أنديّة سوريّة في ساو باولو

طمس الحدود بين "هنا" و"هناك"... الحياة السياسيّة والأدبيّة السوريّة في البرازيل


على بعد آلاف الأميال عن الوطن تأسّس في مدينة ساو باولو البرازيليّة عددٌ من النوادي الاجتماعيّة، منها "نادي زحلة" و"نادي حمص"، اللذيّن تأسّسا على أيدي مهاجرين سعوا وعملوا لإبقاء الوطن قائمًا معهم. ترصد هذه المادة حياة هؤلاء المهاجرين والأسباب التي دفعتهم لتأسيس هذه النوادي، حيث قرؤوا الفلسفة والشعر، ولكن في كثير من الأحيان كانوا يرتادون هذه النوادي بغرض العثور على فرصة عمل، أو ببساطة من أجل قضاء الوقت سويّة جالسين فوق كراسٍ جلديّة، وسط الألواح الخشبيّة الداكنة ودخان التبغ الكثيف.

15 آذار 2022

ستايسي فاهرينتولد

أستاذة مشاركة في مادة التاريخ، في جامعة كاليفورنيا، ديفيس.

Translated By: دلير يوسف

هذا المقال جزء من ملف حكاية ما انحكت "سوريّات صغرى في العالم الكبير"، وقد نُشر أولًا باللغة الإنجليزيّة وهذه ترجمته العربيّة.

 

عند دخول بهو نادي زحلة في مدينة ساو باولو البرازيليّة، يُمكن للمرء أن يتوقّع العثور على صداقة جديدة. هذا النادي الذي اهتمَ بما يحدث في سوريا، كان واحدًا من عشرات النوادي التي ظهرت في المدينة التي شكّلت أكبر مركز للشتات السوري في العالم في عشرينيات القرن الماضي. كانت الإمبراطورية العثمانية قد انهارت للتو بعد مئات السنوات من حكم سوريا، وأخذ الانتداب الفرنسي مكانها، كما كان لبنان الكبير قد ظهر منفصلًا عن سوريا.

لافتة كُتبت بالخط العربي ووُضعت في صالون النادي تقول:  "التقسيم يؤدي إلى الزوال". بالقرب منها، علّق الحاضرون معاطفهم وقبعاتهم الأنيقة المصنوعة من القش وقد كانت من أحدث صيحات أزياء مدينة ساو باولو، مثل أزياء باوليستا وغيرها، قبل الاستمتاع بلعب طاولة النرد أو البلياردو أو قراءة الشعر، وهم يشربون القهوة ويدخنون السجائر. كانوا في وطنهم الجديد على بعد أكثر من 10,000 كيلومتر عن سوريا.

مدخل نادي زحلة، ساو باولو 1924. الصورة من جريدة الرائد (محرّرها نجيب حداد)

كانت تسعينيات القرن التاسع عشر فترة هجرة جماعيّة من منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط. أبحر أكثر من نصف مليون شخص من سوريا العثمانيّة لتجربة مصير جديد في الأمريكتين، والتي عُرفت عربيًا باسم المهجر. سيعملون، ويوفرون المال لبضع سنوات، على أمل أن يعودوا إلى ديارهم لشراء عقارات. وصل معظم هؤلاء المهاجرين أولاً إلى "مستعمرات" حضريّة مرتبطة بالموانئ البحريّة الأطلسيّة، قبل أن ينتشروا على طول السكك الحديديّة كباعة متجولين للمنسوجات الصغيرة أو الأيقونات التعبديّة أو غيرها من السلع الصغيرة.

من تلك الأراضي البعيدة كانت البرازيل، واحدة من عدّة دول وصل إليها مهاجرون من أوروبا وآسيا والشرق الأوسط بعد تسعينيات القرن التاسع عشر. في أفضل السيناريوهات، استغرق عبور المحيط انطلاقًا من بيروت وصولًا إلى البرازيل شهرًا. كان العثور على اتصالات سريعة بين السوريين الذين يعيشون في المستعمرة أمرًا حاسمًا لنجاح المهاجر الجديد. عُرف الوافدون الجدد من سوريا وجبل لبنان وفلسطين أولًا باسم بلداتهم الأصليّة، حيث عملوا ضمن شبكات البلدة التي جاؤوا منها، كباعة متجولين أو كأصحاب مخازن أو وكلاء موانئ أو على رصيف الميناء، يساعدون في الاستيراد والإقراض الصغير والمساعدة في الهجرة.

