يواجه الغطاء النباتي المتنوع والغني في الساحل السوري، وتحديداً في محافظتي اللاذقية وطرطوس، الواقعتين على حدود سوريا الساحلية مع البحر المتوسط، تحديات جسيمة نتيجة للتغيرات المناخية والحروب المستمرة التي التهمت البلاد منذ أكثر من عقد، تاركةً آثاراً يصعب تعويضها في فترة زمنية قادمة دون وجود برامج تنموية وزراعية على مستوى وطني.
ومع التغير السياسي الحاصل حاليًا في البلاد نحن أمام مزيد من التحديات الناتجة عن غياب شبه كلي لوقود التدفئة حيث تم توثيق قطع مئات الأشجار من محيط المدن وبقايا غابات في الأرياف بما في ذلك الصناعية منها. ولم تسجل أية تصريحات للإدارة الجديدة، متعلقة بهذا الجانب.
تشير البيانات الدولية إلى انخفاض المساحات الخضراء في سوريا بحدود 30% خلال العقد الماضي، أمر تؤكده أيضًا صور الأقمار الصناعية، ما يعكس حجم الكارثة البيئية التي يعاني منها الساحل السوري. ويأتي هذا نتيجة الحرق أو التجريف أو القطع، ما يضر التنوع البيولوجي، ويؤثر أيضًا على جودة الهواء والمياه وإمكانية التعويض.
ترافقت هذه الممارسات مع تغييرات ملحوظة في أنماط الأمطار وارتفاع درجات الحرارة، حيث شهدت درجات الحرارة في الساحل السوري ارتفاعًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة بمعدل 1.5 درجة تقريبًا، ما أدى إلى إجهاد النباتات عمومًا والأشجار بشكل خاص، حيث تصبح غير قادرة على التكيف مع الظروف المناخية الجديدة مما ساهم في انحسار الغطاء النباتي وقدرة هذا الغطاء على التعويض الذاتي، وترك تأثيرًا سلبيًا على الأنظمة البيئية المحلية.
إلى ذلك، شهد الساحل السوري في السنوات الأخيرة زيادة في حدّة الظواهر المناخية مثل العواصف والأعاصير كعاصفة العام 2023 التي سببت دمارًا كبيرًا في الغطاء النباتي وخصوصاً الأراضي الزراعية والمحميات. فاقتلعت الرياح القوية الأشجار ودمرت الموائل الطبيعية في منطقة بانياس والمنطار في طرطوس والشاطئ الأزرق في اللاذقية، ناهيك عن أضرار في جبال الساحل لم تحص بدقة.
حرائق الغابات
يعد التغير المناخي عاملًا أساسيًا وراء ما يحدث للغابات في الساحل السوري، إلا أنّ أسوأ حدث بيئي تعرضت له الغابات هي الحرائق التي تعد من النتائج المباشرة للفعل البشري.
طالت الحرائق أكثر من ثمانين موقعًا على امتداد الساحل السوري، من جبال حمص الغربية (مشتى الحلو)، إلى شمال البسيط (جبل تشالما وكسب والبدروسية)، خلال شهري الجفاف (تشرين الأول والثاني/أكتوبر ونوفمبر)، ما أدى لخسارة آلاف من أشجار الزيتون والتفاح. كما قدرت مديرية زراعة حمص المساحات المتضررة من الحرائق التي اندلعت في الريف الغربي للمحافظة مؤخراً بنحو 4741 دونماً زراعياً (الدونم=0.001 كيلومتر مربع) و20 حراجياً (منطقة غابات مزروعة) وفق ما نقل عن تصريح لمدير زراعة حمص لإذاعة شام إف إم المحلية.
كما احترقت أنواع حراجية هي بقية الغطاء النباتي الأساسي (مثل صنوبريات منطقة كسب شمال اللاذقية). وفق مديريات الزراعة المحلية، نتج عن هذه الحرائق خسارة عدد من الكائنات الحية موائلها الطبيعية الطيور والسلاحف والقطط والثعالب، والحشرات مثل النحل والدبابير واليعاسيب.
تؤثر الحرائق على غطاء سوريا النباتي على المدى الطويل، فقد تؤدي التغيرات المستمرة في المناخ الناتجة عن الحرائق والأفعال البشرية بالتوازي مع تغيرات دائمة في التركيبة النباتية للمنطقة، مما قد يغير من النظام البيئي بالكامل، وبالتالي يغيّر أوضاع التجمعات البشرية في المنطقة ويدفع بعضها للهجرة نحو أماكن أخرى. هذا ما حدث عدة مرات في بعض القرى في منطقة كسب شمال اللاذقية التي نزحت إلى مدينة اللاذقية، بحسب مصادر محلية من سكان المنطقة.
