عندما كانت الثورة السورية في أكثر لحظاتها إشراقاً مطلع عام ٢٠١٢ كان شارع الحمرا في بيروت، جهة للانتقال المؤقت لكثير من السوريين المعارضين للنظام أو أقلها الغير مدافعين عنه. انتعش شارع الحمرا اقتصادياً وثقافياً وسياسيا حيث تحولت معظم مقاهيه وباراته إلى أماكن لنقاش عن مستقبل الثورة ومنعطفاتها، حيث شهدت العديد من مقاهيها اجتماعات لجهات ثورية مختلفة. ومثلما استشعر اللبنانيون الانفراج في مستقبل بلدهم الذي جثمت على صدره سياسات عائلة الأسد، كان السوريون يتنفسون الصعداء في المدينة البحرية الي عاش فيها معظم مناضلي الاستقلال الوطني من مثقفين وسياسيين إبان الصراع العربي الإسرائيلي.
شتاء مبكر
لكن الربيع الذي زحف من سوريا نحو لبنان سرعان ما سيجعل منه حزب الله شتاء قاسياً طويلا سيخيّم فيه الظلام لسنين عديدة. ومع انتصاراته اللاإلهية في سوريا بدأ تضييق الخناق على السوريين واللبنانيين في شارع الحمرا، وفي مناطق بيروت الغربية عموماً، حيث بدأت الرسائل المبطنة بانتهاء حقبة التواجد والحديث، والتعاطف العلني مع الثورة السورية.
لملم الكثير من السوريين حقائبهم ليسيروا في طريق المنفى الذي بدأ مع تصاعد الوحشية من قبل النظام السوري وحلفائه بقصف المدن وتدميرها، حيث بدأت موجة اللجوء الأولى نحو أوروبا.
بيروت... منفى مؤقت!
لملمت حقائبي واتجهت نحو إيطاليا أولا ومن ثم إلى حلب لتكون محط استقراري. ومع اقتراب سقوط المدينة، اخترت الخروج إلى تركيا ومن ثم عدت إلى بيروت مطلع ٢٠١٦، حيث اخترت أن تكون منفاي المؤقت. كان معظم السوريين قد هربوا إلى الطرف الشرقي من المدينة، وتحديداً منطقة الأشرفية. وبين حي الجعيتاوي ومارمخايل والجميزة سيشكل هذا المثلث المجال لحراك ثقافي ثوري بين السوريين واللبنانيين المناهضين للسلطة القمعية في كلا البلدين. فعند دخولك حي الجميزة، وفي إحدى زواريبه تجد مقهى دواوين الذي تحوّل إلى مساحة لعرض الكثير من الفعاليات الفنية المناهضة للنظام السوري، حيث عرضت في قاعة السينما الصغيرة الكثير من الأفلام التي تناولت الثورة السورية، وفيها قدّمت العرض الأول لفيلم ٣٠٠ ميل. حيث سيتعاون دواوين مع مؤسسة بدايات لاستضافة تلك العروض السينمائية، ومن دواوين ستسير حتى مطعم لوشيف، أحد أشهر معالم الجميزة، وسيبتسم لك شيف المطعم شربل مراراً وأنت تصعد إلى مكتب مؤسسة بدايات حيث تستطيع أن ترى من شرفة مكتبه ليلا أضواء المرفأ الأليفة. سيتحول مكتب بدايات إلى وجهة لكثير من المخرجين السوريين الخارجين من المناطق المحاصرة أو المحرّرة، وسيصنع الكثير منهم أفلامه الأولى من مكتب بدايات في الأشرفية، حيث ستشعر بذلك التناقض الغريب بين الإحساس بالأمان وقبضة السلطة التي من السهل أن تطالك وترسل بك الى أحد سجون النظام كما حدث مع الكثير من الناشطين الذين سلّمتهم السلطات اللبنانية للنظام السوري.
وفي الجميزة سأعيش مع الكثير من الأصدقاء، وسنناقش أحلامنا في صناعة سينما سورية مستقلة، وسنرفض بشكل ملحمي خيارات اللجوء، وسنسهر ليالي طويلة في لهيب المدينة ونحن نستعرض فيديوهات للثورة السورية.
في أحشاء المكان: الجميزة، مار مخايل، الجعيتاوي
تسير في شارع الجميزة الأثري، بأضوائه اللطيفة التي تشيع في نفسك شعوراً دافئاً يعيدك إلى دمشق، وباتجاه طلعة العكاوي ستنتهي بصوفيل شريان السينما الأخير في المدينة، والتي قدمت لسنين طويلة مجموعة من الأفلام الاستثنائية وستكون حجر الأساس في عرض أفلام مخرجي الثورة السورية، وهناك أيضاً سأقدم عرضين لفيلمي ٣٠٠ ميل في أيام بيروت السينمائية وضمن مهرجان مينا الثقافي الذي كانت تنظمه مؤسسة اتجاهات. وأمام سينما صوفيل نوقشت الكثير من الأفلام بما يشبه المظاهرات الثقافية، وكنت تسمع نقاشات حادة عن المناطق المحاصرة، وعن حمص وحلب وبيروت وحزب الله وتدخل النظام بالسياسات اللبنانية ورفض أسلوب السلطة السياسية في لبنان وتحالفاتها.
تحولت أحياء: الجعيتاوي، مارمخايل والجميزة إلى وطن حقيقي منع الكثير من السوريين من التفكير بالهجرة أو اللجوء
تنحدر من العكاوي وتكمل إلى مار مخايل النهر حيث تستقبلك مقاهي وبارات الحي الذي تكتظ لياليه بصخب الموسيقى والمتسكعين والمتسولين وبياعي الورود، يتسع الشارع لهم جميعاً دون مضايقات تذكر. هناك افترش ويفترش الكثير من السوريين واللبنانيين والأوروبيين أدراج الحي لتدور العديد من النقاشات، الفعاليات والسهرات التي تحاول أن تجمّل من سطوة وضجيج المدينة وتعقيدها. وليس بعيداً عن أحد تلك الأدراج ستجد مكتب اتجاهات، منزل أثري قديم بحديقة عرّشت فيه ياسمينة تذكرك أول وقوع عينك عليها بسوريا. ورغم كل الظروف المعقدة، تحاول المؤسسة تقديم دعم للفنانين الذين يصارعون في المدينة من أجل التمسك بخياراتهم في الصمود فيها، حيث أطلقت مهرجان مينا الذي حاول أن يشيع جواً ثقافياً سياسياً مع تصاعد التضييق على السوريين المعارضين في بيروت. ومن مكتب اتجاهات يمكنك السير بضع عشرات الأمتار لتنعطف بأحد الزواريب وتسير بين بيوت تذكرك بكثير من أحياء سوريا الحميمية لتصل إلى رواق، تلك المساحة التي تحوّلت إلى متنفس حقيقي لجميع السوريين واللبنانيين القاطنين في حي الجعيتاوي، وستتيح لك تلك المساحة أن تتحدث بحرية مطلقة في مسائل لا تستطيع مناقشتها في الكثير من الأماكن في بيروت، وسيحتضن رواق العديد من الفعاليات الثقافية الفنية السياسية التي ناقشت بحماس الثورة السورية وتطورات الوضع اللبناني. وعندما ستصل إلى نهاية شارع مارمخايل يمكنك أن تقطع الطريق إلى مسرح زقاق، الذي أسسه مجموعة من الشباب اللبناني ليتحول المسرح إلى واحد من الأماكن القليلة في المدينة التي تقدم مسرحاً جاداً ومساحة فكرية مستقلة ومعارضة تتسع لللبنانيين والسوريين معا.
بيئة حاضنة للثورة
تحولت تلك الأحياء عند اندلاع ثورة ١٧ تشرين إلى الظهر الحامي للثوار من مطاردات الأمن وشكلت عمقاً استراتيجياً لهم للاختباء في بيوتها وحواريها أو الانتقال منها إلى أماكن آمنة، حيث سيعلن الكثير من سكان هذه الأحياء من سوريين ولبنانيين بيوتهم مفتوحة أمام الثوار الهاربين من قوات الأمن والمخابرات. ومن هذه الأحياء انطلقت الكثير من المظاهرات، ووجد أبناء الشمال مكانا آمنا لهم أثناء الهروب من مطاردات الأمن.
أمضيت كغيري من السوريين ممن لا يحملون أوراقاً رسمية متوارين في أحياء الأشرفية، نتسكع في أحيائها ومقاهيها وباراتها، حيث وجدنا متنفساً حقيقياً من رعب المدينة التي سيطرت عليها القبضة الأمنية الموالية للنظام السوري. وسيتفهم الكثير من أصحاب البيوت التي أقمنا فيها وضعنا غير القانوني وسيتعاطفون مع موقفنا السياسي حيث لم يعد هاجساً لنا الطرد من المنزل تبعاً لانتمائنا وموقفنا السياسي، وسيمكنك أحياناً سماع أغاني الثورة في البيوت أو مسبات تطال النظام السوري دون أن يسيطر عليك هاجس ورعب الاعتقال أو الترحيل.
وستتحول أحياء الجعيتاوي، مارمخايل والجميزة إلى وطن حقيقي منع الكثير منا من التفكير بالهجرة أو اللجوء. كان يمكنك إيجاد مئات الأسباب التي تجعل العلاقة مع هذه المدينة ممكنة، وكنا نفكر في كثير من الأحيان بذلك الإيهام الحقيقي بأن تلك الأحياء تذكرنا بمدننا التي قدمنا منها.
بين هنا وهناك
في حي الجعيتاوي سأعيش جميع ذكريات الثورة السورية، أنزل من منزلي نحو وسط المدينة وأمشي قرب ياسمين الحواري الذي طالما ذكرني بأحياء شمال الخط في درعا، ثم أهبط نحو الجميزة لأتذكر أحياء دمشق، وفي كثير من الأحيان ما ضحكت لذلك الالتباس الغريب عندما وجدت نفسي أمام الجامع العمري قرب المجلس النيابي حيث يتجمهر المتظاهرين ويرمون الحجارة محاولين اقتحام المجلس. لن يمر يوم دون أن تلتقي بأحد الأصدقاء اللبنانيين العائد من المظاهرات ليطمئن عليك، أو ليهاتفك ويعرض عليك جميع أنواع المساعدة، على الرغم من الاختناق الكبير الذي بدأ يشعر به السوريون واللبنانيون بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية والسياسية، ستشعر أنك محاط بعائلة كبيرة ما إن يقع حدث طارئ حتى يهب الجميع لتقديم المساعدة.
أغلقت العديد من المؤسسات الثقافية أبوابها، وكان الاختناق السياسي وأزماته يلقي بظلاله على هذه الأحياء حتى أغرقت بالظلمة وأغلقت جميع مقاهيها وباراتها في فترات الحظر المتكررة، والتي كسرها خروج الثوار من هذه الأحياء في مظاهرات نحو جسر الرينغ الذي تحول إلى جسر الثورة، وكنت أتوقع أنّ جنونا ما سيضرب المدينة لكنني لم أتوقع أن يكون بهذا الحجم.
عندما نزلت من بيتي عقب انفجار الميناء هالني الدمار وأفقدني صوابي، لم يكن مشهد المصابين هو فقط المؤلم. لكن سرعان ما أدركت أن هذه الأحياء تعيش مصير جميع المدن الثائرة التي مسحتها يد الهمجية والوحشية. وسرعان ما عادت لذاكرتي دخول أحياء حلب الشرقية منتصف عام ٢٠١٢. سقطت هذه الأحياء خلال دقائق. مسح وجهها المشرق ونزفت دماً في بيوتها وحواريها.
دمرت هذه الأحياء البيروتية كما دمرت أخواتها في درعا وحمص وحلب. لقد دمروا وجه هذه المدن المشرق، وكأن قدر الأحياء الثائرة أن تسوّى في التراب، وأن تتحول إلى رماد لتعود تحت الوصايات والانتدابات والاحتلالات المتعددة. لكن هذه الأحياء ستبقى شاهداً على أن أبنائها حلموا بالحرية والعدالة والمساواة وقد دفعوا دمهم ثمناً لذلك الحلم الذي أشاح العالم وجهه عنه.