الروزانا... مجاعة، وسفينة، وأغنية شعبية عبرت الحدود

12 شباط 2021
لا أحد يعرف تحديدًا من أين جاءت الأغنية الشعبية الشامية الشهيرة "عَ الروزانا"، سواء تصاعدت أنغامها من سفينة إيطالية تحمل الطعام خلال المجاعة الكبرى في لبنان، أو من قصّة حب...

سرعان ما أصبحت كلمة سيريو البرتغاليّة (Sírio) تدل على عرق معين، إلى جانب كلمة ليبانيس (libanês)، والتي ظهرت بعد وصول مهاجرين إلى الموانئ البرازيليّة بعد سقوط الإمبراطوريّة العثمانيّة. مثل الدول الأخرى في الأمريكتين، ميّزت الحكومة البرازيليّة بين الوافدين الجدد من سوريا ولبنان وفلسطين، والمواطنين العثمانيين الآخرين أو التوركوس (turcos)، الذين استبعدوا من قانون الهجرة النظاميّة.

بحلول عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، كانت البرازيل موطنًا لأكبر جالية من السوريين خارج الشرق الأوسط، بتعداد بلغ 162,000 شخص بحلول منتصف العشرينيات، واستمرت أعدادهم في النمو. كان لدى العديد من السوريين واللبنانيين عم أو أخ أو ابن عم يعمل في ساو باولو البعيدة من أجل إرسال الأموال والقهوة البرازيليّة والكتب إلى عائلاتهم في الوطن.

كان خورخي جيرمانوس البالغ من العمر ثمانية عشر عامًا من بين هؤلاء الوافدين الجدد، وصل إلى البرازيل في عام 1920 قادمًا من مسقط رأسه، مدينة زحلة الواقعة في وادي البقاع في لبنان الحالي. كان يعتزم الذهاب إلى فرنسا لمواصلة دراسته التي توقفت بسبب الحرب العالمية الأولى.

لسبب من الأسباب، انتهى به الأمر على بعد آلاف الكيلومترات، في مدينة ساو باولو، حيث وجد عملاً كبائعٍ متجوّل لتجّار الحرير المولودين في زحلة. انضم إليه باقي أفراد عائلة جيرمانوس لاحقًا في عام 1926، حين كان قد ادّخر ما يكفي من المال.

كان الحيّ الذي استقروا فيه، بالقرب من Rua 25 de Março، هو رد ساو باولو على شارع واشنطن، الطريق الرئيسي لسوريا الصغيرة في مدينة نيويورك. كان هذا الحيّ مركزًا لما كان جيرمانوس يُعرّفه باسم "ساو باولو السوريّة". جُذب السوريون الوافدون إلى هنا بسبب النوادي الاجتماعيّة والمقاهي وثقافة الطباعة باللغة العربية. في الخارج، في الشوارع، كانت المتاجر الصغيرة متاخمة للمساكن التي أقام فيها المهاجرون الجُدد أثناء بحثهم عن عمل. كان الباعة المتجوّلون السوريون موضوعًا للبرازيليين حين يتحدثون حول هذا الشارع. عزّزت المقالات الصحفيّة البرازيليّة الصورة النمطيّة للباعة المتجولين كعلامة مميزة لحيّ Rua 25 de Março.

"لا مكان نذهب إليه"

كانت زحلة تمرّ بتغييرات مضطربة حين غادر جيرمانوس وطنه. أولًا، كان هناك سقوط الإمبراطورية العثمانيّة، ثمّ، كان صعود الانتداب الفرنسي.

على الرغم من أنّ هذا جعل من السوريين واللبنانيين رعايا للاستعمار الفرنسي نظريًا، إلّا أنّ معظم الذين انتهى بهم المطاف في البرازيل عاشوا ضمن فئة جنسيّة غير مؤكدة: حاملو جوازات السفر العثمانيّة البائدة الذين لم يختاروا جنسيتهم. منحت معاهدة لوزان لعام 1923 هؤلاء المهاجرين الحق الأساسي في إعلان أنفسهم إمّا سوريين أو لبنانيين، أو السعي للحصول على الجنسية البرازيليّة من خلال التجنيس. لكن في الممارسة العمليّة، فقد جعل الانتداب الفرنسي هذه العملية صعبة.

