(تأتي هذه الحكاية كنتاج تعاون وشراكة مع راديو سوريالي، يمكنم سماع الحكاية صوتيا على برنامج حكاية وانحكت)
(دمشق)، لم تفهم علا، مدرسة اللغة العربية في إحدى الثانويات في دمشق، والمعلمة الأصغر سناً في الكادر التدريسي في المدرسة، إذ لم تكن تتجاوز الخامسة والعشرين من عمرها، لم تفهم لماذا بدا الطبيب قلقاً وهو يطلب منها تحاليل إضافية وصورة رنين مغناطيسي للدماغ!
منذ أسبوعين شعرت علا بخدر في يدها اليمنى، خدر شلّ حركتها ومنعها من الكتابة على اللوح لعدّة أيام. لم تكن تلك المرة الأولى التي شعرت فيه علا بأن يدها اليمنى لا تطاوعها، وكانت تعزو الأمر للتعب والإجهاد الذي يعاني منه أغلب المدرسين، بسبب الوقوف الطويل واستخدام السبورة. لكن هذه المرة كانت مختلفة، وامتدّ الخدر إلى الجانب الأيمن من وجهها ورقبتها. عندها شعرت بقلق حقيقي وذهبت لاستشارة الطبيب. وعندما عادت إليه مع الصور والتحاليل تمّعن في صورة دماغها المكرر على الطبق الأسود، وقال لها:
-عندك MS
-عفوا، شو هاد الـ MS؟
-يعني تصلب لويحي متعدد، خدي الصورة وروحي على مشفى ابن النفيس ليعطوكي الدوا.
ازداد خوف علا، وهي تسمع الطبيب يشرح لها عن آلية المرض وعن أعراضه، فهو مرض مناعي يتلف الغشاء المحيط بالأعصاب ويؤدي إلى تضرّرها، وهو تلف غير قابل للإصلاح وصعب التشخيص، لأن الأعراض تأتي وتختفي أحياناً لعدة أشهر أو حتى لسنة.
"واحد من الأعراض الممكنة هو الشي اللي عم تحسي فيه كل فترة، الخدر وفقدان السيطرة على واحد من الأطراف، خدر بيجي وبيروح مع كل هجمة للمرض. ولحتى تقدري تسيطري عليه لازم تاخدي دوا بشكل دائم، وإلا ممكن تتفاقم الأعراض. بالحالات الصعبة ممكن الواحد ما يقدر يمشي أو يحكي. أنا عم خوفك لأنو لازم تبلشي بالعلاج وتلتزمي فيه، لحتى تقدري تكملي حياتك بشكل طبيعي قدر الامكان". هذا ما قاله الطبيب لها، كما قالت لحكاية ما انحكت.
لكن علا لم تبدأ بالعلاج على الفور كما نصحها الطبيب، أصيبت باكتئاب لعدة أشهر، تفادت البحث والقراءة عن المرض، وحتى المرور بجوار مشفى ابن النفيس القريب من بيتها في ركن الدين. كان يبدو لها الأمر، وكأنه كابوس مزعج ولكنه غير حقيقي، عزّز ذلك الشعور، أنها بعد انتهاء الهجمة عادت لاستخدام يدها اليمنى بشكل طبيعي تماماً. لكن هجمة أخرى للمرض بعد عدّة أشهر كانت أشد وأطول، وتزامنت مع الفترة التي تسبق فحص الشهادة الإعدادية، ما اضطرها لتعلم الكتابة باليد اليسرى كي تستطيع العمل مع الطلاب. عندها اتخذت قرارا بزيارة مشفى ابن النفيس والاطلاع على الوضع، فلا ضرر في ذلك.
توقيت غير مناسب
كان ذلك عام 2013، في فترة كانت الحرب مستعرة في البلاد، لم يكن ذلك توقيتاً مناسباً حتى يصاب الإنسان بمرض مزمن ناهيك عن ندرته، حيث تشير الإحصائيات الرسمية إلى إصابة حوالي 30 سورية وسوري بالتصلب اللويحي بين كل مئة ألف مواطن. عادة ما يكون هؤلاء منسيون في المناطق المحاصرة أو غير المخدّمة صحياً، وهم أول من يدفع الثمن، فهم ليسوا أولوية في مناطق تفتقر لكل شيء، خاصة وأنّ علاجهم عادة ما يكون مكلفاً وصعب التحصيل أو يتطلب تجهيزات متطورة، كمرضى الكلى والسرطان مثلا، والتصلب اللويحي واحد من تلك الأمراض المعقدة. فكرت علا بأنها محظوظة نوعا ما لأنها تعيش في العاصمة، فعلى الأقل تتمتع بحرية الحركة الآمنة نوعا ما لتحصل على الخدمة الطبية اللازمة في حال أرادت ذلك. بينما ربما يعاني المرضى من المناطق الأخرى الأمرّين ليحصلوا على نفس الفرصة. وهذا ما أكدته لها زيارتها الأولى لمشفى ابن النفيس. تقول علا: "أن تقابل أشخاصاً أتوا مئات الكيلومترات من مناطق نائية تعاني من الفقر والجهل والحاجة إلى أبسط الخدمات، لكي يحصلوا على دواء تستطيع الحصول عليه بكل سهولة إذا كنت تعيش في العاصمة.. هذا الواقع إن دل على شيء فهو يدل على الشرخ الكبير بين المناطق السورية والتفاوت الهائل بين الظروف التي يعيشها السوريون حسب توزعهم الجغرافي في بلدهم نفسها. أقدر الميزة أحيانا، لكنني أيضاً أشعر في أحيان أخرى بالخجل لانعدام العدالة بين المرضى".
الزيارة الأولى
اصطحبت علا معها في المرة الأولى صديقتها منذ الطفولة، سلام. لم يكن يعلم بأمر إصابتها أحد من أهلها، ولا زملاؤها المدرّسين. وعندما أخبرت صديقتها المقربة بأمر إصابتها بالمرض تلقت منها دعماً معنوياً وتشجيعاً ساعدها على تقبّل الأمر بالتدريج.
التقت الفتاتان في زيارتهما الأولى أمام مدخل مشفى ابن النفيس، الذي يتألف من عدة أبنية واقعة على ما يشبه الهضبة أو التلة. لم تكن تضاريس موقع المشفى ملائمة أبداً للمرضى الذين كان عليهم أن يقطعوا مسافات طويلة صعوداً حتى يصلوا إلى القسم الذي يقصدونه. أغلبهم من الفقراء الذين لا يملكون سيارة ولا حتى يستطيعون تحمّل تكاليف سيارة أجرة.

مشت علا مع صديقتها في الطريق المنحدر القاسي حتى وصلت إلى المبنى الذي يفترض أنه يحتوي على القسم الخاص بمرضى التصلب اللويحي. فسألها حارس عند مدخل المبنى عن وجهتها بفظاظة.
- بدنا نشوف قسم التصلب اللويحي
- اليوم الأحد، ما في، بدك تجي الخميس!
لم تكن تعلم علا بأن موعد توزيع الأدوية هو الخميس حصراً من كل أسبوع، فانزعجت قليلاً، لكنها لم تكن لتقارن خيبتها بخيبة شاب يكاد لا يستطيع المشي، بصحبة أبيه وأمه، على ما يبدو أنهم قد أتوا من مكان بعيد، ربما من ريف حماه حسب ما فهمت علا من حديثهم مع الحارس، وهي المرة الأولى التي يأتون فيها أيضاً إلى المركز. فكرت علا عندها أن رحلة الحصول على الدواء بالنسبة لهذه العائلة أصعب من المرض نفسه. تصفهم بالقول لحكاية ما انحكت "كانوا يرتدون ثياباً ريفية، ويبدون تائهين تماماً في تلك المساحة، يتلفتون حولهم وكأنهم في كوكب آخر. قلت لهم أن يتبعوني وسلام في طريق الخروج، وكادت سيارة تمشي ببطء في حرم المشفى أن تصدم الأم المذهولة. نهرها السائق بفظاظة: شو مو شايفة سيارة بحياتك؟ وأعتقد أنها كانت المرة الأولى التي ترى تلك العائلة فيها هذا الكم من المباني الاسمنتية والشوارع المكتظة بالسيارات والبشر، عدا عن أن الرحلة لم تحقق النتائج المأمولة، وكان على العائلة أن تعود مرة أخرى لاستلام الدواء".
بانتظار الدواء.. مواجهة حقيقة المرض
في الخميس التالي، عادت علا مع صديقتها مصطحبة أيضاً الصور والتحاليل إلى المركز، أدخلها الحارس ودلها على المكان الذي عليها أن تنتظر فيه. مشت في ممر طويل ووصلت إلى قاعة محاضرات كبيرة، كانت مكتظة بالمرضى ومرافقيهم، كانوا من كل الطبقات الاجتماعية، وكان واضحاً أن الكثيرين منهم أتوا من مناطق بعيدة، لهجاتهم خليط من كل المحافظات. وتساءلت علا إن كان المركز حالياً يخدم مناطق أخرى بسبب تعطل المراكز فيها بسبب الظروف الأمنية، أو بسبب أنه الوحيد المتوفر.
تصف علا حال المرضى في ذلك اليوم: "كانت الحالات متفاوتة الشدة، بعض المرضى يبدون طبيعيين تماما، مثلي، وبعضهم كانوا يرتجفون من رأسهم حتى أقدامهم، بعضهم أتوا لوحدهم مستعينين بعكازة، وبعضهم أتوا على كرسي عجلات، أغلبهم شباب أو في منتصف العمر، كثيرون منهم يبدوا أنهم أتوا من الأرياف حسب هيئتهم، ولا أنكر أنني شعرت بضيق في صدري، فقد كانت المرة الأولى التي أواجه فيها حقيقة المرض بدرجاته المختلفة."

تقول سلام صديقة علا لحكاية ما انحكت: "بصراحة عندما قرأت عن المرض شعرت بالقلق الشديد، واستبعدت أن يكون التشخيص صحيحاً في بادئ الأمر، فهي كانت تبدو طبيعية تماماً، وحتى اللحظة الأخيرة عندما وفقنا في لقاء اللجنة الطبية، كنت أتمنى لو قال لها الطبيب إنها ليست مصابة بالتصلب. كنت أفكر بعلا طوال الوقت ونحن محاطتان بالمرضى الذين كانت حالة بعضهم شديدة جداً. أتذكر شاباً في الثلاثينات يرتجف بشدة، ومعه أصدقاؤه لحمايته من الوقوع على الأرض، كانت معنوياته مرتفعة وكان يضحك معهم، لكن وجه علا وهي تنظر إليه كان ممتقعاً وامتلأت عيناها بالدموع. كان الأمر مخيفاً جداً لكلينا".
إجراءات صارمة..
أخبرت صديقة علا الممرضة المسؤولة عن تنظيم الدور بأن هذه هي المرة الأولى التي تراجع فيها المركز. كان الدور منقسماً إلى المراجعين القدامى، والمراجعين الجدد، الذين كان عليهم أن يعرضوا حالتهم على لجنة طبية لتؤكد التشخيص وتصف جرعة الدواء المناسبة. أما المراجعون القدامى فكانوا يحملون بطاقة مجدولة وعبوات الدواء الفارغة لتسليمها كإثبات بأنهم أخذوا الدواء بأنفسهم ولم يقوموا ببيعه في السوق السوداء. فوسطياً تقدم الدولة العلاج المجاني بأكثر من 500 دولار للمريض الواحد في الشهر، أي أكثر من 250 ألف ليرة سورية، رقم يستحيل أن يتحمله معظم المرضى ومنهم علا التي لا يتجاوز راتبها المئة دولار.
تكسي الحكايا
31 كانون الثاني 2019
تقول علا لحكاية ما انحكت: "بصراحة فوجئت بلطافة الجميع من الكادر الطبي والتمريضي، كنت أتوقع ظروفا مغايرة تماما، كانت تتوفر المقاعد في القاعة لجميع المراجعين، صحيح أنني انتظرت ساعتين قبل أن أعرض حالتي على اللجنة الطبية، وأنهم طلبوا مني صورا جديدة للدماغ بسبب مرور أكثر من شهر على الصور القديمة، وبالتالي لم أحصل على الدواء في تلك الزيارة أيضاً، لكن الأطباء والممرضات كانوا هادئين متعاونين رغم الضغط الكبير، وهو أمر غير متوقع في مشفى حكومي بالمطلق. صحيح أن نقص المعلومات وصعوبة الحصول عليها جعلني أعود من المركز مرتين دون نتيجة، لكنني مع ذلك شعرت بالارتياح للتجربة".

وحدة حال.. عما يحدث في سجن النساء
15 شباط 2019
سمعت علا أحد الأطباء في اللجنة ينصح المرضى الذين يأتون من باقي المحافظات أكثر من مرة بأن يسجلوا أسماءهم في مركز دمشق، أحد المرضى من حماه سأله فيما إذا كان من الأنسب أن يذهب إلى مركز حمص، فأجابه الطبيب: "اسمع مني وسجل هون، هون على الأقل الدوا متوفر، وبيعينك الله على الطريق، هونيك ما رح تلاقي."
بعد فترة من الوقت، لم تعد علا تلتقي بالفتاة الديرية، كثيرون من أهالي دير الزور لم يعودوا يستطيعون المجيء إلى دمشق حسب ما علمت بسبب الحصار الذي فرضه تنظيم داعش على المدينة، شعرت علا كم هي محظوظة مرة أخرى فقط لأنها تعيش في دمشق، وكم هي خيارات الآخرين صعبة وغير عادلة.
لعنة العقوبات تصل إلى المرضى
لكن تدهور الأوضاع الاقتصادية والعقوبات التي فرضت على الحكومة السورية سرعان ما ألقت بظلالها على مركز التصلب اللويحي في دمشق، فبعد نفاذ الدواء الألماني الذي كانت لا تزال هناك كميات منه في مستودعات وزارة الصحة، لم يعد تحصيله متاحاً بسبب العقوبات الأوروبية على النظام.
على حد علم علا لم يكن هناك أحد في النظام السوري يعاني من التصلب اللويحي، لكنها إضافة إلى آلاف المرضى، كان عليها أن تتعوّد على دواء إيراني بديل عن الدواء الأوروبي، إضافة إلى انقطاع الدواء عدة مرات، ولأشهر، مما تسبّب لعلا ببعض الانتكاسات البسيطة، ولغيرها من المرضى بانتكاسات أشد وأعنف. مع ذلك، كان الكادر الطبي يحاول ما في وسعه لمساعدة المرضى بما هو متوفر.

يشرح الطبيب ز. ل. لحكاية ما انحكت عن واقع أدوية التصلب اللويحي في دمشق: "حالياً جميع الأدوية المستعملة في العلاج (بيتافيكس، زيفرون، ريسجين) إيرانية المنشأ، وهي ليست سيئة على العموم، لكنها بالتأكيد ليست بجودة المستحضرات الأوروبية. نتيجة العقوبات لم يعد من الممكن وصول البديل الألماني لنفس التراكيب لذلك يتم الاستعانة بالإيراني، والذي يفقد هو الآخر أحياناً، كان هناك بديل إيطالي أيضاً كان يصل إلى المركز رغم العقوبات لكنه انقطع هو الآخر".
لاحظت علا أيضاً أنّ التدقيق على تسليم العبوات الفارغة من قبل المرضى أصبح ضعيفاً. ولدى سؤال أحد العاملين في مشفى ابن النفيس عن أسباب التساهل مع هذا الأمر، قال: "مع تدهور الظروف أصبح من الصعب وغير المجدي والعبثي صراحة التدقيق فيما إذا قام أحد المرضى ببيع إبرة أو اثنتين في السوق السوداء لإعالة نفسه، هل سيؤذيه أن ينقطع عن العلاج لأسبوعين، ربما، ولكن الدواء بات ينقطع لشهور عديدة، وبالتالي فالضرر قائم بكل الأحوال! هل نستطيع مقارنة بيع أفراد لإبرة أو إبرتين أو أكثر بفساد على أعلى المستويات ومنذ سنوات طويلة تسبب في عدم توفير الأدوية في المراكز الأخرى في البلد؟ طبعا لا. يدرك القائمون على المركز في دمشق ذلك جيداً، لذلك يكفيهم أن يعيد المرضى العبوات الفارغة بشكل رمزي ليستلمو العبوات الجديدة".
حتى ظروف الانتظار تغيرت
مصابو الساحل السوري: الموت أريح من هالعيشة
23 أيار 2019
منذ عدة أشهر وعلا تمضي فترة الانتظار وقوفاً، والتي قد تمتد لساعات، ويبدو واضحاً لها أن تجربة الحصول على الدواء لم تعد هينة وسلسة كما كانت، بل أصبحت تجربة متعبة ومهينة ومقلقة، تحرض الكثير من الأسئلة التي تطرحها في نفسها: هل سيأتي يوم يفقد فيه دواء التصلب تماماً؟ وماذا سيكون مصير آلاف المرضى من الفقراء والمعوزين؟