زلزال سورية أو فشل الدولة والهوية

معارك الإله السماوية


(تبدأ حكاية ما انحكت سلسلة تقديم قراءات ونقاشات ونقد.. حول كتب عن سورية والعالم العربي صدرت بلغات أجنبية. هنا المقال الأول ضمن هذه السلسلة، وهو قراءة في كتاب "الزلزال العربي: الأسباب الحقيقية للأزمة في الشرق الأدنى"، للباحث الألماني، راينر هيرمان، دار نشر: Klett-Cotta،  2018.)

04 نيسان 2019

(كتاب "الزلزال العربي: الأسباب الحقيقية للأزمة في الشرق الأدنى"، للباحث الألماني، راينر هيرمان، دار نشر: Klett-Cotta، 2018.)
حمّود حمّود

كاتب وباحث سوري، متخصص في الإسلاميات، يكتب وينشر في عدد من الصحف والمجلات والمواقع العربية، منها الحياة والمسبار. صدر له: "سورية والصعود الأصولي (حوار مع الكاتب عزيز العظمة)، دار الريس/ 2015، و "بحثا عن المقدس، البعث والأصولية" عن دار جداول عام 2014، إضافة إلى عدد من الترجمات.

(تبدأ حكاية ما انحكت سلسلة تقديم قراءات ونقاشات ونقد.. حول كتب عن سورية والعالم العربي صدرت بلغات أجنبية. هنا المقال الأول ضمن هذه السلسلة، وهو قراءة في كتاب "الزلزال العربي: الأسباب الحقيقية للأزمة في الشرق الأدنى"، للباحث الألماني، راينر هيرمان، دار نشر: Klett-Cotta،  2018.)

أنْ يتنفس زعماء البعث السوري اليوم هواهم القومي، ومعهم أصوليو سورية هواهم السني، من رئات طائفية إيرانية وسعودية تقع خارج حدود البعث والإسلام السوري، لا بل حتى من خارج استطالات الصراخ الأيديولوجي، الصراخ القومي والأصولي الذي أعياه اللهاث وراء مخيال أمة عربية أو إسلامية، لهو أمر يمكن القبض على بعض حيثياته، لا من خلال ما يحدث في سورية اليوم فحسب، بل أيضاً حينما رُسمت حدود "الجمهورية العربية السورية" ورود الفعل الأصولية والقومية على هذا الرسم. الحدث السوري اليوم يمثل بالفعل مفصلاً تاريخياً سيعيدنا، شئنا أم أبينا، إلى تلك اللحظات، أوائل القرن العشرين، حينما خطّ لنا قادة لندن وباريس بـ"مساعدة المسطرة" خطوطاً (على حد تعبير ميشائيل لودرز M. Lüders، الباحث السياسي الألماني. والدليل على دقة المسطرة هي أنّ معظم الخطوط الحدودية أنها خطوط مستقيمة أكثر من جداً) وأعادوا تكوين الجغرافية وقالوا لنا من ثم: هذه هي دولكم، بالطبع من غير حتى أنْ يلفت لأولئك القادة نظرٌ لمن يقطن وسيقطن هذه الحدود من طوائف وقوميات، لا بل حتى من غير استشارة لا لفيصل ولا لحسين.

بعيداً الآن عن تفاصيل الحيثيات الكولونيالية في رسم الجغرافيا تلك والآثار العميقة التي تركته في حطام خرائط المشرق، فإنّ الأمر الذي لا يمكن الجدل به هو أنّ تلك الخرائط، وبخاصة الخارطة السورية، لم تشكل في يوم ما محلّ إجماع لبعثيي سورية وأصولييها في أنْ تشكل بنيةً يمكن البناء عليها بهدف بناء دولة وهوية وطنية تنبع منها. وبالفعل، فإنّ الأمر الأشدّ مرارة كان يتمثل في أنّ قادة البعث والأصولية لم يكونوا يؤمنون بـ "معنى الدولة" في سورية. القفز إلى ما وراء سورية كان هو المرتجى على طول خطّ دعاية أدلوجة البعث والإسلاموية، سواء أتقفى هذا القفز أمةً عربية أم إسلامية. لقد لجأ القومي إلى ابتداع مفردة غريبة في تركيبتها ومدلولها كانت قد دخلت القاموس القومي لتغدو حالئذ من إحدى أهم المفردات وما سيشتق عنها أي: "القطرية"، لنخرج بنتائج عن قيام: "الكيان القطري"، "الدولة القطرية"...الخ. وطالما أنّ الدولة القطرية هي النتيجة المباشرة التي جرحت كيان القومي الوحدوي، فإنّ كل من "يؤمن" بشرعيتها فهو مؤمن بالتجزئة، وبالتالي بالمؤامرة، وبالتالي بالإمبريالية والاستعمار. وفي الحقيقة، لقد مثلت هذه الزاوية أحد مداخل القومي في "إدانة الدولة" وفكرة الدولة. وهكذا لتأخذ صيغ الإدانة ولتترجم عملياً في محاولة إسقاطها بأي ثمن ممكن وفي أي فرصة تحين للقومي. الاعتقاد الأسطوري بـ إحياء أمة "ما" والنضال من أجل وحدتها، كان يستبطن في جوهره اعتقاداً راسخاً يتمثل في "لامشروعية الدولة" السورية. إسقاط سورية كدولة، أو قل محاولة إسقاطها، هو بالفعل ما استبطن أدلوجة البعث وأشقائه من الإخوان الأصوليين.