سواء كان ذلك بسبب القصور الذاتي أو بسبب عدم الثقة في النظام أو بسبب الرفض الصريح للسيطرة الفرنسيّة على سوريا، فإنّ معظم المهاجرين لم يفعلوا شيئًا ببساطة، وظلّوا متمسكين بوثائقهم العثمانية. شكّل هذا عقبات لهم عندما أرادوا السفر عبر الحدود الدوليّة أو عبر المحيطات. هكذا ضلّوا عالقين في الشتات.

"نحن هنا لوحدنا، بقدرة الله" تذكر جيرمانوس ما قاله* مرة لأحد الأصدقاء في العام 1922: "ليس لدينا مكان للذهاب إليه". هذا الإحساس بالضياع صار يُعرَف باسم "الغربة"، الشعور بالنفي عن الوطن، الشعور بالعزلة.

"سوريات صُغرى" في العالم الكبير

26 تموز 2021
في مقدمة ملف "سوريّات صغرى" يكتب رئيس تحرير حكاية ما انحكت، محمد ديبو، عن الهجرات السوريّة المتتاليّة منذ قرن مضى وعن "المجتمعات السوريّة" التي بنوها في بلادهم الجديدة، وعن انتظار...

في مقابلة عن التاريخ الشفوي نُشرت بعد عقود، حكى جيرمانوس عن كيفيّة تعاونه مع زملائه من الزحلاويين، الملحّن نجيب حنكش وجورج هلال، لتأسيس مساحة لشعبهم في ساو باولو. بدؤوا بالعمل من خلال شبكات تعود إلى مسقط رأسهم، وقاموا بحملات بين تجار النسيج في المدينة لجمع الأموال. إلى جانب حنكش، تقرّب جيرمانوس من جورج بك معلوف، وهو مُصنّع بارز للمنسوجات الحريريّة ويُعرف باسم "والد الزحلاويين" في ساو باولو بسبب منصب والده العثماني. أراد الرجال رعاية معلوف من أجل إنشاء قاعة اجتماعات. وافق الرجل.

على الرغم من أنّ نادي زحلة بدأ برجال من البلدة الواقعة في وادي البقاع، إلّا أنّ أعضاؤه لاحقًا كانوا رجالًا انحدروا من كل مناطق سوريا ولبنان الكبير. كان أعضاء النادي حصرًا من الذكور، وقد أقاموا صالونات وقراءات شعريّة ومسرحيّة. في هذا المكان ازدّهرت ثقافة أخويّة كاملة، متركزة حول الترفيه والأدب.

الأهم من ذلك، مثّل النادي امتدادًا برازيليًا للنهضة العربيّة، وهي الصحوة الفكريّة التي ازدهرت في ذلك الوقت، وارتبطت ارتباطًا وثيقًا بثقافة الطباعة السوريّة في شرق البحر الأبيض المتوسط وشبكات المهاجرين من جميع أنحاء الشرق الأوسط.

صورة من العام 1902 لناشريين سوريين في ساو باولو، البرازيل. من اليمين: شكري جرجي انطون، فارس نجم (سيصبح فيما بعد رئيس جمعية النهضة اللبنانيّة في البرازيل)، قيصر إبراهيم معلوف (القنصل العام العثماني في ساو باولو)، نعوم لبكي (محرر جريدة المنظر). خليل الخوري قصب (الذي عمل فيما بعد في نقابة الصحافة اللبنانيّة). جلوسًا: شكري كوري (محرر جريدة أبو الهول). الصورة من جريدة أبو الهول.

من الصحف وصولًا إلى غرف القراءة

ابتداءً من تسعينيات القرن التاسع عشر، ظهرت عشرات الصحف السوريّة/ البرازيليّة في ساو باولو. تمّ تحرير معظمها من قبل أدباء المدينة، ودبلوماسييها، ومن قبل الاشتراكيين والقوميين على حد سواء، مثل صحف: "الأفكار" لسعيد أبو جمرة، و"أبو الهول" لشكري الكوري، و"المفكر الحر" لجورج حدّاد، و"الفرائض" لإبراهيم فرح، و"المنظر" لنعوم لبكي، و"البرازيل" لـ"جي مسارا"، و"الجليّة" لسامي راسي.**

قدمت هذه المطبوعات نفسها كمستورد للنهضة العربيّة إلى المهجر، فقاموا بنشر الأخبار المحليّة، وتغطية الشؤون السوريّة في بلاد الشام وفي مصر وفي الأمريكيتين، كما نشروا الشعر والفلسفة السياسيّة والروايات والخطابات القوميّة عاكسين ما يحدث في الشرق الأوسط. احتفظت معظم هذه المطبوعات بمكتبات صغيرة، وغرف للمطالعة التي شكّل روادها، أوّل النوادي الاجتماعيّة في المهجر.

بحلول نهاية القرن!، كان بإمكان الرجال السوريين الدخول إلى غرف القراءة. كانوا يلتقون بالأصدقاء، ويحتسون القهوة، ويلعبون طاولة الزهر وألعاب الورق، ويناقشون الأحداث الجارية. كان بإمكان الرجال قراءة الفلسفة أو الشعر، ولكن في كثير من الأحيان كانوا يأتون بغرض العثور على فرصة عمل، أو ببساطة من أجل قضاء الوقت سويّة جالسين فوق كراسٍ جلديّة، وسط الألواح الخشبيّة الداكنة ودخان التبغ الكثيف.

قصة مرسومة: في أحوال المنفيين

19 تشرين الأول 2021
حكاية مرسومة قام بتصميمها رامي خوري، محرّر الوسائط المتعددة والفيديو وتحرير الصور والصوت في موقع حكاية ما انحكت، بناء على حكاية كتبها محمد ديبو، ونُشرت سابقًا تحت عنوان"في أحوال المنفيين".

عشرات من هذه النوادي الاجتماعيّة ظهرت في الحيّ السوري في ساو باولو بحلول عشرينيات القرن الماضي، في المقام الأول حول شارع Rua 25 de Março، مثل نادي زحلة. معظم هذه النوادي تسمّت بأسماء مدن الوطن مثل حمص أو حلب أو مرجعيون أو جبل لبنان أو رام الله، ورغم أنّ معظمها كان منفتحًا على أيّ "سيريو" يدفع مستحقاته ويلتزم بقضايا النادي.

استبعدت أندية الرجال النساء باسم الذكورة السوريّة المثاليّة والأبويّة المحترمة التي صبغت ذلك العصر. المنظمات النسائيّة ظهرت بشكل مستقل، مثل مستشفى المدينة الذي أُنشئ في العام 1921 تحت اسم "مستشفى سيريو ليبانيس"، نتيجة مبادرة نسائية. كانت المجموعات النسائيّة أيضًا وراء إنشاء دار الأيتام والمدرسة الداخليّة في الحيّ السوري.

"حافظوا على شعلة العروبة حيّة"

تجولوا في نادي زحلة في أوج ازدهاره وستجدون غرفة تلو الأخرى ممتلئة بالرجال السوريين المجتمعين للّقاء أو لمناقشة الكتب وللتخطيط لمبادرات مساعدة. تعرض المكتبة كتبًا باللغة العربية طُبعت في ساو باولو، ومن المحتمل أن توجد نصف دزينة من الصحف العربيّة المحليّة. في الجوار، كان الصالون ذو الكراسي الثقيلة هو نقطة الانطلاق لقراءات الأدب والشعر، أو للنقاش السياسي.

في هذا المكان، في العام 1923، قدّم النادي مسرحيّة مستوحاة من كتاب العجائب للرحالة الأندلسي أبو حامد الغرناطي، راسمة غربته عن غرناطة وسقوطه في أيدي ملك المرابطين واستكشافه للأراضي الواقعة وراء البحر في إطار درامي. تذكر خورخي جيرمانوس لاحقًا المسرحيّة على أنّها قصّة نزوح وهروب. لقد رأى تشابهًا واضحًا بين الراوي الأندلسي للقصة والحياة السوريّة في بيئة بعيدة عن الوطن، في أمريكا اللاتينيّة. الشاعر المولود في زحلة فوزي معلوف قدّم شعره هنا أيضًا في العام 1923، كان هذا هو الأول من عشرات القراءات التي حدثت في إطار حركة أدبيّة جديدة سُميت بالرابطة الأندلسيّة. يمثل الكتّاب في هذه الدائرة ردّ المهجر الجنوبي على رابطة "القلم" لجبران خليل جبران التي أنشئت في نيويورك.

في البهو، التقى الرجال من أجل لعب البلياردو وطاولة النرد. وربّما التقى أعضاءه لاحقًا للعب كرة القدم في دوري للمهاجرين مع لاعبي كرة قدم إيطاليين وألمان وبرازيليين، وكثيرًا ما فازوا بالبطولات.

