه من قبل دروز حلب وادلب، ثم من قبل دروز لبنان وفلسطين، الذين قاموا جميعا ببناء المدن وإحياء الزراعة في الجبل، الأمر الذي شجّع موجات هجرة جديدة جاءت من المناطق السابقة نفسها، وشكّلت مجتمعا كاملا من: دروز 77 % ومسيحيين 18% وبعض المسلمين السنة، الذين عاشوا طيلة 300 سنة في حالةٍ نموذجية من التعايش.
الأغنية بوصفها ثورة وتوثيقا لا يموت
02 نيسان 2021
بين عامي (1831–1841م)، حاول محمد علي باشا فرض التجنيد الإجباري، فثار عليه الجبل، ولم تعرف السويداء حكماً عثمانياً مباشراً إلا في عام 1840م، بينما لم تتوقف الحركات النضالية ضد الأتراك أبداً، وكان سلطان الأطرش أول من رفع علم الثورة العربية في كل بلاد الشام قبل دخول جيش الملك فيصل، في داره في القريّا. وعند تقسيم منطقة الشرق الأوسط وبلاد الشام إلى خمس فدراليات، رفض سلطان الأطرش، رفضاً مطلقاً، العرض الذي قدمه له الفرنسيون لتسليمه حكم جبل الدروز بصفته الزعيم الدرزي الأبرز يومها، مصراً على أنه لا يسعى إلا لإنشاء دولة عربية سورية موحدة.
أما الدور الأهم في التاريخ بالنسبة لسكان محافظة السويداء الحاليين، فهو في الثورة السورية الكبرى ضد الاحتلال الفرنسي عام 1925 ومقولة سلطان الأطرش خالدة منذ ذاك الحين: "الدين لله والوطن للجميع، إلى السلاح، إلى السلاح". كما دعا الأطرش إلى التطوع في جيش التحرير ، وقد استشهد حوالى 80 شاباً من الجبل خلال حرب 1948، وفي عام 1973 شارك أهل السويداء في حرب تشرين/أكتوبر ضد إسرائيل وحصل العميد الطيار عادل سلامة الطويل على وسام أبطال تشرين من مرتبة فارس بعد أن أسقط 3 طائرات حربية.
مع هذا التاريخ الحافل للمنطقة، ومع القوة الهائلة وعميقة الأثر في الوعي الجماعي للكلمات ومن ضمنها الأغاني، أخذت الأغنية الشعبية الوطنية في السويداء دوراً في بناء هوية سكانها. ومع وجود الدروز في محافظة السويداء الذي لا يعود لأكثر من 300 عام، ولكونهم أقلية صغيرة لا تشكل أكثر من 2.5% ضمن المجتمع السوري السني في أغلبيته، عمَّق تأثير ثوراتهم ضد الاستعمارين العثماني والفرنسي من وجودهم الوطني، فزاد دورهم التحرري عن حجمهم في كل من التاريخ والجغرافية السورية، وتحولت مشاركاتهم الثورية الوطنية طيلة ما يزيد عن مئة وخمسة وعشرين عاماً إلى أهم دعائم هويتهم ومرجعتيهم وفخرهم بأنفسهم ووعيهم المتوارث لذاتهم، وتصاعد كثيرا حضور الشعر الشعبي المغنّى، مؤرخاً لكل واقعةٍ ومعركة، ومشكّلا قيمة حضارية وتراثية.