 استخدام الطائفة، يتطلبه "استعداد بشري" هائل يؤمن بأنّ هذا الصراع في سورية هو صراع سني-شيعي يتخلله المطلب في حماية الطائفة وتوسعها؛ وهو بالفعل ما توفره خصوبة الطائفية السورية.

اليوم قد اكتمل السقوط حقاً. لكن بنفس الوقت لم يصاحب هذا السقوط تحقّق أحلام البعث في عودة أمتهم: فلا أمة قد تهيكلت ولا دولة قد تحققت. والحال، أنّ الذي عاد هم أشباح بأشباح، أشباح الطوائف والأصوليات، والتي خرجت من عمق البعث والإسلاموية. للأسف، فإنّ مثل هذا العمق بين ذينك الفضاءين لم ينل حظه إلى الآن من الدرس والنقد في معظم الدراسات التي تغطي الحدث السوري والعربي، وإنْ كانت هناك محاولات درسية تحاول استقراءه، لكن من غير تحليل البنية الداخلية الشائكة التي خرج من إهابها صوت الله وفشل الدولة. وهنا يمكن أنْ نضرب مثالاً على بعض من تلك المحاولات البحثية في رصد ماذا ولماذا حدث بالضبط ما كرته سبحة ربيع العرب من كشف لبعض ما تغطيه هياكل الدولة العربية، وبخاصة السورية. ما نقصده بالضبط هو درس الباحث الألماني راينر هيرمان R. Hermann في كتابه الأخير عن زلازل ربيع العرب: "الزلزال العربي: الأسباب الحقيقية للأزمة في الشرق الأدنى" («Arabisches Beben: Die wahren Gründe der Krise im Nahen Osten, Klett-Cotta, 2018.»)، وهو الأمر الذي سنلقي عليه سريعاً بعضاً من الضوء النقدي، وبخاصة فيما يتصل بفشل الدولة السورية، أو قل الواجهة التي كانت تسمي نفسها دولة.

صراع سعودي إيراني

لنؤكد أولاً بأنه إذا كانت هناك من فضيلة في هذا الدرس، فإنها تكمن بالضبط في إعادة تسليط الضوء أو قل إعادة كرة النقد إلى تحليل فشل بناء الدولة العربية في كل تجلياتها بعد الحرب العالمية الثانية، بغض النظر عن المنهج الدرسي والنتائج التي توصل إليها. فشل الدولة والفراغ الذي خلفه هذا الفشل، هو بالفعل ما يشكل عصباً رئيساً للكتاب، بل ولماذا وكيف تملأ الحركات الأصولية هذا الفراغ (ص 13، 32-33) بعد انهيار وهم حدود الدولة. إنه يخبرنا بالفعل عن كيفية ارتباط الحركات الأصولية بمشاريع إقليمية تقع خارج الدولة واندراج هذه بخاصة في أتون صراعات إقليمية بعيدة عن أي مشروع وطني سوري: حيث إرادة السعودية الجامحة، من خلال الوكلاء الأصوليين السنة، في تحرير سورية مما يسمى بـ"الهلال الشيعي" الذي يصل من طهران عبر بغداد إلى بيروت، واستخدام من ثمّ حكومة تابعة سنية في دمشق، في حين تقابلها الإرادة التوسعية القاتلة الإيرانية، أيضاً عبر السادة الطائفيين في دمشق، في الحفاظ على الوصول إلى لبنان عبر سورية ومن ثم إلى المتوسط، طبعاً تحت يافطة تكتل "الممانعة والمقاومة". لهذا يخبرنا هيرمان أنّ القوة التي ستكسب المعركة، من بين هاتين القوتين، هي من سيحدد النظام في الشرق الأوسط، وبالطبع من خلال الأرض السورية ومعارك الإله فيها: "السعودية أو إيران" (قارن ص80).