صالون نادي زحلة، ساو باولو 1924. الصورة من جريدة الرائد (محررها نجيب حداد).
غرفة ألعاب نادي زحلة في العام 1924، حيث التقى الشباب من أجل لعب طاولة الزهر أو الشطرنج أو الورق، الصورة من جريدة الرائد (محررها نجيب حداد).

كان يقع نادي حمص بالقرب من نادي زحلة. قبل تأسيس النادي في العام 1920، قاتل الثوّار العرب وخسروا معركة أخيرة ضدّ القوات الفرنسية خارج دمشق. قتلت معركة ميسلون، كما عُرف لاحقًا، أيّ أمل في استقلال سوريا عن الحكم الفرنسي. وصلت الأخبار إلى البرازيل. في أعقاب ذلك، أراد مؤسس النادي جورج أطلس، وهو ناشر من حمص، قضى معظم حياته في مختلف أنحاء الأمريكتين، أن يكون نادي حمص مساحة للحفاظ على حركة الاستقلال في المنفى. كان أطلس قوميًا عربيًا متشدّدًا، فقبل أربع سنوات فقط، شنقت حكومة جمال باشا صديقه بسبب آرائه السياسيّة.

توفي جورج عام 1923، لكن النادي واصل مسيرته معلنًا مهمة الحفاظ على الثقافة السوريّة في البرازيل. "بالإضافة إلى كوننا برازيليين، فنحن نحاول الحفاظ على شعلة اللغة العربيّة والعروبة حيّة"، هكذا يتذكر عضو النادي إبراهو قنواتي (Abrahão Anahuate) بعد سنوات في مقابلة عن التاريخ الشفهي.

كان نادي حمص موطنًا لمكتبة من الكتب والصحف والدوريات العربيّة، وقد عزّز الروابط العميقة مع الإنتاج الأدبي السوري. "من هو المثقف؟" سأل عضو النادي ميغيل خزام، وهو يتذكر الصالونات المقامة هناك. ولد خزام في حمص في العام 1899، وجاء إلى البرازيل في سن المراهقة وعمل بائعًا. قال "كنّا نجمع 20 مثقفًا هناك في المكتبة ومن ثمّ تبدأ مناقشة جيدة بيننا". كان يمكن للمشاركين الرجوع إلى مجموعات الكتب الموجودة في المكتبة حسب الحاجة.

استقلال سوريا من بعيد

في سوريا ولبنان، قمع الانتداب الفرنسي حركات الاستقلال من خلال الرقابة الصارمة على الصحافة ومراقبة النشطاء وعبر تشديد القبضة العسكريّة الوحشيّة.

العيش خارج الحدود، وبعيدًا عن السيطرة الفرنسيّة، سمح للناشطين المهاجرين مساحة أكبر للتنظيم. بصفتها أكبر تجمع سوري في المهجر في منتصف عشرينيات القرن الماضي، كانت ساو باولو مركزًا لهذا النوع من النشاط، وكان  الكثير من هذا النشاط يحدث داخل نوادي الرجال.

قصة مرسومة: من سوريا العثمانيّة إلى الأرجنتين

07 أيلول 2021
حكاية مرسومة قام بتصميمها رامي خوري، محرّر الوسائط المتعددة في الفيديو وتحرير الصور والصوت في موقع حكاية ما انحكت، بناء على حكاية كتبها خضر خالد، ونُشرت سابقًا تحت عنوان"من سوريا...

كان نبيه سلامة مدرسًا وصحفيًا من مواليد حمص، وقد جاء إلى ساو باولو في العام 1935، وبمجرد وصوله انضم إلى الرابطة الوطنيّة السوريّة، التي كان هدفها الأساسي، كما قال سلامة، "انتقاد وإهانة الاستعمار «الفرنسي»، والمطالبة باستقلال سوريا".

في وقت قريب من ذلك، استقبل نادي حمص القس حنّا خبّاز، وهو وزير سوري ووطني معروف، كي يلقي محاضرة عن أهمية التربية الوطنيّة في محاربة الإمبرياليّة الفرنسيّة. كانت زيارته جزءًا من جولة أكبر لجمع الأموال للمدارس الوطنيّة السوريّة في الوطن. عند وصوله إلى ساو باولو في العام 1922، التقى خبّاز بمجموعة متحمسة مؤلفة من أكثر من ألف سوري جاؤوا لسماعه وهو يتحدث. حذّر حينها من أنّ النموذج الفرنسي للتعليم، مثل الإمبرياليّة الفرنسيّة، سيشتت عقول الشباب السوري. لم تكن فقط سوريا بحاجة إلى تربية وطنيّة جديدة؛ بل أيضًا يجب أن يستقر الأمر في أذهان، وعلى أكتاف، الرجال السوريين في الشتات، من أجل التعبير عنها لاحقًا.

