"لم يكن لدي أي خيار آخر، لم يسمح لي الاستقرار بتركيا وبقي خطر الترحيل أو الابتزاز منغصا لي خلال الأشهر الستة التي عشتها في تركيا. لم يكن لي أي خيار إلا أن أصدق كذب المهرب لكن بالتأكيد صدمت أن الأمور هنا بهذه الحالة من السوء".
أعاد فهد الجملة مرة ومرتين وثلاثة وهو ينظر نحو البحر، إذ لم يكن يدرك أن الأمور ستنتهي به وبعائلته بين أشجار الزيتون المكسرة خارج مخيم موريا في جزيرة ليسفوس اليونانية. فلقد أُخبروه بأن الأمور تمشي على مايرام والطريق إلى أوروبا ستفتح بعد قليل من وصوله إلى شواطئ الجزيرة.
"كانت الرحلة منهكة ومخيفة. كنت أراقب أطفالي مع كل قطرة ماء تقفز من البحر وتهطل علينا في المركب المزدحم. كان الأطفال يصرخون والرجال والنساء يبكون/ن من الخوف على الأطفال وعلى أنفسنا". هذا ما يقوله لحكاية ما انحكت.
تابعت حركات فهد، وهو يشرح لي الجزء الثالث من مأساة عائلة سورية قذفتها الحياة من مدينة إدلب "بعد قصف وحشي من الطائرات الروسية وطائرات النظام" إلى فراراه إلى تركيا قبل ستة شهور، ومعاناته الشديدة هنالك والتهديد بالترحيل، إلى وصوله اليونان.
يقول لحكاية ما انحكت: "حاولت جاهدا أن أبقى في تركيا. ولكن كان ذلك مستحيلا. كنت في أي لحظة معرّضا للترحيل، ولم يبقى لي إلا حلم الأمان باليونان ولكني الآن ربما أدركت أن ذلك كان وهما أيضا".
هذه باختصار حالة الكثير من العائلات التي عانت الأمرين للوصول إلى اليونان بعد سلسلة من الهزائم في الصراع على إيجاد مكان آمن لهم.
لا ملجأ سوى أشجار الزيتون
يعيش فهد مع عائلته، كما عائلات أخرى في كرم للزيتون خارج مخيم موريا بعد أن ضاق المخيم بساكنيه، فهو مصمم لاستيعاب أقل من 2500 لاجئ ولاجئة، بينما تجاوز عدد اللاجئين حاليا 22000.
تتراكم الخيم فوق بعضها البعض فلقد امتدت الخيم إلى التلال المحيطة بالكرم وإلى الوادي المحيط بالمخيم. عائلات لا تعرف بعضها البعض تتشارك بخيمة واحدة، مقسمة بستار أو بطانية عسكرية وزعتها عليهم الأمم المتحدة.
خيام بين قبائل الذباب والقمامة
ومع تجاوز كرم الزيتون القدرة على الاستيعاب، تقلصت المساحة المتاحة للأطفال للعب أو الجري أو حتى الوقوف للتفرج على ما يجري في العالم المحيط بهم. فبين الخيمة والخيمة مسافة قصيرة تشغلها الحبال المثبتة للخيم وعلى اليمين، ومن كل الجهات تحاصر الخيم أكوام القمامة برائحتها الكريهة وقبائل الذباب الحائم حولها.
لا مكان للطفولة
للمرة الأولى أرى هذا العدد من الأطفال، وخصوصا أطفال تحت سن الخامسة. البعض منهم اخترع بعض الألعاب من الحجارة أو الحصى الموجودة بكرم الزيتون والقسم الأكبر يقف على حافة الكرم ليرى العابرين المنسيين على الطريق الترابي الخشن. ليس هنالك مدرسة ولا أقلام، وليس هنالك طعام نظيف ولا نظافة، بل هنالك نفس الثياب لجميع الفصول، ثياب الصيف نفسها ثياب الشتاء.