معارك الإله السماوية!

معارك الإله السماوية تلك هي أيضاً معارك طوائفه على الأرض؛ حيث تحتل المسألة الطائفية فيها ربما البعد الأهم في التعبئة لها وتحريكها (قارن ص110)، وذلك بالضبط بسبب طبيعتها المنفلتة من عقال الدولة والجغرافية والقفز فوقها، بعكس الطبيعة الوطنية التي تنضبط بالدولة. ليس من الغريب إذاً، فقد غدا صراع هاتين القوتين صراعاً دينياً وجودياً في سورية، وذلك في محاولة كل طرف، من طريق الطائفية، احتلال قمة الشرعية في العالم الإسلامي وحرمان الآخر منها (قارن ص111). من هنا يمكن أنْ نقرأ أهمية هذا العامل، عامل الطائفية، من بين عوامل أخرى، في "إعادة الأسلمة في الوقت الحاضر" (ص112). وهذا العامل بالضبط (وهو ما يحسب للكاتب في لفت النظر إليه) هو ما يغيب عن كثير من الدراسات التي تتناول سورية والمشرق العربي. لكن وكغيره، ممن ينتمي لأولئك الذين ينظرون إلى الطائفية بمثابتها وسيلة لتحقيق مصالح سياسية، فإنّ هيرمان يشدد أنّ السعودية وإيران تستخدمانها كـ "أداة"، وبخاصة في سورية، ذلك أنهما لا يمتلكان أيّة أداة أخرى يمكن أن تخدم أغراضهم طالما أنّ هاتين القوتين تعتقدان أنهما قادرتان على كسب الصراع. بيد أنّ استخدام الطائفة، وبهذا الشكل السياسي، يتطلبه "استعداد بشري" هائل يؤمن بأنّ هذا الصراع في سورية هو صراع سني-شيعي يتخلله المطلب في حماية الطائفة وتوسعها (قارن ص221)؛ وهو بالفعل ما توفره خصوبة الطائفية السورية.

سورية كتجسيد لأزمة المشرق

وإذا كان الأمر على هذا النحو، فإنه ليس من المبالغة بمكان الذهاب إلى التأكيد أنّ الحدث السوري وزلزاله الكبير يجسد أزمة المشرق العربي برمته، مع الأخذ بعين الاعتبار الاختلافات والتوازنات الإقليمية هنا وهناك. من هنا ذهاب هرمان للقول أنّ الحرب في سورية، من بين جميع النزاعات في الشرق الأوسط، قد تسبّبت في أكبر الزلازل التي طالت مناطق ربيع العرب (قارن ص77). أما لماذا أكبر زلزال، فهو ما يمكن قراءته في أزمتين كبريين على المستوى الإقليمي والدولي: الأول، سورية باعتبارها مسرحاً لتصارع قوى دولية كبرى، وعلى رأسها أميركا وروسيا.

الفيدرالية والهوية السورية (14)

08 أيلول 2016
وسواء كان نمط الدولة الفيدرالية أم نمط الدولة اللامركزية هو الحل المأمول حقاً لإدارة شؤون السوريين بعد سقوط الأسد، فإنّ المعيار الأساس ينبغي أن يتحدّد بدرجة أو سوية نظام إدارة...

 الثاني، فباعتبار أنّ سورية غدت تجسد خزاناً رمزياً طائفياً يحاكي أزمة العالم الإسلامي بما يخص المسألة الشيعية-السنية. وفوق ذلك، فإنها غدت تجسد أرض أرمجدون Armagedōn (إذا ما استخدمنا هذا التعبير الأسطوري) حيث تجمع جيوش الإله هناك للحشد لمعركة الساعة النهائية بين قوى بني أمية وبين فارس والعباس، بين النواصب والروافض.

