(هذه الحكاية نتاج تعاون بين موقع حكاية ما انحكت وراديو سوريالي، يمكنكم سماع الحكاية صوتيا على برنامج حكاية وانحكت)
"لن أقبل"
هي جملته التي صرخ بها في وجه الحياة منذ أن بدأ يعي أن المفاهيم والقيم الكبيرة التي تربّى عليها لن تحوّل فقر أيامه إلى شيء، وأن ثياب العيد لا قيمة لها إذا أتت بعد العيد. لم يكن أمامه إلا الرفض، رفض صنع به حلما لم تتحمله حدود قريته الصغيرة (سهوة البلاطة)، وهو الآتي من ريف السويداء البعيد والفقير، متجها صوب الحدود علّه يجد خلفها حياة جديدة.
هي حكاية رحلة ابتدأت كما كل حكايا السوريين هربا من وطن الحروب، سعيا وراء حلم ما. لكنها ليست كباقي قصص الرحلات التي تنتهي بالموت في باطن البحار أو أمام الحدود المغلقة، أو بالوصول والاستقرار في أرض جديدة، هي ببساطة رحلة لا تزال قائمة حتى اللحظة، أو رحلة بدأت من قرية بائسة على حدود العالم، لتصل كهفا في العالم المتحضر!
ما قبل أوروبا
بداية أحلامه بالسفر، كانت في سن مبكرة، فبعد أن أنهى (قصي الحناوي/ 33 سنة) دراسة المرحلة الثانوية، قرّر السفر إلى فنزويلا أسوة بأغلب أصدقاءه وشباب قريته، إلا أنه صدم بمعارضة أهله ورفضهم لسفره، خصوصا والده الذي أمضى في فنزويلا قرابة 11 عاما يعمل في تجارة الألبسة ويعرف البلد حق المعرفة، والذي كان يعي جيدا ما يعنيه السفر إلى هناك، وأنه سيخسر ابنه إلى غير رجعة، خصوصا بعد التحولات الاقتصادية والسياسية التي رافقت وصول تشافيز إلى الحكم عام 1999، والتي سعت إلى مناصرة الفقراء عبر نظام اشتراكي يسعى إلى تأميم الاقتصاد ومعاداة السياسة الأمريكية في العولمة، الأمر الذي انعكس سلبا على المهاجرين والمستثمرين في فنزويلا بشكل كبير، والذين يعتمدون على الأسواق المفتوحة وحركة البضائع والتجارة مع الخارج.
ولأنه كان شديد الإصرار على السفر، وكمحاولة من أهله لتغيير وجهته، اقترحوا عليه السفر إلى دول الخليج القريبة، بما تحمله من فرص كانت بالنسبة لهم أفضل من السفر إلى مجاهل فنزويلا. ولأنه لا يملك خيارا آخر، وخصوصا، أنّ بقاءه يعني ذهابه إلى خدمة العلم، والتي كان مستعدا للموت أو السفر إلى الجحيم بدلا من أدائها، لذا قبل بالسفر إلى قطر بعد أن حصل من أحد معارفه على فيزا كلفته وقتها ما يقارب الألف دولار، دفعها والده أملا أن يردها ابنه له أضعافا في المستقبل القريب.
وصل قطرفي 31 تموز 2006، واكتشف بعد أسبوعين أن "الفيزا ليست للعمل، وأن مدتها لا تتجاوز الإسبوعين، وهي تمنح عادة لرجال الأعمال. عرفت حينها أنّي تعرضت لعملية نصب واحتيال كانت نتائجها السجن والترحيل إلى سوريا بعد أن تمت تسوية ملفي ودفع غرامة تقدر بـ 400 دولار نتيجة بقائي في قطر بعد انتهاء مدة الإقامة المؤقتة" كما يقول لحكاية ما انحكت.
وبسبب عناده، وكمحاولة لإثبات الذات، عاود السفر مجددا. أولا إلى ليبيا في تشرين الثاني 2009، والتي لم يستطع الصمود فيها أكثر من ستة أشهر بسبب قلة فرص العمل، والتي انحصرت ببعض أعمال البناء الشاقة وذات الأجر القليل، ثم إلى مصر التي بقي فيها بين نيسان 2010 وأيلول من نفس العام، والتي لم يستطع العثور فيها على عمل، فغادرها إلى لبنان دون أن يتغير شيء في وضعه العام، إلى أن عاد إلى سوريا مع بداية 2011، وبقي فيها قرابة السنتين ونصف بين منتصف 2011 وحتى بداية 2014، قبل أن يقوده الطريق هذه المرة نحو تجربة ما زالت مستمرة حتى الآن.
في اسطنبول
بعد أن أصبحت سورية ساحة معارك مفتوحة، قرر قصي أواخر عام 2013 الذهاب إلى أوروبا وخوض تجربة اللجوء. ورغم معرفته بكل المخاطر التي سيواجهها إلا أنّ حلم الوصول إلى أرض الأحلام كان يطغى على كل شيء.
لبنان كانت المحطة الأولى، وصلها في 1 شباط 2014، بقي فيها أسبوعين ثم سافر جوا إلى اسطنبول، وفور وصوله إليها أقام في فندق لمدة ثلاثة أيام. ما يحتاجه الآن هو معرفة طريق العبور باتجاه اليونان، وهذا يتطلب التعرف على خطوط التهريب والمهربين. بدت الأمور صعبة جدا وتحتاج لوقت طويل ولن يتحمل تكاليف الإقامة في الفندق وغلاء اسطنبول، فقرر أن يبحث عن مكان رخيص للسكن وعن عمل يتدبر به أموره ريثما يخرج من تركيا.
قادته الصدف للتعرّف على بعض السوريين الموجودين هناك والقادمين من مناطق سورية مختلفة، ويسكنون معا في أحد الأحياء العشوائية والفقيرة، وافقوا على إقامته بينهم.
اتفق قصي مع مجموعة شباب سوريين، كان قد تعرف إليهم على محاولة العبور برا، وهم ثلاثة شبان من مدن سورية مختلفة ( دير الزور، دمشق، حلب). وضعوا خطة للرحلة وجهزوا ما يلزم من حاجيات ضرورية وانطلقوا.
بدأت رحلتهم باتجاه اليونان في 31 تموز 2014، وكان عليهم أولا اجتياز النهر الذي يفصل بين تركيا واليونان (نهر ماريتسا أو إفروس)، وبالفعل استطاعوا الوصول إلى ضفة النهر، وبدؤوا باجتيازه. وهنا كاد قصي أن يغرق لولا مساعدة الشاب الديري له وإنقاذه في اللحظة الأخيرة. وبعدها ساروا داخل الأراضي اليونانية متفادين النقاط الخطرة والمكشوفة إلى أن سدت الطرق أمامهم، وأصبح الاستمرار مستحيلا لوجود أعداد كبيرة من الدوريات في كل مكان.
هنا اتصل قصي بإحدى عاملات الإغاثة في الجانب اليوناني، كان قد حصل على رقمها من أحد أصدقائه في اليونان. وبالفعل ساعدتهم كثيرا، وكان لها الفضل بدخولهم اليونان. نصحتهم بأن يسلموا أنفسهم للشرطة، وهي ستتكفل بالباقي. طبعا القانون كان ينص على إرجاع أي شخص إلى تركيا إذا ما تم مسكه على الحدود، عملوا بنصيحتها وسلموا أنفسهم للشرطة، فاحتجزوهم في معسكر صغير 22 يوم، حققوا معهم، وبمساعدتها أطلق سراحهم وسمح لهم دخول اليونان لتبدأ رحلة جديدة لقصي في اليونان استمرت قرابة السنة.
الوصول إلى أثينا
وصل أثينا أخيرا، وكان في انتظاره صديق مقيم هناك منذ سنوات ما قبل الحرب، إلا أنّ الأوضاع الاقتصادية السيئة التي كانت تعاني منها اليونان كانت واضحة بكل التفاصيل. ولقد فهم قصي حال صديقه سريعا، وأن وجوده معه سيسبب له الكثير من المتاعب التي لا يقدر على تحملها، فمكان سكنه صغير جدا، عبارة عن غرفة ضيقة فيها سرير وطاولة وحمام صغير، عدا عن عمله الذي كان بأسوأ حالاته، فهو بالكاد يستطيع دفع أجار الغرفة والطعام. ورغم ذلك بقي معه 3 أشهر تقريبا، يتقاسمان الغرفة والطعام إلى أن جاء اليوم الذي خرج فيه صديقه من اليونان متوجها إلى فرنسا.
