بكرُ أبيه، كان يعي تعب والده، والأفواهَ الكثيرة التي تنتظره، وتشلّ عقله عن التفكير بأكثر من تأمين حاجات العائلة التي رغب بتشكيلها في سنوات الشباب. جهاد محمد، كان يراقب ذلك الرجل الذي أفنى جسده وهو يكدُّ ويشتغل من صباح الله إلى مغيب الضوء. الأب المجبول بالحب، والأم الممتلئة بالحنان، أورثاه أخلاقاً مثالية، سترافقه في تحولاته وسنوات عمره، التي نحبُّ أن نكملها معه حينما يخرج من محتبسه، أو موته المؤقت، ولن نقول إن خرجَ. العمل وحده ما سيساعد الأب؛ جهاد لم يكن يكتفي بذلك، فهناك الوقوف إلى جانب أخواته ووالدته، وظلم الذكورة وتقاليد المجتمع والدين. انحاز سريعاً للماركسية والتحرّر وقيم المساواة وضرورة رفع كل أشكال الظلم عن المجتمع والسياسة والمرأة.
ليكون صادقاً، وهو كذلك، راح يدافع عن أخواته، وذلك من أجل حرية مطلقة في الحياة، وكانت النقاشات ديدنه في العلاقة مع الآخر، أيّ آخر، وكذلك الأخلاق؛ لم يكن ليفضل رب عملٍ على صديق، ولا زعيم حزب على رفيق، ولا قادة على الشعب. هناك أصالة عميقة في الرجل؛ حيث تنقل بين أعمال كثيرة، جسدية وفكرية، وكان في أفعاله مطابقاً لأفكاره. الأخلاق تُنمّي الحب، وتُعيد إنتاج حاملها والمحيط الذي يتحرّك فيه. كان صديقنا من طينة الجمال تلك.
المظالم والتعب المجتمعي، والذي أدركه حينما بدأ يتشكل وعيه، دفعه للبحث عن خياراتٍ حياتية تتوافق مع آلامه وتزيحها بآن واحد. هداه ذاك إلى الماركسية، تلك التي كانت دولٌ وشعوبٌ تدين بها في ما قبل ثمانينيات القرن المنصرم، فراح يغرف من المعارف، ولكنها كانت في وجهٍ منها إيمانية، فغاب عن ذهنه أن السلطة تنتج الشمولية إن غابت عنها الديمقراطية، وتنتج الفقر وتبيد السكان إن كانت فاسدة، وسلطة الاشتراكية المحققة في الاتحاد السوفيتي كانت كذلك في وجهٍها الأساسي. لم يقرأ في ثمانينيات القرن المنصرم الانتقادات التي كانت توجه لتلك الاشتراكية، وكان الناقد يُسمّى مهرطقاً رأسمالياً تروتسكياً...
المظالم والتعب المجتمعي، والذي أدركه حينما بدأ يتشكل وعيه، دفع جهاد محمد للبحث عن خياراتٍ حياتية تتوافق مع آلامه وتزيحها بآن واحد
وهكذا، كان جهاد، وآلافٌ مؤلفة في كل أصقاع الأرض، يتوهمون بأن الاشتراكية هي الخير الكلي والرأسمالية هي الشر الكلي أيضاً. الحقيقة أن تلك الأفكار كانت رغباتهم عن الاشتراكية، وكانت تمثل آمالهم في حياة أفضل، ليس إلا. صديقنا عاش وهماً عظيماً، ولكنه لم يفسد حينما أصبح رفيقاً شيوعياً (الحزب الشيوعي السوري، يوسف فيصل)، وهذا حال أغلبية قواعد الأحزاب الشيوعية؛ استفاد من ملكاته الأدبية واللغوية، وتدرّجَ في حزبه الذي توهّم يوماً أنه سينقذه ويمثل صوت الفقراء والمتعبين والمقيدين فانخرط فيه؛ صديقنا حافظ على جبلته، فراح ينشغل بالشباب وبالثقافة ويتابع ويدقّق ويفسر لهم ويطوّر مواهبهم، وهكذا.