أزمة الهوية السورية

مسألة أخرى يمكن أنْ نختم بها هذه العجالة، قبل الذهاب لقول كلمة نهائية في الكتاب، تتعلق بنقطة أشار إليها هيرمان، ربما تبدو للوهلة الأولى غير ذات أهمية، بيد أنّ تفحصاً أنثروبولوجياً لها يكشف مدى حساسيتها فيما يرتبط بعمق من أعماق السؤال عن فشل الدولة السورية أو قل حتى الفشل في تركيب هوية وطنية جامعة. يخبرنا هيرمان (قارن ص78-79) أنّ المصريين يشعرون وكأنهم مصريون. فكل من يعيش في وادي النيل فستتملكه هوية مصرية، والأمر ينطبق كذلك على الأقباط المسيحيين. الأمر هذا لا يمكن أنْ نجده في سورية التي تفتقر إلى أية هوية وطنية سورية، حيث "يمكن للسوري أن يكون له هويات مختلفة، يمثل كل منها مستوى مختلفاً من الصراع". فالهويات هنا تستمد وجودها من التناقضات الهائلة التي يحملها هذا البلد: التناقض بين المدينة والريف؛ التناقضات بين الأديان مثل الإسلام والمسيحية؛ التناقضات بين الطوائف مثل السنة والعلويين الشيعة والدروز؛ التناقضات بين الجماعات الإثنية مثل العرب والأكراد؛ التناقضات حتى على مستوى القبائل التي تقطن على "الهوامش" السورية (انظر مثلاً إلى قبائل شمر التي يمتد ولاؤها كذلك أبعد نقطة يمكن أنْ يقطنها "شمري" ما، مثلاً في العراق والسعودية). هيرمان يؤكد، والحال هذا، أنّ مثل هذا الخليط يحمل طابعاً تفجيرياً. لماذا؟ لأنّ "كل مجموعة تقريباً يمكنها الاعتماد على قوة حماية خارج الحدود: على إيران كقوة حامية للشيعة، على المملكة العربية السعودية كقوة حامية للسنة". من هنا ليس غريباً إعادة تطييف المطيّف، أصلاً، حينما تتدخل أية من قوى الحماية هذه في حماية وتعزيز طوائفها على الأرض السورية.

ما تفتقر إليه سورية

بالمعنى الأنثروبولوجي للكلمة، فقد افتقرت سورية، وما زالت، إلى رئات تضخ هواءً ثقافياً سورياً يمثل عصب هوية وطنية تجمع، مثلاً، بين أبناء دير الزور (والذين يمتد ولاء البعض منهم إلى صدام حسين العراقي الذين حزنوا على مقتله) وبين أبناء السويداء (والذين يمتد ولاء البعض منهم إلى زعامات طائفية لبنانية بين وليد جنبلاط وطلال إرسلان ووئام وهاب). مثل هذا الافتقار هو من الموانع المهمة، وربما أشدها حساسية، في عدم اعتراف السوري بداخله العميق بـ"هوية سورية" له، هوية تحمل ثقلاً تاريخياً كتلتك التي يبعث بها هواء وادي النيل. ومن نافل القول، أنه لا دولة وطنية من غير هذه الهوية. وفضلاً عن ذلك، فلا يمكن تجاهل مساهمة الأصولي البعثي في عدم التأسيس لمثل هذه الهوية، بعيداً عن عوامل جغرافية النيل والفرات: إنه ذلك البعثي نفسه الذي ورث في سيكولوجيا السوري أنه ليس سوى "عابراً في الدولة" لا "ابناً للدولة"، طالما أنّ هذه الدولة العابرة (طبعاً القطرية الزائفة) ستزول إنْ عاجلاً أو آجلاً لصالح أمة تقع في مرابض المخيال والوهم.

البعث والأصولية.. وجهان لعملة واحدة

للأسف مثل هذه النقاط لا يأتي عليها درس هيرمان فيما يخص الزلزال السوري (حتى أنه لا يفرق بين ما يسود في الكتابات العربية عن الفروقات في معاني القومية والقطرية والوطنية وتأثير هذه الفروقات على تصور أو فكرة الدولة، حيث إنه يجمع هذه المفردات كلها تحت مظلة Nationalismus). لكن هناك كلمة أخيرة يمكن قولها فيما يخص بعض الأخطاء النقدية والبحثية التي ما زالت تسود الكثير من الدراسات الغربية فيما يخص الحدث السوري، ومنها هذا الدرس الألماني. فمثلاً هناك الخطأ النقدي الذي يسود إلى الآن وهو الوعي المستبطن الذي ساد هذا الدرس في مسألة تتناول تلك الأدلوجتين، البعثية السورية والإسلاموية، بكونهما بناءان منفصلان، كل منهما يقدم نفسه بديلاً عن الآخر. الأولى علمانية (قارن مثلاً ص39) والثانية دينية. حيث أنّ درساً معمقاً لكلتا هاتين الأدلوجتين يكشف عن وجوب درس الهياكل البنيوية والثقافية التي خرجتا منها بكونها مثلتا أساساً عميقا لكلتيهما: فالإناء الذي كان ينضح منه البعثي السوري للتمكن من تجسيد أمته القومية العربية لا يختلف كثيراً (بغض النظر عن المستوى السطحي الأدلوجي الذي يفرق بينهما) عن الإناء الذي ينضح منه أبناء معاوية وعلي في تحقيق أممهم السنية والشيعية.