سألت أحد الأطفال: "ماذا يريد أن أجلب له من المدينة؟ فقال لي: "باص صغير أو سيارة صغيرة" أجابته والدته: وأين ستلعب فيها؟ وعلى الفور ذبلت ابتسامته ونظر نحو الأرض. حكاية هؤلاء الأطفال هي قلب الألم في هذا المخيم المعزول عن الإنسانية وعن الحياة الطبيعية.
خيبة الحلم بأوروبا والخوف من كورونا
"هل فعلا هذه أوروبا؟ أم نحن في مخيم للنازحين في إدلب" سمعت هذه العبارة من العديد من اللاجئين واللاجئات. الصدمة لا يمكن أن تخفي نفسها من عيون هؤلاء.
المخيم وكرم الزيتون في حالة ميؤوسة منها. إنهما يفتقدان النظام والأمان الصحي في هذه الفترة الحرجة حيث العالم بأكمله في حالة خوف من انتشار فيروس الكورونا بينما يعيش آلاف اللاجئين واللاجئات في حالة ذعر من انتشار المرض.
"سننتهي جميعنا إن وقع شخص واحد ضحية هذا الفايروس"، تصرخ لاجئة، وهي تحمل طفلها الصغير بعد أن تعذر إيجاد أي نوع من المعقمات حيث خلت الصيدليات والمتاجر منها بشكل كامل. كل ما كنت أسمعه هو طلب المعقمات وكانت النتيجة واضحة "غير موجود".
فوق الموت "يمين متطرف"
قبل أيام، قامت جماعات من اليمين المتطرف بمهاجمة اللاجئين، وأيضا هاجموا بعنف شديد المتطوعين والمتطوعات وغالبيتهم من الأطباء والطبيبات والممرضات، فاضطر هؤلاء لمغادرة الجزيرة، وبذلك أصبحت الخدمات الطبية شبه معدومة.
وفي الأيام القليلة الماضية فرض ما يشبه حظر التجول على مخيم موريا وصارت حدود تحركاتهم محدودة جدا فلا يمكنهم الوصول لمدينة متيليني عاصمة الجزيرة، ولا يمكنهم أيضا الذهاب للقرى المحيطة. وما زاد الطين بلة قطع إدارة المخيم مساعداتهم المالية القليلة بالأساس بحجة أن العاملين لا يمكنهم الوصول لمكان عملهم. لقد تُرك هؤلاء اللاجئون في حالة من الفراغ غير المسبوق، فلا يمكنهم الحصول على الأدوية اللازمة ولا يمكنهم شراء الحاجات الأساسية للطعام والشراب. وهنالك مشكلة حقيقية في الوصول إلى المياه النظيفة حيث صار انقطاع المياه عن المخيم حالة معتادة.
وللأسف تترافق كل هذه المعطيات المخيبة للآمال مع محاولة العالم كله التغلب على فيروس كورونا بينما ينام لاجئو ولاجئات مخيم موريا جنبا إلى جنب مع الرعب من الإصابة.
بانتظار الكارثة
كما في العالم الخارجي الآن، لا يفرق الوضع الحالي بين قادم جديد إلى المخيم وبين مقيم قديم. فالكل مشمول بالكارثة المحتملة لانتشار وباء الكورونا والكل منشغل باليأس المحيط بهم. فالمخيم وما جاوره شديد الازدحام، فلا مسافة أمان أو تباعد يمكن الحصول عليها ولا مقومات صحية أو نظافة معقولة يمكن تأمينها. هنالك لاجئون مازالوا ينتظرون منذ سنوات ولكن لم يعطهم هذا الانتظار أي خصائص أو مزايا أكثر من الذين وصلوا حديثا. هنالك أيضا أطفال ولدوا في الأسابيع الماضية، وهنالك رجال ونساء تزيد أعمارهن عن السبعينات ويبدو أن السلطات اليونانية قررت أن أكثر ما يمكن القيام به هو عزل هؤلاء الناس عن بقية المناطق، فإن أتت الكارثة فلتأتي في تلك الدائرة فقط.
لكني، مازلت أتذكر ذلك الصوت الذي مر علي مرات ومرات خلال أيام "فقط نريد أن نعيش بأمان كناس طبيعيين. ليس لدينا طمع في أي شي فنحنا فقط هربنا لننجو من الحروب".