عاد قصي إلى التشرد في الشوارع والحدائق، ولكن هذه المرة برفقة صديق آخر، وصل حديثا إلى اليونان. كانا يمضيان النهار متنقلين بين الجمعيات الخيرية والكنائس التي تقدم وجبات الطعام المجاني، وفي المساء يتوجهان للجمعيات التي تمنحهم مبيتا حتى الصباح.
يحكي قصي لحكاية ما انحكت ما حدث معهم في أحدى المرات: "بينما كنا في إحدى الكنائس مساء، جاءت إحدى الراهبات وطلبت من صديقي أن ينشد مع الفرقة بعض التراتيل بالعربية، وما أن بدأ حتى تعالت أصوات بعض الإسلاميين المتشددين ممن كانوا في المكان، متهمة صديقي بالردة والكفر، والتخلي عن الإسلام واعتناق المسيحية، الأمر الذي أحدث بلبلة كبيرة دفعت الرهبان إلى تهريبنا خارج الكنيسة خوفا علينا من ردات فعل عنيفة".
بحثا عن الدانمارك
كانت أبواب الدول الأوربية مغلقة في وجهه، وبدا الأمر وكأن اليونان ستكون سجنا كبيرا له، وذلك قبل أن يتم فتح الحدود في 2015. فكر بالطريقة التي سيخرج منها، وكانت وجهته الدانمارك حصرا لأسباب كثيرة، أهمها برأيه "أن عدد اللاجئين إليها قليل مقارنة بغيرها، ولأن شروط اللجوء والمساعدات فيها أفضل بكثير من باقي الدول، والسمعة الجميلة عن البلد وشعبها، وبأنها دولة قانون وعدل وحريات، والأهم أنها بعيدة كل البعد عن التعصب والعنصرية والتيارات الدينية، وبخاصة الإسلامية منها". لكن الوصول للدانمارك مكلف وصعب ويحتاج قرابة 5000 يورو تدفع للمهربين للوصول إلى هناك لطول المسافة ومرورهم بأكثر من بلد. لم يكن أمامه إلا طلب المساعدة من أهله في سوريا، كان يحتاج المبلغ في فترة الصيف حصرا وبأسرع وقت ليتمكن من الذهاب، كون طرق التهريب تتوقف بالشتاء بشكل كامل لسوء الأحوال الجوية واستحالة العبور.
وبالفعل قام أهله في سورية، ببيع قطعة أرض مشجرة بالزيتون وأرسلوا ثمنها له والبالغ 5800 يورو. رفض أهله الحديث عن الموضوع حين تواصلت معهم حكاية ما انحكت. ولكن ما أخبرنا به قصي أن بيع الأرض لم يكن بالأمر السهل على الجميع، إلا أنهم اعتبروا القصة محاولة أخيرة لمساعدته علّه يحظى بحياة جديدة في أوروبا.
وعندما عاد فوجئ بأن غرفته قد تم فتحها من قبل المشرفين ومصادرتها منه بحجة أنّ القانون يلزمه بالبقاء فيها 5 أيام في الأسبوع على الأقل، وحرمانه من السكن ومن وجود عنوان محدد له، الأمر الذي يعد كارثة في دولة مثل الدانمارك، فعدم وجود عنوان محدد، يعني أنك متواري أو متخفي، وتصبح حينها في دائرة الشبهات والشكوك، هذا عدا عن أنّ وجود العنوان ضروري لإتمام أي معاملة قانونية.
لم يوفق قصي بالحصول على عمل، ولكنه تعرف على أناس تعاطفوا مع قصته وقدموا له الكثير من المساعدة، منهم سائحة بريطانية تعمل في إحدى الجمعيات الخيرية، تعرّف عليها بينما كانت تزور المكان، فأمنت له مسكنا في قلب المدينة عند إحدى صديقاتها، وسرعان ما اتسعت دائرة معارفه وأحيط بأشخاص طيبين أشعروه بالأمان والراحة، ولكن أحدا لم يستطع مساعدته في الحصول على عمل بسبب إقامته الدانماركية، إذ يعتبر زائرا في إسبانيا ولا يحق له العمل فيها.