النقطة الثانية هو في اعتبار هيرمان هروب الناس إلى الطائفة والدين بعد انهيار الدولة السورية نتيجة الفراغ الذي أتينا على ذكره آنفاً. وهذا النظر أجده (على أهميته في نواح سياسية وسوسيولوجية في سياقات أخرى) يفتقر إلى النظرة الدقيقة في التفكر في سؤال: ما الدولة العربية أصلاً؟

هل كان لدينا دولة سورية أصلا؟

من يدرس تاريخ واجهة الدولة السورية وكيف تكونت، على الأقل منذ انقلاب البعث عليها، ومن هم القادة الذين سيطروا على أجهزتها المفصلية وعلاقة هؤلاء ببناهم الاجتماعية واستطالاتها الطائفية في داخل المجتمعات السورية، يدرك أنّ الناس لم يلجؤوا اليوم إلى الطائفة بمجرد انهيار واجهة هذه الدولة، بل إنّ المجتمعات نفسها والدولة أيضاً بكياناها البشرية وإمكاناتها البطشية كانت جزءاً بنيوياً في إعادة رسم الطوائف السورية. الدولة السورية لم تحيد نفسها عن الطائفة بل كانت نفسها جزءاً من مشروع هيكلة الطائفة: "إعادة تسنين السنة" بواسطة حافظ الأسد بعد أزمته مع الإخوان، وذلك بإطلاق يد رجال الدين ومراكز دينية سنية في المجتمع السوري، أمرٌ لا يمكن إغفاله. واليوم يتكرر هذا الأمر مع بشار الأسد. نفكر الآن كيف أنّ حافظ الأسد قد ساهم بالفعل في إعادة هيكلة أجهزة الدولة بعد أزمته مع الإخوان، ليأخذ التسلط البعثي وجهاً أعنف، وكيف أنه هو نفسه قد ساهم أيضاً في إعادة مأسسة الإسلام السوري بما يتناسب ومقاس السلطة المطلقة. ضف على ذلك أنّ هياكل الدولة نفسها اليوم في سياق هذا الزلزال السوري هي نفسها جزء لا يتجزأ من بنيان حروب الإله ووعد الله بعد انهيار الجيش وانحلاله إلى ميليشيات مع يافطات طوائف قدمت من خارج الحدود. ميليشيات الدولة السورية اليوم تقاتل جنباً إلى جنب، بل وبأمرة "أحزاب الله" من طهران وبيروت وبغداد ضد أحزاب وجماعات خادم الحرمين الشريفين وأردوغان. فالقول أنّ مثل هذه الأنظمة العلمانية (؟) قد تجاهلت لفترة طويلة قوة الدين (ص57)، لهو قول أقل ما يقال به أنه سطحي جداً يفتقر إلى تلمس حساسيات بناء واجهة الدولة هذه واستطالاتها بطوائف المجتمع وأديانه (وإقامة هيرمان في دمشق لا تعفيه من هذا الافتقار).

سورية غدت تجسد خزاناً رمزياً طائفياً يحاكي أزمة العالم الإسلامي بما يخص المسألة الشيعية-السنية. وفوق ذلك، فإنها غدت تجسد أرض أرمجدون Armagedōn حيث تجمع جيوش الإله هناك للحشد لمعركة الساعة النهائية بين قوى بني أمية وبين فارس والعباس، بين النواصب والروافض.

ومهما يكن من أمر، يبقى هذا الدرس من هيرمان من الدروس الغربية التي يجب الإفادة منها في قراءة الزلزال السوري وانهيار واجهة الدولة به وعلائقه المستطيلة في أراضي المشرق والمغرب وما يمكن أنْ تسفر عنه حروب الطوائف والله ونتائجها على المشهد الدولي. وأخيراً، طالما أنّ صراع الأصوليين على الاستحواذ بما تبقى من سورية يجسد بالنسبة لهم استمراراً لمعركة كبرى تقودها دول إقليمية، من جهة، والإصرار الإيراني أنّ سورية جزءاً من منظومتها اللادولتية ودوران قادة دمشق بهذه المنظومة، من جهة ثانية، فإننا سنبقى بعيدين عن تشكيل بناء وطني سوري، وبالتالي بقاء سيطرة أصوات الشياطين والآلهة على ما تبقى فينا.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد