(اللاذقية)، يمضي "فراس محمد" (34 عاماً، والاسم مستعار) بحذر في طريقه وهو يمشي مقطوع اليد اليسرى بشكل كامل، حاملاً ابنته ذات الثلاث أعوام بيده اليمنى، وإلى جواره تمشي زوجته، وهي تحمل بقية أغراض منزلهم المنقولة إلى منزل جديد مستأجر في ضاحية "بسنادا" الجديدة (من ضواحي اللاذقية المحدثة) للمرة السابعة في غضون أربع سنوات تلت إصابته تلك، لقد انتهى عقد إيجار المنزل السابق بسرعة.
كان الشاب مقاتلاً في ميلشيا الدفاع الوطني التي أسّست عام 2013 على خلفية تصاعد النزاع السوري، وقد أصيب في معارك غوطة دمشق مع مسلحي المعارضة في قرية "النشابية" عام 2016. يومها كما يقول في حديث معنا لم يصب وحده، بل تعرّض عشرات من جماعته التي تنتمي إلى قوات الدفاع الوطني إلى نيران مكثفة وقذائف هاون أودت بحياة قائد المجموعة وجرح ومقتل عشرات آخرين.
يعتبر فراس أنّ ما جرى معه قضاء وقدراً، إلا أنه يشعر بغصة حارقة، وهو يتفقد كم قميصه المتدلي إلى جواره. يتخيل أحياناً أن ما جرى معه مجرد "حلم"، وأنه سينتهي من آلامه حالما يفيق. الأسوأ من كل ذلك أنّ إصابته هذه لم تسعفه بالحصول على راتب من قوات الدفاع الوطني التي تمّ حلها ولم يعترف أحد من منظومة الحكم العسكرية بما قدمت، وطلب عدد من أفرادها إلى الخدمة الإلزامية ومنهم فراس، يقول الشاب: "بعد تركي للدفاع الوطني بسبب إصابتي تم تعويضي بمبلغ 700 ألف ليرة سورية (حوالي 1200 دولار)، حاولت خلالها الحصول على وظيفة مدنية، أو أي عمل يقيم عائلتي، فلم يقبل أحد بتوظيفي في قطاع الدولة، ﻷنني لا أملك أي شهادة تعليمية سوى الابتدائية، ولا في أي عمل آخر بسبب إصابتي، فكان أن حملت ترمسي قهوة وشاي لأبيعها في شوارع المدينة".
طلب الشاب إلى الخدمة الإلزامية، ووفق القانون المتداول هنا، فإن عليه الالتحاق بأقرب قطعة عسكرية، ولمّا راجع شعبة التجنيد الثانية في المدينة وقدّم لهم وثائق إصابته ترأف الضابط بحالته ولم يقم بسوقه، ورفع أوراقه إلى وزارة الدفاع، ومنها إلى شعبة شؤون الأفراد ومنها إلى مشفى المزة العسكري ليطالب بالمثول أمام لجنة مختصة حكمت بعد أربعة شهور من المداولات بأنه غير صالح للخدمة.
حالات كثيرة وانتظار طويل
ليست حالة فراس الوحيدة التي تعرّض فيها عنصر من قوات أو ميليشيا النظام إلى غبن بسبب إصابته وعدم قدرته على دفع تكاليف علاجه أو تكاليف تعويض جزء مبتور من جسده بآخر صناعي.
حالة الشاب المجنّد محمد (الاسم الأول/ 23 عاماً) من إحدى قرى الساحل السوري حالة أخرى، حيث أصابته شظية أدّت إلى بتر الجزء السفلي من رجله اليسرى أثناء مشاركته مع قوات الجيش في معارك دير الزور عام 2017 . أكثر من سنتين يحاول فيها الحصول على ساق صناعية دون جدوى، يقول الشاب في حديث معنا في قريته: "إن تكلفة الساق الصناعية ذات النوعية الجيدة تبلغ قرابة المليون ليرة سورية (2000 دولار) وهي تكلفة لا يمكن الحصول عليها بسهولة، فالتعويضات الممنوحة للعسكري لا تتجاوز 700 ألف ليرة سورية، عدا عن أجور الأطباء والمعالجين الفيزيائيين وجميع الفحوصات اللازمة لتقرير النوع المناسب والأبعاد وغيرها من المواصفات المحددة".
لجأ الشاب إلى محاولة الحصول على دعم مالي من جمعيات خيرية، وعلى رأسها جمعية البستان الخيرية التي تتبع رسمياً لرامي مخلوف، ولكن الأعداد الكبيرة التي يقدّرها مصدر خاص بنا عبر اتصال هاتفي في الجمعية بأكثر من 10 آلاف حالة انتظار تطلب مساعدة في هذا الموضوع تحديداً، منعت فراس من التفكير بالعودة إلى الجمعية، فهناك دور لتقديم هذه المساعدة ولن يصله دور في القريب العاجل. يقول الشاب: "كلما تأخرت في تركيب الطرف أكثر من أربعة شهور، بات من الصعب التأقلم معه طبياً"، وعبر بحث واتصالات مع كثيرين تمكن أخيراً من الحصول عليه عبر "فاعل خير" لم يذكر اسمه إلا أن الطرف الذي ركبه "تجميلي" ولا يمكن استخدامه في الوقوف مثلاً.
بعد إصابته وتحوله إلى شخص مقعد لم يتلق "محمد" أي إعانة من إدارة شؤون الضباط، لا مالية ولا دوائية ولا حتى زيارة من قبل أي شخص عسكري. وباستثناء زيارات أصحاب "البروزة" من الجمعيات الأهلية الذين يأتون إليه للتصوير مع "البطل"، فإنهم لا يقدمون أية خدمات سوى بعض اللباس الداخلي أو اﻷغذية المأخوذة من برنامج الإعانات الدولية. يشير ابن "محمد" إلى أنه في آخر مرة قدم فيها هؤلاء لزيارة والده، قام بطردهم من البيت.
يشعر والد الشاب بالإهانة البالغة بعد أن قضى عمره في سلك "الجيش" وتلقى مكافأة نهاية خدمته أن يبقى طريح الفراش تقوم على خدمته زوجته المتفانية "شريكة العمر والألم المتواصل". يقول الرجل: "حقيقة لا أعرف كيف أصف حالتي التي ليست حالة إفرادية، لا أستطيع أن أقول أننا كنا مخدوعين بالدقة، ولكن ما جرى أثناء القتال من تمييز بين أصحاب الواسطات والمال وبين عموم المقاتلين، والتمييز في الأغذية والطعام مقابل دعمها لدى الميلشيات أصبح مكروراً، يجعلني أشعر بالخديعة"، يقول الضابط القارئ كثيراً، وصاحب مجموعة شعرية قيد اﻹنجاز حالياً.
تسريح إجباري لبعض الحالات
في بعض الحالات القليلة جداً تم تسريح أشخاص بسبب إصاباتهم رغم أنها لم تكن شديدة وتستدعي ذلك فعلياً، إلا أن هذا اﻷمر ناتج عن رغبة اﻷشخاص أنفسهم بالهروب من الحرب وأهوالها، ولا يحدث التسريح بسهولة في مثل هكذا حالات.
في القانون اﻷخير الذي صدر عام 2018 برقم 45 كان تعريف الجريح هو "العسكري في الجيش والقوات المسلحة وقوى الأمن الداخلي الذي أصيب في الحرب أو العمليات الحربية أو الحالات المشابهة للعمليات الحربية أو على أيدي عناصر إرهابية أو عناصر معادية وأدت إصابته إلى إحدى الحالتين، العجز الكلي، والعجز الجزئي نتيجة إحدى الإصابات التالية: بتر طرف علوي شامل لإبهام وسبابة على الأقل، بتر طرف سفلي شامل للقدم على الأقل، شلل طرف سفلي واحد تام، شلل طرف علوي واحد تام، انفقاء إحدى المقلتين" على أن تثبت حالة الجريح بقرار من مجلس التحقيق الصحي أو لجنة التحقيق الصحي مصدق وفق الأصول المحددة في قوانين المعاشات العسكرية النافذة، بحسب المادة الثانية من القانون.
ينطبق هذا التعريف على أعداد كبيرة من مصابي الحرب السورية الذين تقدّر منظمة الصحة العالمية عددهم اﻹجمالي ممن تسبت لهم الحرب بإعاقة دائمة بمليون ونصف سواء في جانب النظام أو في جانب القوى الأخرى، وبين هؤلاء أكثر من 86 ألف تسبت إصاباتهم ببتر أحد اﻷطراف.
تزيد أعداد أصحاب الإعاقات الدائمة في مناطق الساحل عن غيرها نظراً لظروف مشاركة جزء كبير من أفرادها الذكور في الحرب السورية، وتتراوح اﻹصابات بين فقد جزئي لأصابع أو كف يد أو قدم أو فقدان لطرف من اﻷطراف عدا عن اﻹصابات في الوجه (فقدان العيون كلياً أو جزئياً)، عدا بالطبع عن إصابات أقعدت أشخاصاً عن الحركة بشكل كلي جعلتهم مرهونين إلى كراسي تدفع باليد غالباً نظراً ﻷن تكلفة الكراسي الكهربائية هي اﻷخرى عالية جداً.
يقول المصاب "علي" (مستعار/ 25 عاماً من الجيش النظامي) المقعد عن الحركة نظراً ﻹصابته في حوضه السفلي بشظية أدت إلى عطب عموده الفقري، أنه عمل بدأب للحصول على كرسي كهربائي، يقول: "لم يبق من إخوتي هنا أحد، كلهم سافروا وبقيت أنا وأمي وأبي الذي يبلغ من العمر سبعين عاماً، تقوم ممرضة بخدمتي لقاء مبلغ مالي أدفعه من راتبي (35 ألفاً)، إلا أنها لا تستطيع البقاء معنا طيلة اليوم، لذلك كان الحل الأمثل الكرسي الكهربائي، لجأت إلى عدة جمعيات وحاولت عبر المشفى العسكري الحصول على واحد، إلا أنني لم أتمكن فليس لدي واسطة للحصول عليه. أخيراً قمت بوضع إعلان على الفيسبوك عبر صديقة تتابع مثل هكذا حالات وطلبت مساعدتها في تأمين مبلغ الكرسي عبر التبرعات، وقد فعلت مشكورةً ولولاها لبقيت على الكرسي العادي، وهذا الأخير قدمته إلى شخص آخر مصاب ليس لديه كرسي".
يعتمد هؤلاء في محاولة تأمين أطراف صناعية بديلة على المصادر المحلية (صناعة يدوية) وفي حين تتوفر بعض الأطراف المنتجة خارج البلاد إلا أنها غاية الثمن وصعبة التأمين خاصة في مناطق النظام، ويخضع تأمينها هنا على المصادر الحكومية بشكل أساسي، ولا يمكن للمصابين التواصل مع جمعيات أو هيئات دولية أو إقليمية تقدم هذه الخدمات وإلا تعرضوا للمساءلة الأمنية، ليبقى قطاع الصحة في الجانب الحكومي الوحيد الذي يمكنه تقديم هذه الخدمات إلى جانب بعض الجمعيات الأهلية، إلا أنّ قدرات هذا القطاع موضع شك لدى كثير من الجرحى أو المصابين بآفات الحرب.
مديرة إحدى الجمعيات في اللاذقية، السيدة "سما" (مستعار/ 45 عاماً) تعمل في قطاع الصحة بشكل رئيسي، تقول في حديث معنا: "إن المشاكل الكبرى تكمن في الملاحقات الأمنية ﻷي مصاب حرب ينال أي مساعدة من أي جهة دون أن تكون مرخصة بموجب قوانين الجمعيات هنا، ونحن كجمعيات أساساً لا يمكننا الدخول كثيراً في هذا الملف نظراً للقيود السياسية المفروضة علينا داخلياً وعلى الملف نفسه خارجياً". وتلجأ الجمعية مثلها مثل آخرين إلى التعاون مع الهلال الأحمر السوري الذي افتتح مركزاً للأطراف الصناعية في دمشق في العام 2018 وتديره اللجنة الدولية للصليب الأحمر الدولي وينتج سنوياً قرابة 500 طرف لا تكفي لتغطية حاجات المتقدمين إليه بأي شكل.
يوجد حالياً في سوريا تسع مراكز حكومية وأهلية موزعة بواقع مركزين للخدمات الطبية والعسكرية في دمشق وطرطوس ومثلهما لوزارة الصحة في دمشق وحمص، ومركزين للهلال الأحمر بدمشق وحمص، وثلاث مراكز تابعة لجمعيات أهلية في دمشق، في حين يتواجد مركز لديه أجهزة لصناعة الأطراف في مشفى حاميش العسكري في العاصمة، وتغيب هذه المراكز عن محافظة اللاذقية، وتبعاً ﻹدارة الخدمات الطبية، فإنها قد افتتحت مركز أطراف فيها في العام 2018. إلا أن كل هذه المراكز لا تغطي سوى جزء بسيط من حاجة المصابين في سوريا.
النوعيات المقدمة هي في الغالب من النوع التجميلي، يقول الطبيب "محمد" (مستعار/ 36 عاماً، عبر الهاتف) اختصاصي المفاصل والعظام وجراحتها في مركز الهلال الأحمر بدمشق إن الأطراف الميكانيكية أكثر تكلفة، حيث يبلغ سعر الطرف الواحد بين 300 ألف إلى مليون ونصف ليرة سورية (600-2000 دولار). ولكن الأكثر منها تكلفةً هي الأطراف الكهربائية والإلكترونية التي يبلغ سعر الطرف منها قرابة 45 مليون (90 ألف دولار) لليد الإلكترونية على سبيل المثال وهذه لم تركب حتى الآن لأي مصاب.
يقول الطبيب: "إن تقرير نوعية الطرف الممكن لشخص المصاب تحدّده الفحوصات الطبية التي تجرى على جسم المريض، ويتطلب كلّ منها جانباً في التقرير النهائي للطرف المطلوب، على أنّه يمكن أحياناً تحديد نوعية أقل بناء على ظروف وما هو متوافر لدى المراكز الممكن التأمين منها". ويقول الطبيب إن مدة الانتظار تحدد تبعاً لأقدمية تاريخ الإصابة، ولكن هناك "بالطبع استثناءات تحددها اللجان المختصة وأحياناً الرشاوى".
القهر المضاعف
غالبية من التقيناهم عبروا عن استياء كامن لم يظهر في الكلام، ولكنه كان واضحاً في طريقة تعاطيهم مع الأسئلة. لقد كان الاستياء سيد الموقف، والخديعة التي شعروا بها مرات ومرات في سياق سنوات إصاباتهم، وذلك من قبل جهات رسمية تعاملت معهم إعلامياً كأبطال وواقعياً كأشخاص دفعوا ضرائب عالية الثمن، دون أن يقابل جهدهم بقليل من الاهتمام، ويجمع هؤلاء إلى حدّ كبير أن تعبهم وتضحيتهم قد ضاعت سدى.
يختم الضابط "محمد" حديثه معنا بالقول: "في إحدى زيارات جمعيات البروظة، قدّم رئيس الجمعية صورة باللباس العسكري وبالطول الكامل لي، صدّقني، كان بودّي ساعتها لو كنت قادراً على الحركة أن أضربه على رأسه بها، وليذهب هو وهي إلى الجحيم".