جغرافية الغابات المهدورة
تعد سوريا بلدًا فقيرًا بالغابات الطبيعية، وقد شهدت خلال القرن الماضي تناقصاً في مساحة الأحراج فيها من نحو ثلث مساحة البلاد في مطلع القرن العشرين إلى ما يقرب من 2.8% العام 2012 نتيجة عوامل مختلفة من التحريق والتحطيب والرعي الجائر والنمو السكاني وعمليات التوسع العمراني، وفق مصادر دولية.
وبلغت مساحة الغابات في سوريا في العام 2012 وفق مصادر رسمية 503 آلاف هكتار (هكتار= 0.01 كيلومتر مربع)، توزعت على 233 ألف هكتار غابات طبيعية وأحراج جبلية، و270 ألف هكتار تحريج اصطناعي، فيما أعلنت وزارة الزراعة عن عدد من المحميات الطبيعية بلغت مساحتها حتى العام 2012 حوالي 167 ألف هكتار (36% من مساحة الغابات ككل). ويقع 76% من الأراضي الحراجية في الجبال الساحلية بسبب درجات الحرارة الأكثر برودة وهطول الأمطار والطبيعة الجبلية المتنوعة.
اليوم، ووفق مرصد الحرائق الدولي فإنّ الباقي من هذه المساحات لا يتجاوز 0.62% من مساحة الغابات المعلنة العام 2012، أي أن هناك خسارة لا تقل عن ثلثي هذه المساحات.
وفي ظل إدراك أنّ البقية الباقية من هذه الـ 0.62% تتعرض لعمليات التقطيع والتحريق والتجريف بحجج بعضها منطقي، كغياب مازوت التدفئة، وبعضها نابع من قلّة الوعي البشري بأهمية الأحراش والغابات، فإنّ التفكير غير التقليدي هو وحده الكفيل بالخروج من هذه الدوامة المستمرة منذ ٢٠١١.
وقد يكون ذلك عبر ابتكار طرق جديدة أحدها وأهمها التشبيك مع المجتمعات المحلية وتسليمها جزءًا من سلطة الرعاية على الأحراج عبر برامج تنموية مشتركة بين الناس والحكومة وجمعيات المجتمع المدني.
مشاكل إضافية
توجد تحديات قد تعرقل الجهود الرامية إلى الاستثمار في حماية الغطاء النباتي السوري وإعادة تأهيله، منها، النزاعات المستمرة والأوضاع غير المستقرة في البلاد منذ 2011، وضعف كفاءة الأجهزة المرتبطة بحماية الغابات.
ويعد اتباع الطرق التقليدية في مراقبة الغابات باهظة التكلفة، وتتطلب موارد كبيرة، وغالبها يتعرض للهدر والسرقة، وغالبًا ما أثبتت هذه الأساليب فشلها في ملاحظة أو الحد من حرائق الغابات ساعة وقوعها، أمام تغوّل عصابات الأخشاب والفحم المدعومة أمنيًا وعسكريًا، خلال سيطرة النظام السابق.
ويعد اتباع الطرق التقليدية في مراقبة الغابات باهظة التكلفة، وتتطلب موارد كبيرة، وغالبها يتعرض للهدر والسرقة، وغالبًا ما أثبتت هذه الأساليب فشلها في ملاحظة أو الحد من حرائق الغابات ساعة وقوعها، أمام تغوّل عصابات الأخشاب والفحم المدعومة أمنيًا وعسكريًا، خلال سيطرة النظام السابق.
وكان من أسباب صعوبة الاستثمار في مكافحة الحرائق في غابات سوريا، عدم وجود استراتيجيات واضحة ومعلنة ومتكاملة لإدارة الغابات أو ضعف هذه الاستراتيجيات وارتكازها على الأنماط التقليدية في الإدارة، خلال عهد النظام السابق، الأمر الذي كان يؤدي إلى عدم توجيه الجهود بشكل صحيح نحو الوقاية من الحرائق وإعادة تأهيل المناطق المتضررة، وبالتالي ضياع الجهود المبذولة من قبل أفراد مهتمين بهذا القطاع.
كما كانت الفوضى الإدارية وفساد القطاع العام في سوريا تساهم بتفشي هذه المشكلة، حيث تُهدر الموارد المالية على مشاريع غير فعالة أو تُخصص لأغراض غير متعلقة بحماية الغابات (نفق مروري في العاصمة لا يحل مشكلة الازدحام، لكن مع ذلك يصرف عليه المليارات). وبالتالي، فإن غياب الرؤية الاستراتيجية والتنسيق بين الجهات المعنية كان يزيد من تعقيد جهود الاستثمار في حماية الغابات ويؤدي إلى تفاقم أضرار الحرائق.
الأثر على المحميات
تضم اللاذقية عددًا من المحميات الطبيعية التي تحتضن أنواعًا نادرة من النباتات والحيوانات منها محمية "جبل الأكراد" ومحمية "الحميدية"، والتي تعتبر موطنًا لمجموعة متنوعة من الأنواع النباتية والحيوانية، ومع ذلك، فإن هذه المحميات تواجه تحديات جسيمة أدت إلى تدهور حالتها في السنوات الأخيرة.