أغاني السويداء الشعبية
الشعر الشعبي حول مراحل النضال ضد الأتراك:
يقول الباحث جمال أبو جهجاه: " لقد انتشرت الأغاني الوطنية في جبل العرب في الربع الأول من القرن العشرين"، وقد كانت قصيدة الشاعر شبلي الأطرش وهو شاعر زجليّ مشهور، وكان زعيماً للجبل، وقد أبعد إلى الأناضول، في معركة "خراب عرمان" حين دحر الثوار حملة ممدوح باشا التركي عام 1896 هي من أولى قصائد الأغنية الشعبية في السويداء:
جانا خبر من يم صلخد وعرمان نعمين يا وجوه الذياب المثالي
ببلاد سوريا بلا شك فرسان من غيرهم إياك تحسب رجالي
وكان له قصائد حول معارك اللجاة ضد حملة إبراهيم باشا:
من بعد ذا إبراهيم جرد علينا يبغي الحرايب عسكرا جرار
دخل اللجاة زحفا بجيش عرمرم ونحنا قلايل والعدو كثار
صحنا كما تهدر سباع كواسر على القوم بالبلطات والبتار
وفي عام 1916 كتب الشاعر معذى المغوش، الذي أعدمت تركيا والده ووالد سلطان الأطرش في اليوم نفسه و صاحب أهزوجة "وسّعوا المرجة" مخاطباً الأمير فيصل قبل دخوله إلى دمشق.
يا مير ماودها سكوت لازم تزور بلادنا
لا بد عا جلّق نفوت وتشوف عجّ طرادنا
من أجلها نحيا ونموت ونحمي حمى أجدادنا
كما كتب أيضا أهزوجة (حنا يومن لافينا) عند دخول فرسان الدروز إلى دمشق عام 1918. وهذه الأهزوجة لا تزال تغنّى بشكل يومي في السويداء خلال كل مراحل تاريخها كما أنه أعيد غناؤها بعد المجزرة الأخيرة أيضاً:
حنا يومن لافينا تضرب فينا المثايل
والمزاهر بيدينا لسوريا أمّ الأصايل
وهو أيضاً من كتب الاهزوجة الشهيرة التي تغنيها كل سوريا حتى اليوم في كل مناسباتها ومسلسلاتها الوطنية، وقد كان مع ثوار الجبل عند وصول ثوار الجبل إلى ساحة المرجة في دمشق:
الشعر الشعبي الوطني حول معارك الثورة السورية الكبرى عام 1925
لقد كان لأحداث الثورة السورية الكبرى حصة الأسد في الغناء الشعبي الثوري في الجبل، وتعددت الأصوات التي كتبت حول معارك الثورة فيه، وقد وصف الشاعر صالح عمار ابن قرية عرمان والذي كان مجاهداً وخاض العديد من المعارك وله الكثير من القصائد العامية، وصف معركة المزرعة التي شارك فيها:
أهل السويدا تبيد خصماً عصاها وضرب الفوارس يرعب الأنس والجان
ع المزرعة قامت تزايد نخاها وحمر البيارق أشرفت روس البيان
وانتشرت أيضا جوفية لـ "معذى المغوش" التي تعتبر شهادة عن معركة المزرعة، وقد غُنيت هذه الجوفية في حراك السويداء ضد الأسد بعد مئة عام على كتابتها، كما غُنيت أيضا بعد المجزرة الأخيرة التي تعرضت لها السويداء:
خسا من قال عيشتنا ذليلة نسند الجيش بيوم الصعايب
بني معروف يا نعم السليلة وابو طلال قيدوم الحرايب
وببلادنا نعزّي الدخيلا ورصاصنا بيوم الكون صايب
كما لا تزال قصيدة الشاعر جاد الله سلام عن معركة المزرعة تغنى في كل أعراس السويداء:
عساكر مثل البحر بني معروف ذيابها
وبلادنا ماهي قفر بالدم نروي ترابها
وبعد الانتصار كتب الشاعر علي عبيد:
أظن ربعي الكل منهم نشاما طلعوا عن الأوطان لجل الشهامه
وياما عيال كثار صاروا يتامى و ياما خسرنا منا أماجيد وأبرار
وعن فترة نفي سلطان الأطرش والثوار إلى وادي السرحان كتب المرحوم زيد الأطرش، أخ القائد سلطان الأطرش والذي رافقه إلى منفاه في وادي السرحان، قصيدة معروفة جداً غنتها الفنانة أسمهان:
موسيقيون على الجبهة
03 كانون الثاني 2019
يا ديرتي مالك علينا لوم لا تعتبي لومك على من خان
حنا روينا سيوفنا من القوم وما نرخصك زى العفن بأثمان
وان ما خذينا حقنا من القوم حارم علينا شفة الفنجان
وحول الفترة نفسها كتب المجاهد والشاعر هلال عز الدين الذي رافق أيضاً سلطان الأطرش في كل معاركه ضد الفرنسيين:
يا سورية نحن أقسمنا اليمين ومن فعل سلطان نرفع هاالجباه
مانساوم وما نظل مقسمين ويوسف العظمة يحقق مبتغاه
قصائد جبل العرب الشعبية عن حرب تشرين التحريرية
في الفترة التي سبقت حرب تشرين/أكتوبر أنشد الشاعر والمجاهد زيد الأطرش أخ سلطان الأطرش، مشجعاً العرب على تحرير فلسطين من الصهاينة. وتعد هذه الأغنية أيقونة حقيقية في جبل العرب:
من هضاب شاد اهلنا فوق منا موطنا للعز موفور الكرامة
للوطن حق علينا دون مِنَّه أرواحنا وقفا فدى له للقيامه
والوليد أبن يومين إن قال ننه نرضعه حب الوطن قبل الفطاما
ورد عليه الشاعر الشعبي المعروف نايف العطواني مستنهضا الجيوش العربية للقيام بالحرب التحريرية:
كم لنا ثورات تدفع عن وطنا من جيوش الترك وجيوش الارامه
يارفيع الشان حلمك يوسعنا تنصر جيوش العروبه بالختامه
وعندما أعلنت حرب تشرين الأول عام 1973، كتبت قصائد مفعمة بالعنفوان لا تزال تُحيي في قلوب أهل سوريا وأهل السويداء الحس الوطني العالي والفخر، وقد قدمت السويداء الكثير من الشهداء في هذه الحرب التي مثلت لهم عند قيامها الانتصار الأول بعد انتصاراتهم على الفرنسيين: وفي هذا يقول الشاعر سلمان نفاع الأهزوجة المعروفة جداً والتي تكررت كثيراً في كل مناسبات السويداء:
وطـــنـــا حـــنــا فــدوى لـك حنـا بتشرين قدمـــنـالــك ضــحـــايـــا
علــمــهــم شـــالــوا وشكوا علمنا
وحين نزلت القوات الامريكية والحليفة في الخليج العربي وهو ما شكل صدمةً في قلوب أبناء جبل العرب وذكرّهم بنكسة 1967 مثلما شكل صدمة في قلوب العالم العربي، قال الشاعر المجاهد زيد الأطرش:
كثرت مصايب عصرنا ياعيسى واحتار فكري كيف بدي قيسا
فكري يوجهني نحو شط العرب وبظن من هوني بدا تأسيسا
ليجيبه الشاعر المسيحي ابن السويداء الأستاذ عيسى عصفور، حيث أن الحوار الشعري كان دائماً ما يقوم بينهما وكانت تجمعهم وطنيتهم وعروبتهم دائماً:
يازيد دونك مرحبا من عيسى كبر الجبل لو توزنه وتقيسا
عطرتها بطيب القريّا وريحها وصلى عليها شيخها وقسيسا
وفي قصيدة عن مجدل شمس، التي تشكل جرحاً في وجدان أبناء الجبل، يقول الشاعر محمد شجاع:
من بقعاثا ومجدل شمس نور و ساطع مثل الشمس
سوريا ام الجولان وللجيش الصهيوني رمس
أكثر القصائد انتشاراً هي جوفية الشاعر الراحل سلمان كنج نفاع الذي عُرف بجمال تراكيبه الوصفية وقدرته على صنعة الشعر الشعبي صحيح الوزن والقافية نظمت عام 1976 بمناسبة عرس ابن ابنه، إذ اعتاد جبل العرب على ترديد الجوفيات الوطنية في الأعراس:
بالروح نفدي وطنا لوصاح صوت المنادي بالروح نفدي وطنا
بشرعنا الموت سنا يا مرحبا بالشهادي بشرعنا الموت سنا
بزنودنا وبعملنا صرحك سوريا نشيدا بزنودنا وبعملنا.
أما الحدث الذي جاء بعد ذلك وأثر في الأغنية الشعبية الثورية في السويداء كان موت سلطان باشا الأطرش عام 1982، وقد كتبت في رحيله العديد من القصائد التي جاءت رداً على تهميش نظام الأسد لدوره في تحرير سوريا مثل:
طارت طيارة بالسما العالي شالت بنعشك يا بو طلال
تسلم يمينك نواف غزالي أخذت بثار الجبل يا عيونا
وألقت الشاعرة سيطا الدالي قصيدة في المناسبة نفسها، وهي من كانت شاعرة شعبية ومؤلفة ومؤدية للغناء الشعبي وخاصة للرثاء، وقد حققت حضورا في الساحة الشعبية وتم تشجيعها لأنها امرأة قوية وجريئة:
"الكفر والمزرعة تشكرك يا بي الموحدين يا أعظم ملك
كل الدنيا وأفرادها والفلك أزروا بعزاك الله يرحمك
يا جيد يا جويد يا طاهر يا تقي يا جوهرة صافية من معدن نقي
سلطان باشا الله يرحمك وبجنة الفردوس ان شاء الله نلتقي"
الأغنية الشعبية في السويداء ما بين رحيل سلطان الأطرش وانفجار الحراك ضد بشار الأسد
وفي الفترة ما بين رحيل سلطان الأطرش وانفجار الحراك الشعبي ضد بشار الأسد ظهرت أصوات جديدة ألفت وغنت الشعر الشعبي مستفيدة ومجددة في التراث الموسيقي واللفظي، مثل الشاعر باسم عمرو أغنيته المعروفة: "خلقت لأهل السويدا" التي غناها المغني الشعبي مفيد طحطح
خلقت لاهل السويدا الفزعات والحرايب ومدرعات العدا خليناها حطايب
عالمزرعة انتخينا فوق سروج النجايب يالوطن حنا حماتك من الرضيع للشايب
ولعل الفنان الملتزم المعروف سميح شقير ابن القريا كان من أول وأهم هذه الأصوات التي اتسمت بتقديم منجزٍ كامل من الغناء الجاد حيث تناول الوطنية السورية والفلسطينية والعربية بعمق وبخطٍّ يساري تحرري، مجابهاً ديكتاتورية نظام حافظ الأسد القمعي ومحوها لتاريخ السوريين الثوري. لا يمكن لأحد ألا يلحظ تأثير بيئة جبل العرب المتأثرة بدورها بالبيئة البدوية، في موسيقى ومفردات اغاني سميح الشعبية ومنها أغنية لو يوم تنادينا:
جولة موسيقيّة في "سوريا الصغيرة"
12 آذار 2021
لو يوم تنادينا يا الوطن والصوت يرد تلقانا ع حودك بالسلاح ال ما يصد
يوم نلقى العدو ما نهابه مهما ما حشد حريتك دمنا يل ما نستغني أبد
ثم جاءت أغنية يا الجولان التي مثلت صرخة وندهة للجولان السوري المحتل وحفرت في الوجدان السوري بشكل عام، ووجدان أهل الجبل بشكل خاص:
يالجولان ويللي ما تهون علينا رداداينك من ايد المحتل انطرينا
مجدل شمس ويا غزتنا وأخبارك يا ما هزتنا
يللي ما ارضيتي الهوية إلا عربية سورية حرة ما ترضى الهوانا
بعد ذلك جاءت أغنية "من القريّا" وهي الأغنية التي أرخت لأهم مرحلة في تاريخ جبل العرب حيث تناولت قيادة القريا المتمثلة بشخصية سلطان الأطرش للثورة السورية الكبرى، كما أنها وثّقت مشاركة جميع المدن السورية في هذه الثورة، وأكدت أنه لا الأسد ولا أحد يستطيع أن يمحو هذا التاريخ/ وقد غناها حراك السويداء: وفيها اسناد لقصيدة زيد الأطرش:
ومن القريا سمعت سوريا صوتك يا سلطان ينادي علينا
"تربة وطنا وما نبيعها بالذهب دم الأعادي نجبلو بترابها "
ولا يمكننا أن نستبعد من بحثنا هذا أغاني الصوت المميز والمتفرد فهد بلان، حيث اتكأت الكثير من أغانيه وخاصة الوطنية منها على الموروث الشعبي في السويداء من حيث الكلمات التي ألفها الشاعر الشعبي المسيحي سعدو الذيب والموسيقى المأخوذة من التراث الجبلي، ومنها أغنية:
غالي علينا يا جبل غالي بربعك غالي فارس أنا وابن الوطن وراكب الخيالي
ولدينا أيضاً في هذا السياق، أغنية فهد بلان المشهورة التي يغنيها الجنوب السوري بأكمله "يوم على يوم" حيث تحيي هذه الأغنية السويداء أو جبل حوران بكل معالمه الثقافية الاجتماعية، مثلما تحيي درعا أي سهل حوران:
يوم على يوم لو طالت الفرقه ما انسيت أنا يوم ما انسيت أنا الرفقه
عالبال بعدك يا جبل حوران شرشف قصب ومطرز بنيسان
الأغنية الشعبية في السويداء بعد اندلاع ثورة 2011
وبعد اندلاع ثورة 2011 ضد بشار الأسد، واكب الجبل هذه الثورة منذ أيامها الأولى وقد كانت أغنية يا حيف لسميح شقير في آذار 2011 والتي حاكت بمفردات الموروث الشعبي لجنوب سوريا أي لدرعا والسويداء، هي أول أغنية تصف عنف الأسد ضد أولى المظاهرات في درعا وتعرّي خوفه من الحرية وقد تحولت هذه الأغنية إلى أيقونةٍ للثورة السورية:
زخ رصاص على الناس العزل يا حيف وولاد بعمر الورد تعتقلن كيف
وانت بن بلادي تقتل بولادي وظهرك للعادي وعليي هاجم بالسيف
وفي السنوات الأربع عشرة التي تصاعدت فيها ثورة السوريين ضد الأسد مثلما تصاعدت وتيرة غربتهم، لذا فقد تمّ في هذه الفترة إحياء أغاني الغربة والحنين الشعبية في السويداء خاصة بعد نزوح ولجوء ملايين من الشعب السوري، وأشهر هذه الأغاني كانت أغنية يا ديرتي المعروفة والمنتشرة للشاعر هايل السلمان والتي غناها على الربابة الفنان يحيى القنطار، كما أعاد غناءها الفنان المعاصر حمزة نمرة:
يا ديرتي يا ديرتي وداعا يا حبيبيتي
إلى اللقى يا زنبقة لولا الشقا ما اتطول عنك غيبتي
ولدينا أيضا الأغنية المشهورة التي تعتبر من أشهر أغاني تراث الجبل وهي من نوع الهولية، وتغنى في كل الأعراس والمناسبات وقد تجدد غناؤها بعد هجرة الكثير من شباب السويداء هرباً من الانضمام لجيش الأسد، أو هرباً من ملاحقته:
لاكتب ورق وارسلك يللي مفارق خلك
اندلاع الحراك الشعبي الزخم في السويداء
منذ اندلاع الحراك الشعبي في السويداء صيف 2022 تحولت ساحة الكرامة إلى عرسٍ شعبيّ ثوري غنيت فيه معظم أهازيج الثورات التي عاشتها محافظة السويداء، حيث جدد الحراك في السويداء الأمل في نفوس أهلها وأعاد الاحساس الثوري والوطني لديهم، مذكرا إياهم بتاريخهم وانتصاراتهم على كل معتدٍ وأهم هذه الأهازيج كانت أهزوجة:
الروزانا... مجاعة، وسفينة، وأغنية شعبية عبرت الحدود
12 شباط 2021
"وطنا حنا فدوىى لك حنا بتشرين قدمنا لك ضحايا
تعرف أغنية الشاعر ممدوح ريدان ذات اللحن الطربي المميز كأهم أغاني التراث الشعبي لمدينة السويداء، وقد غناها الفنان مروان الجرمقاني وآخرون:
راياتنا فوق الجبال الشم منصوبه وخيولها تسابق الريح بيوم الطراد
وبالإضافة إلى إحياء الأغاني الوطنية الثورية القديمة مثلما فعلت الفنانة ميس حرب، أفرز حراك السويداء أغانيه الشعبية الجديدة التي حملت إحساس النشوة باندلاع الحراك الجماهيري الواسع فيها بعد أن تعرضت مدن سوريا لأنواع القصف والابادة، مثل أغنية سميح شقير:
"قامت السويدا حقا قامت"، وفي السياق ذاته وبعد استمرار الحراك واتساع رقعته وشعبيته، جاءت أغنية سميح شقير الثورية الحماسية واسعة الانتشار:
كل ما نويت تقدر يا شعبي يا صاحب الهمات عـ صخرك العادي الظلم يتكسر
وبعدها وفي الأشهر الأخيرة للحراك، قدم سميح شقير وابنة السويداء ومغنية الأوبرا لبانة القنطار أغنية:
ساحة كرامة تموج بولاد البلد تهتف بأعلى الصوت سوريا لينا لينا وأرضنا وعز السند
كما غنت ساحة الكرامة أيضا أغنية "وحياة كل شي" للفنانة ليندا الأحمد من كلمات الفنان رافي وهبي ابن السويداء التي حاكت ثورة كل المدن السورية وكتبت لحراك السويداء:
وحياة السود حجارها وجبل العرب زنارها
ولمعرفة حجم العلاقة بين الموروث الشعبي في السويداء ومثيله في درعا كبير، تجدر الاشارة إلى أن أغنية حراك السويداء الأساسية: "ان صاح الصايح طب الأسد خوف"، تعود بجذورها لتراث محافظة درعا، جارة السويداء.
وعند سقوط الأسد في نهاية 2025 واكبت الأغنية الشعبية في السويداء مثلها مثل جميع المدن السورية، هذه المعجزة وانفجرت ساحتها بالأهازيج، وأُلّفت أغاني جديدة مثل أغنية الفنان زياد حرب ابن السويداء:
واتدللي واتمايلي وتزيني وتشنشلي وزفي هالفرحة لكل الدني
وكلما عاد أحد رجالات النضال ضد بشار الأسد إلى سوريا بعد منفاه القسري كان يزور ساحة الكرامة فتشتعل بالأغاني الشعبية الثورية التي تسبق دخول كل وفد، مثل أغنية حنا يوم لافينا للشاعر الشهيد معذى المغوش التي كتبت عام 1918 والتي أشرنا إليها في بداية البحث، حيث عدلت تبعاً للوضع الجديد:
ما نتخلى يا سويدا بالذهب ما نبادل
هذا منّا يمينا طالب فلاح وعامل
بعد مجزرة السويداء 14 تموز 2025
أصابت المجزرة الحاصلة ما بين 14 و19 تموز 2025 قلب المحافظة وهويتها الوطنية التي بقيت تبنيها طوال 120 سنة. وكان رد الفعل الشعبي الأول هو التحول من حالة الغناء الشعبي الوطني المليء بالعز والفخر إلى غناء آخر له ملامح الفقد والوجع والخذلان، فالمدينة التي كانت تعيش بأغانيها الثورية، صارت تدفن أبناءها وتقيم في كل بيت مجلس عزاء، وتعيش عبر أغاني النواح المفجوع التي جاءت بمعظمها باللهجة المحلية بعيدة عن اللهجة البدوية التي اتسمت بها الأغاني الثورية:
يا سويدا ويا حزيني شو جرالك خبريني
خذلان جارك وقتل ولادك يا كسرة قلبي وأنيني
كما ناحت السويداء بقصيدة أخرى على ضحايا بلدة المزرعة ذاتها التي كان تمثال معركتها مع الفرنسيين يشهد عند مدخلها منذ مئة عام على بسالة أبنائها، والتي قُتل سكانها وأحرقت ونهبت كل بيوتها في المجزرة الأخيرة ولا يزال أهلها حتى اليوم غير قادرين على العودة إليها:
يا سويدا دموعك سخايا ع الشباب وعالصبايا
الأم بتصرخ وين ابني لا تقولوا بين الضحايا
كما استخدمت بعض أغاني الحب الشعبية الحزينة التابعة لتراث الجبل لمحاكاة وجع السويداء وصمتها، مثل أغنية سكوتك قتلني للشاعر المجاهد معذى المغوش:
سكوتك قتلني وعيونك كلا حكي بحياة ربك بس قوليلي شو بكي
وفي هذا السياق، أقامت بعض المدارس فعاليات تأبين لأطفالها، حيث غنّى طلاب مدرسة ميس الخاصة، رفاق الشهيد صالح عكوان ابن الأربعة عشر عاماً، في حفل تأبينه قبل أسبوع:
وابكينا لعشرتك يا صالح وارثينا واشكينا دنيا البقى ما دام يوسف فينا
"مع السلامة لو نويت تروح مع السلامة يا أغلى من الروح
مع السلامه مع السلامة حسرة وندامة من بعدك الروح
وبعد انقضاء حوالي الشهر على صدمة المجزرة الصاعقة في وجدان أهل السويداء وفي وجودهم كله، عادت إلى الظهور قصائد فيها نوع من التحدي ومن استنهاضٍ لعدم الاستسلام، فجاء شكل نواحٍ جديد مثل:
إشكالية الأغنية المحايدة
14 تموز 2018
يا سويدا رجالك زفينا لوحنا لهم ب أيدينا
دم رجالك ما بنتسى للموت دين علينا
وصل الخبر علينا استشهد ربع الحمية
خلوا الدمع بعيننا مع رفع المعنوية
كما ظهرت قصائد شعبية جديدة خاصة تعري ثقافة استخدام المقص لحلق شوارب الشيوخ بهدف الإهانة بعدما كانت هذه الشوارب تمثل الفخر لأبناء الجبل، وذلك مثل قصيدة الشاعر الشعبي باسم عمرو :
شعر الشوارب يا ردي الساس مخلوف والسيف في غمده به الصمت هيبة
قطعان تنغل تملي الأرض بالخوف تسرق وتحرق بالمواد الرهيبة.
الشعر الشعبي في السويداء تبعاً لنوعه وموسيقاه
في حين كان للتراث البدوي الأثر الأكبر في الشعر الشعبي في السويداء بحكم مجاورتها لمحافظة درعا والبادية السورية وشمالي الأردن، لا يمكن أبداً فصل التراث الشعبي للسويداء عن تراث درعا فكلاهما مفعم بالإحساس العالي والعاطفية والقدرة على التأثير. تأثير تراث لبنان وفلسطين وشمال سوريا واضح أيضاً بسبب قدوم الموحدين الدروز من هذه الأماكن إلى السويداء، كما في أغاني الحب مثل الأغنية المعروفة محبوب قلبك بالهوا سميتي، وأغنية بس احكيني،اللتين كتبهما الشاعر المجاهد الشهيد معذى المغوش، وقد أعادت الفنانة ميس حرب إحياء هذه الأغاني.
وهذا الشعر من الفنون البدوية أو الزجلية، هو شعر غنائي، فجميع قصائده تغنى ولها أوزان تتطابق مع بحور الشعر المعروفة عند العرب، فلكلّ فنٍّ وزنه الخاص، ومن أشهر أنواع الفنون البدوية –الشروق –الجوفية –الهجينة –الحداء –السحجة، أما أشهر الفنون الزجلية في تراث السويداء فهي: المطلوع -الفن-العتابا-الهولية والقليل جدا من الميجانا، و أكثر هذه الأنواع انتشاراً وأشهرها:
الشروقي، وهو نوعان: يغنى على الربابة وآلات موسيقية أخرى وكلمة الشروقي تنسب إلى شرق الأردن ويأتي وزنه على البحر الخفيف مثل قصيدة جاد الله سلام:
ما لوم عيني لو بكت دمعها دم ما لومها لو طولت بسهرها
تبكي على اللي فارقوا الدار يا عم ومن البكا كان زاغ عنها نظرها
أما الجوفية فهي فنٌّ شعري من الفنون البدوية له طبيعة غنائية خاصة، متعدد الأوزان، ويُنسب هذا الفن إلى منطقة الجوف في السعودية وقد انتقل إلى الجبل بواسطة العلاقات التجارية والرعوية بينهما، ويغنى كثيراً في الأردن ودرعا وأوزانه على بحر الرجز مثل قول الشاعر صالح عمار:
يالله ويلي حاجزا موج البحر يا خالقي إليا دعينا تسمعي
الهجينة وهي مأخوذة من كلمة الهجن أي الإبل مثل قول الشاعر المجاهد جاد الله سلام:
هيه يلي راكبين على السلايل فوق ضمر يم طربا ناحرينه
سلموا ع ربوعنا وقولوا لهايل بالسويدا بثارنا حنا خذينا
الحداء وهو فنٌّ شعري غنائي طربي حماسي يمتاز بالمدّ الصوتي مثل قول الشاعر فندي المتني عند وصوله ومجموعة من المقاتلين إلى أطراف بلدة عرمان بعد معركة الخراب، ومشاهدة والدة الشهيد عجاج الجرمقاني تنتظر وحيدها فاستقبلته شهيداً، إذ قال :
يمّ الوحيد وابكي عليه والموت ما يرحم حدا لابد ما تنعي عليـــــه إن كان اليوم ولاّ غدا
بالروح ما بخلنا عليه نفديه لــــو صح الفدا الثار ما نمنا عليــــــه بثاره خذينا من العدا
ومثل قول الشاعر المجاهد زيد الأطرش في أغنية أسمهان المعروفة:
يا ديرتي مالك علينا لوم لا تعتبي لومك على من خان
أما السحجة فهو فنّ شعري بدوي قصصي سريع ورشيق له طابع تمثيلي يغنّى في الأعراس تؤديه مجموعة كبيرة من الرجال يصطفون بشكل دائري، ويتم التصفيق بحماس بينهم.
المطلوع هو فنّ زجلي شبيه بالموشح له مطلع ثم القفل والأغصان والخرجة.
الفن من الفنون الزجلية الشهيرة في الجبل، ويكاد أن يكون أشهرها، ويتفرد به أهل الجبل، إذ لا ذكر له عند غيرهم. مثل قصيدة الشاعرة سمره الحناوي، لابنها المغترب سليم بعنوان ..ياكوكب السيار، التي اشتهرت في سبعينيات القرن الماضي، والتي تدل على تقدير جبل العرب للمرأة كشاعرة مثلها مثل الرجل:
طاب جرحي بي لقاكم يا نديم قد هجرت النوح لأجلك والنديم.
وفي الختام، نجد أنه لا يمكن فصل الوعاء المعرفي الحسي الذي يتمثل في التراث الشعبي بين المحافظتين الجارتين درعا والسويداء، فنشيد ساحة الكرامة الأول هو نشيد درعاوي أصيل، وفيها غنى كل من أبو وطن وأحمد القصيم منشدا الثورة في درعا. لن تنفصل جوفية درعا عن جوفية السويداء ولا هيجنة السويداء عن هيجنة درعا، وما بنته السويداء طيلة مئة وخمسين عاماً من الوطنية قادر ٌعلى محو المسافة بين مدينة كانت تعيش في أغانيها الشعبية الثورية، ومدينة تعيش الآن بكل ما فيها بالنواح.