كان يعنيه كثيراً ألّا يبقى الشباب بوعيٍّ بسيط، ولم يكن مهتماً بنصوصٍ يدّعي قادة الحزب قدسية ما لها. صدمة آخر الثمانينات، وسقوط "الخير" أقصد الاتحاد السوفيتي، جعلته يعيد النظر بالأحزاب الشيوعية، ويختار لاحقاً تياراً جديداً (تيار قاسيون، وأصبح اسمه لاحقاً حزب الإرادة الشعبية في سورية)، كان عبارة عن انقسام جديد في تلك الأحزاب؛ كان يهتم بتوسيع دائرة النقد في تياره للنظام، وتشكيل رؤية وطنية لمختلف مشكلات سورية، ولكن جهاد كان يعرف الممكنات المسموح بها، ويقرأ كل التطورات التي تعصف بسورية، منذ عام 2000 خاصةً، وهو عام انتقال السلطة الشمولية من الآب إلى الابن، وترافق ذلك مع بيانات لمثقفين وكتاب ومنتديات سياسية للمعارضة وللناشطين ولبعض رجال الأعمال. لم يثق صديقنا بكل هذا الحراك، وربما بتأثير من تياره ذاته، ولكنه لم يكن معها في تخوينه. كان يعنيه أن تُعطى الحريات، وأن يُرفع الظلم، وأن تزاح سطوة الأجهزة الأمنية عن أنفاس الناس، ولكن ذلك ليس بالسهل، فهي قضايا النظام منذ تشكله في 1971 ومنذ تشكيل النظام للجبهة الوطنية التقدمية حينها، وهناك من يقول إن الدولة الأمنية بدأت تتأسس منذ 1963.
ضعف ثقته بالمعارضة، ربما كان لضعف علاقتها بالشعب، وعزلتها عنه، وكذلك للثمن العظيم الذي دفعه المعارضون في المعتقلات، وربما للإيمان الذي كان غارقاً فيه بسبب أيديولوجية حزبه والماركسية عموماً.
ربيع قادم.. الصدام مع التيار/ الحزب
مع بدء ثورات الشباب العربي، تغيّر المشهد كلية، وبدأت تلمع عينا الرجل الأربعيني ذاك، والذي بدأ الشيب يمشط شعره، واستقر تحليله للوضع سريعاً: إنها الثورات! فكيف يمكن أن أصمت، أو أسميها، كما حزبي، مؤامرة خارجية، وكيف تكون كذلك ويقودها الشباب المفقر والمهمش والمحروم سياسياً، بينما أنظمة الحكم فاسدة وناهبة وإجرامية وقامعة، وهي سبب كل ذلك الإفقار.
تأمل جهاد المشهد جيداً: إنها الثورة، وماذا سأفعل الآن، حزبي وريث حكايات عن المؤامرة، ومتحالف مع السلطة بألف حكاية وحكاية، ولكن أيضاً هناك رفاق فيه، راغبون بأن ينخرط الحزب بالثورة، وهناك ماركسيون خارجه، وبالتالي: "ما العمل؟" كما كان يقول لينين؟
كان وقتها جهاد رئيس تحرير جريدة قاسيون، جريدة تياره السياسي "قاسيون"، وكان يحرّر أغلبية صفحاتها، فخاض معركة الثورة داخل تياره، ولكنه تفاجأ بحجم الرفض القاطع للثورة وللشعب الذي يقوم بها، وبحججٍ متهافتة، تبدأ بالمؤامرة ولا تنتهي بأن الثورة ليست بقيادة الشيوعيين، وكلام عن غياب برنامج واضح لها، وكلام آخر يخص ممكنات الفوضى وأن وراء الثورة، وغير ما ذكرنا، الإخوان والليبراليون، وكان رده: ولو افترضنا أن كل هذا الكلام صحيحاً، أليس حرياًّ بنا الانخراط بالثورة وتغيير وجهتها لتكون بقيادتنا ووفقاً لمشروعنا الاشتراكي؟ ويضيف: أن الشعب يثور في كل المدن، فكيف لا نرى الآن أشكال معاناته اللامتناهية، ونحن اللذين كتبنا آلاف المرات عن التحولات الليبرالية في الدولة السورية؟
لم يكن جهاد من الفاسدين والمستفيدين من تياره، وبالتالي دارت نقاشات حادة مع قيادة ذلك التيار، واتُهم صديقنا بالفشل في فهم الواقع وبالانحراف، والأنكى هُدّد بالاعتقال، وكان الكلام واضحاً: إن اعتقلتَ، لن ندافع عنك.
وداعا للماضي.. نعم للثورة
الأجواء المشحونة بتبخيس الثورة، وكراهية الشعب، والتقرب من النظام، لم تترك لجهاد مكاناً في تنظيمه، وقرّر ترك ماضيه، وطالب بتعويضات عن عمله في رئاسة التحرير، وبعد تلكؤ منهم، لم يعطوه شيئاً، وحينها غادر ماضيه، نادماً على سنواته الضائعة سابقاً، وراح يقرأ بتمهل الثورة، ويتغزل بجمالها ومستقبلها وينخرط في ميادينها.
الأربعيني الأشيب ذاك، لم يكن قادراً على تغيير جلده، ولم يفكر بذلك من أصله كما فعل ماركسيون كثر حينما ولّوا وجهتهم السابقة، وأصبحوا من دعاة اللبرلة وحرية السوق، وثرثراتٍ عن العولمة كمنقذة للبشرية من أهوال الشيوعية، والخصوصية والحدود الوطنية، وأن الفقر مشكلة بيولوجية في الأفراد، ونتيجة كسلهم وغبائهم، وسوى ذلك. بحث جهاد عن رفاقٍ خارج تياره، وتواصل مع شيوعيين غادروا أو لم يغادروا بعد تنظيماتهم، وبدأ يعمل على الانخراط بالثورة ومحاولة تشكيل تيار يساري، يعيد للماركسية وجهها الجميل، في تأييد الثورات والحريات والديموقراطية، وبعيداً عن الأدلجة والكذب، الذي عايشه طويلاً ورفضه منذ حينها. وبهذه العقلية اندفع بكل طاقته لإنجاح الثورة الشعبية، والتي يصفها اليسار الذي هجره بالمؤامرة، كما يفعل النظام السوري تماماً، وهي التي تعرضت لكل أشكال التنكيل، من قمع وقتل ودمار واعتقال وتهجير، ولم تُترك طريقة للفتك بها إلّا ومُورست.
آلمه كثيراً خيانة تنظيمه للثورة، وآلمه أكثر بقاؤه فيه لسنوات طوال. ورغم محاولته المساهمة في تشكيل تيار ماركسي جديد، فإن يأساً بدأ يغزوه من اليسار والماركسية أيضاً، سيما وأن تفكيره ذاك يرتبط بتبدلات خطيرة تحدث في سورية. كاد أن ينخرط بالثورة دون تيارٍ يساري جديد، ولكنه كلما عمّق صلاته بالواقع والحركات الثورية والتنسيقيات، كان يرى ضرورة ذلك التيار؛ ربما هي عقلية الحسابات الدقيقة، والخوف من الوحوش الذين يفتكون بالثورة داخلياً وخارجياً، وربما شعوره برداءة المعارضة التي ادّعت تمثيل الثورة والتسلّط عليه واحتكار العمل الثوري والسياسي، وما قدمته من مواقف وسياسات لا علاقة لها بأهداف الثورة والشعب، وإنما بالبحث عن حلفاء إقليميين ودوليين من أجل استلام السلطة.
وجه جديد لليسار
كان سلوك أفراد اليسار الثائر متشابها في 2011، بالرغبة في الإصغاء لروح الشعب ومساعدته في ثورته لإصلاح النظام في بداية الأمر، وحينما رفض الأخير، أيّدَ ذلك اليسار شعار "الشعب يريد إسقاط النظام". اليسار الثائر هذا، تجاوز الكثير من خلافاته واندمج في حركة واحدة؛ وللدقة، تشكلت حركات يسارية متعددة، ولكن التيار الذي وجده يلاقي هواه وساهم في إيجاده هو الأكثر جديةً في الثورة. حسم أمره وأصبح عضواً فيه، وهو ائتلاف اليسار السوري.
اهتم جهاد بنشر مقالات وتحليلات ضمن تجمعه اليساري، وكان اسم جريدته "اليساري"، وكان يشدد على الاستماع لكافة وجهات النظر وتمثيل الشباب في أي تنظيم سياسي يساري. كان رجلاً مثقلاً بهموم شتى؛ وعدا عن كل ما ذكرته، فهناك الخوف على الناس وقد أصبحوا يعانون الأمرين، وبدأت تظهر مسائل جديدة، كحصار المدن وافتقاد المواد الأولى للبقاء على قيد الحياة في مناطق كثيرة، وتصفية أغلبية الكوادر الأولى في الثورة؛ كان يحمل جبالاً ثقيلة، ويضطر إلى تغيير المواعيد كثيراً من أجل تحرير أعداد الجريدة التي يشرف عليها باعتباره خبير الصحافة الأساسي فيها. كان يتنقل بين أحياء دمشق والمناطق الساخنة، ويمكن أن يقتل في أية لحظة، ومع ذلك يلتزم بصدور الأعداد في مواعيدها. لم يكن لديه وقت للكتابة، ولكن التحرير كان عمله الأساسي، وهو يتطلب وقتاً وجهداً وتركيزاً.
حسم جهاد محمد خياره في الاندماج بالثورة إلى حدود الموت، نعم إلى تلك الحدود، فليس من رجلٍ يفعل ذلك، وإلّا يكون الموت محسوماً من أجل محبوبته الجميلة تلك.
رجلٌ مرهقٌ، لا ينام كثيراً، يأكله الخوف، ومع ذلك لا يهدأ أبداً، يدقق مجلة تنظيمه، ويسرع للركض، فتارةً قد تواجهه سيارة أمنية أو طلقة تنال منه أو حاجزاً يكتشف هويته فيعتقله؛ مرت السنوات بسرعة، لم يكن لديه وقت لاحتساء الخمور أو الاسترخاء قليلاً، فإن كان هناك من أوقات إضافية، فلتكن لرؤية زوجته وأخواته ووالدته. لقد حسم خياره في الاندماج بالثورة إلى حدود الموت، نعم إلى تلك الحدود، فليس من رجلٍ يفعل ذلك، وإلّا يكون الموت محسوماً من أجل محبوبته الجميلة تلك.
كان يفضل رؤية الأصدقاء في مقاهي ساروجة أو غيرها، وفق ما يرتأيه أمنياً، ويعرف الأماكن الأقل خطراً، كان يسير في الأزقة الضيقة والمتعرجة، حتى يصل إلى مقهىً يطمئن إليه. كان يخرج مالاً قليلاً يعطيه لسيدة تمد يدها في الطريق، ويضحك لأطفال مهجرين في الشوارع، ويمد يده إلى جيبه ويعطيهم. كان هاتفه لا يهدأ عن الرنين لتلبية الاحتياجات، وكأنه رجل أعمال يمتلك أموالاً وفيرة، أو سلطة خارقة يطوف بها دول العالم ليأتيهم بتلك الاحتياجات. عقله يعمل بكل طاقته، فكيف سيؤمن تلك الاحتياجات، ومن سيرى، وبمن سيتصل؛ يشرب قهوته سريعاً، ويعتذر لانشغاله بمواعيد لا تنتهي أبداً. لم يكن يملك من المال أكثر من ثمن علبة سجائر "حمراء"، ويرفض أخذه من مؤسسات تخص العمل الثوري، ويكمل فرحه الحزين، وينطلق إلى فضاء الحرية، الذي يحلم به، ويراه سيتحقق لا محالة.
في الفترات الأخيرة، قبل اعتقاله، كان يدب فيه الشعور بالتعب، والخوف على مصير الثورة من الفشل. كان الموت والاعتقال الاحتمال الأكبر له، وهو يعرف ذلك. كان يركض هرباً من قناص ينتظره كفريسة مشتهاة، ويجلس بعدها والدموع تملأ عينيه من كثرة الإرهاق والخوف وانقطاع النفس. كانت غصات البكاء ترافقه يومياً ولألف سبب وسبب.
مع منتصف 2013، وحين لم يعد لنشاطه فائدة كبرى، حيث الغوطة محاصرة، والقادرون على تأمين الاحتياجات، إما هجروا البلاد أو أصبحوا يتهربون من طلباته، كان يرفض إيقاف نشاطه، ويرى أن ما جرى للناس أكبر من الاعتقال والموت، إن حصل له، ولم يكن يحتاط كثيراً، فقد كان يرفض تغيير شرائح موبايلاته، وقد أصبحت أداة اعتقاله والبوصلة الدقيقة إليه؛ ففيها كل مكالماته ورسائله، وتاريخ نشاطاته وحياته مدونة فيها. كان صيداً ثميناً، وهو من المطلوبين الأساسيين ولكافة الفروع. لا نعرف بدقة كيف اعتقل، ولكنه اختطف من الشارع، وتمّ ذلك بعد لقائه بصديق له في قلب دمشق، وبعد مداهمات كثيرة لبيوت أسرته وأهل زوجته وأماكن كثيرة.
اعتقل قبل أيام من ضربة الكيماوي على الغوطة في 21 آب 2013، وربما لو لم يعتقل لقتل بالكيماوي. ترك فراغاً كبيراً في الحياة الثورية، ولم نستطع الاهتداء بأية طريقة من الطرق إلى معلومات عنه؛ الأخبار كلها متضاربة: من احتجازه بالفروع الأمنية في دمشق، ووصولاً إلى السجن الأحمر في صيدنايا. رفاقه القدامى في تيار قاسيون، تبرؤوا منه، فحتى حق العشرة والرفاقية لم يصونوها، رغم قدرتهم على السؤال، وهم يمتلكون معارف كثيرة في أوساط السلطة، ولكن ربما أصبح جهاد عدواً لهم! فكيف لا وهو أصبح يصنف لدى النظام "إرهابياً"، وبأسوأ الاحتمالات "يدعم الإرهابيين".
كانت له مشاريع صحفية، وهو الأديب والخبير، ولأكثر من عشر سنوات، القادر على إدارة صحيفة كاملة. نصوصه التي عُدّت إليها لاحقاً، مكتوبة بلغة الواقع، وبسلاسة الماء والحكي، وفكرته واضحة في الذهن في كل ما كتب؛ كتب أيضاً سيناريوهات لبعض المسلسلات التلفزيونية. رجلنا لديه الكثير من المشاريع الصحفية والأدبية، وكان سيتميز فيها بالتأكيد، ولكن كل ذلك أصبح مع اعتقاله في 10 آب 2013 في مهب الريح التي لا تتوقف أبداً.
لم يكن بكر أبيه فقط، كان بكراً بين الماركسيين في الانضمام للثورة، وفي تسخير كل وقته من أجلها، بل وتسخير كل حياته من أجلها. أجل، قَلّصَ من أناه الثقافية، ولم يهتم بقضية الاعتقال والموت، ولم يركن إلى زوجته وعائلته كما فعلنا وفعل كثيرون أيضاً، وكان بمقدوره ذلك، والاستمرار بالانشغال بقضايا الثورة، ومن موقع الثقافة والأدب والصحافة. رفض جهاد كل تلك المغريات العظيمة، والتي كان فيها، وقُدمت له، وضمن ذلك أرسلت له الرسائل عبر رفاقه القدامى بالعودة عمّا صار إليه، وإن وافق، سيعود معزّزاً مكرّماً، وكما كان وبأفضل منه. تلك العروض، رفضها جملة وتفصيلاً، واستمر بما حَلِمَ به يوماً، أي تغيير النظام والانتقال بسورية إلى دولة لكل مواطنيها، وإنهاء كل أشكال الظلم والمظلومية والاستبداد والإفقار.
مرَّ وقتٌ طويلٌ على صاحبنا في محتجزه، إنّها ست سنواتٍ، وهي ليست رقماً، هي اعتقال وتعذيب وإهانات كارثية، وهي شقاء وانتظار وألم لأسرته ووالدته وإخوته وأخواته وزوجته، ولكل معارفه، وفيها توفي والده، وتضاعفت أمراض والدته، والتي تنتظر بكرها الجميل بلهفة الولادة، فهو مُدلّلها وهي مدلّلتُه وحبيبته. لن نغلق صفحة اعتقاله، وسنظل ننتظره أبداً، ليكون بيننا من جديد، وبسجننا الكبير كذلك.
يحزنني ما آلت إليه بلادي، وما أضاعه النظام من قدرات وطاقات، لن تعوض أبداً. لو اتجه خيار النظام للتفكير بمصير الناس والبلاد، بل وبنفسه، لما أصبحت على ما هي عليه منذ 2011، من اعتقال وحصار وقتل وتهجير وتدمير وحرق ومآسي لا تنتهي أبداً. وبالنهاية أصبحت الاحتلالات تتحكم بكل صغيرة وكبيرة، ولن يكون سهلاً الخلاص منها، وكيف سيتمُّ ذلك وهي على الأرض تماماً، كما ذكر باكياً المفكر السوري الراحل، الطيب تيزيني، قبل وقت قصير.
جهاد محمد.. ننتظره وسيعود.