يعود هذا التدهور لأسباب عدة، منها الزيادة الملحوظة في التوسع العمراني، بالإضافة إلى معاناة المحميات في اللاذقية من التلوث الصناعي الناتج عن المصانع والنشاطات الزراعية، مما ينعكس على المحميات وتنوعها النباتي خصوصًا مع غياب العناية الكافية بهذه المحميات والاهتمام المحلي والحكومي.
وأدى تدهور المحميات في اللاذقية إلى انقراض العديد من الأنواع المحلية، مما هدد التوازن البيئي في المدينة وقلل من قدرة النظم البيئية على التعافي.
وباعتبار اللاذقية مدينة زراعية، يعتمد العديد من السكان المحليين على الموارد الطبيعية في المحميات في كسب عيشهم. تدهور هذه الموارد أدى إلى زيادة معدلات الفقر لدى هؤلاء السكان.
كما تسببت النزاعات المسلحة في تدمير البيئة بشكل غير مسبوق. فقد أدت الحرب الطويلة في سوريا إلى تدمير المحميات الطبيعية والغابات، مما ساهم في تفاقم أزمة انحسار الغطاء النباتي. في شهادات أدلى بها سكان محليون، أشاروا إلى أن العمليات العسكرية والاشتباكات قد أدت إلى إضرام النار في الغابات، مما أسفر عن فقدان أنواع نباتية فريدة.
في المناطق التي شهدت نزاعات مستمرة في اللاذقية، وخصوصًا الأرياف، ومن خلال تحليل الوضع في اللاذقية، يمكن ملاحظة كيف أثرت الصراعات على النظام البيئي والغطاء النباتي.
أدت النزاعات المسلحة إلى تدمير واسع للموارد الطبيعية، ووفقًا لتقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة، فإن النزاعات المسلحة في سوريا أدت إلى تدهور البيئة بشكل كبير، حيث تتعرض الأراضي للانفجارات والتلوث، وغيرها من آثار الحروب.
تشير دراسة نشرت في مجلة "Environmental Science Policy" إلى أن النزاعات تؤدي إلى استنزاف الموارد الطبيعية بشكل غير مستدام، مما يهدد التنوع البيولوجي ويقلل من قدرة النظام البيئي على التعافي. كما أدت الحرب إلى نزوح العديد من السكان من مناطقهم الأصلية، مما أثر على الممارسات الزراعية التقليدية. هذا النزوح أدى إلى ترك الأراضي دون رعاية، مما تسبب في تراجع الأراضي الزراعية وتعرضها للحرائق والتخريب.
وتسهم الصراعات المسلحة بشكل واضح في زيادة خطر اندلاع الحرائق، سواء نتيجة للاشتباكات العسكرية أو الإهمال الناتج عن النزوح.
وعلى الرغم من غياب المبادرات المحلية الفعالة، إلا أن هناك حاجة ملحة لرفع الوعي حول أهمية الحفاظ على البيئة. يجب أن تكون هناك استراتيجيات واضحة تتضمن التعاون بين المجتمع الدولي والمجتمعات المحلية لحماية ما تبقى من الغطاء النباتي. التعليم والتوعية البيئية يلعبان دورًا حاسمًا في هذه الجهود.
هذا يعني أنّ مختلف المؤسسات مسؤولة عن سلامة أحوال الغابات: الكهرباء والبلديات والزراعة والنقل وغيرها. وفي هذه النقطة بالتحديد تكمن أولى وأهم مشاكل غاباتنا: تعدد المسؤوليات، حيث يسهل تقاذف وتبادل الاتهامات بالتقصير والفساد بين مختلف الجهات ذات الولاية.
ينص قانون الحراج السوري ، الصادر خلال عهد نظام الأسد، على أن: «الجهة صاحبة الولاية على مواردها في حراج الدولة تتحمل مسؤولية تنظيف محيط مواردها». هذا يعني أنّ مختلف المؤسسات مسؤولة عن سلامة أحوال الغابات: الكهرباء والبلديات والزراعة والنقل وغيرها. وفي هذه النقطة بالتحديد تكمن أولى وأهم مشاكل غاباتنا: تعدد المسؤوليات، حيث يسهل تقاذف وتبادل الاتهامات بالتقصير والفساد بين مختلف الجهات ذات الولاية.
مع استمرار التغيرات المناخية والحروب، تواجه جهود الحفاظ على الغطاء النباتي تحديات كبيرة. يتطلب الأمر تعاونًا دوليًا حقيقيًا لمواجهة هذه الأزمات. إن حماية البيئة ليست مجرد مسؤولية محلية، بل هي قضية عالمية تتطلب جهودًا مشتركة.