مع مرور الوقت، تحوّلت هذه المساحات لتلبية الاحتياجات الخيريّة والاجتماعيّة المحدّدة للمجتمع. كانت المساعدة المتبادلة والثقافة الأخويّة محوريتين في حياة الشتات: التجمّع لمناقشة الأدب، أو المزيد من المشاريع الخيريّة الرسميّة، أو لجمع التبرعات. أعادت مؤسسات مثل نادي زحلة تشكيل روابط الأقارب التي امتدت عبر المحيطات.

واحد من فريقين لكرة القدم في الدوري، حوالي العام 1922. تأسس الفريق في البداية من قبل عائلة جافيت في عام 1917، وأطلق على نفسه اسم نادي أتليتكو إندبيندينسيا في عشرينيات القرن الماضي. الصورة من جريدة الرائد (محررها نجيب حداد).

أصبحنا "برازيليين"

شهدت العقود التالية تغييرات في أندية ساو باولو السوريّة. في عهد جيتوليو فارجاس، رئيس البرازيل من عام 1930 إلى عام 1945، فرضت البلاد قيودًا على الهجرة الجديدة من خلال نظام الحصص العرقيّة، وأمرت بتأميم الصناعات الرئيسيّة. لم تسلم الأندية من ذلك. في عام 1941، أمرت الحكومة بتأميم الجمعيات العرقيّة الأجنبيّة، بما في ذلك إغلاق دور الطباعة متعدّدة اللغات.

"أصبح النادي برازيليًا" خلال هذه الفترة، حسبما تذكّر نبيه سلامة نادي حمص. بحسب روايته، فقد استمر في التأكيد على الثقافة العرقيّة مع التقليل من أهميّة روابطها العابرة للحدود مع الشرق الأوسط. بدأت العديد من الصحف السوريّة بالنشر باللغة البرتغاليّة. كصحفي مستقل يكتب بالعربيّة، بدأ نبيه الكتابة للصحف السوريّة في الخارج بدلاً من الكتابة للصحف المحليّة.

حتى في الوقت الذي كانت فيه الدوريات والمطبوعات الثقافيّة السوريّة تكافح قانون التأميم، استمرت المجتمعات الشقيقة السوريّة في إعادة التواصل، وفي بعض الحالات فالأمر مستمر حتى اليوم.

لم تكن الأنديّة السوريّة فريدة من نوعها بالنسبة للبرازيل، أو بالنسبة إلى أيّ ركن آخر في المهجر. ظهرت نوادي زحلة في لورانس (كانساس)، وفي ماساتشوستس، وفي بيوريا، وفي إلينوي، وفي مكسيكو سيتي. كما كان لكل من بوينس آيرس ونيويورك وأجزاء أخرى من البرازيل نسخها الخاصة من نادي حمص. شكّلت هذه النوادي مواقعًا لإعادة الاتصال والتآخي وطمس الحدود بين "هنا" و"هناك".

مع تقليص حجم المكتبات السوريّة في ساو باولو أو إغلاقها تمامًا، استمرت بعض المجموعات الشخصيّة في الاحتفاظ بمحتوياتها، قبل أن ينتهي بها الأمر في الوصايا والتركات لمكتبات في أماكن أخرى.

مثلًا، انتهى المطاف بمكتبة الشاعر السوري البرازيلي فوزي معلوف على بعد آلاف الأميال، في الجامعة الأمريكية في بيروت. وقد تظهر أجزاء من هذا العالم الاجتماعي في مجموعات بحثيّة في البرازيل والأمريكتين، أو منتشرة بشكل كامل عبر قارات العالم المختلفة.

 

* ملاحظة المؤلفة: نُشرت مقابلات التاريخ الشفوي المقتطفة هنا من قبل بيتي لوب جريبر (Betty Loeb Greiber)، ولينا صايغ معلوف (Lina Saigh Maluf)، وفيرا كاتيني مطر (Vera Cattini Mattar)، ذكريات الهجرة: لبنانيون وسوريون في ساو باولو (1998).
* ملاحظة المترجم: هذه هي أسماء الصحف وأصحابها كما وردت في النص الأصلي: 
Said Abujamra’s al-Afkar, Chucri al-Curi’s Abu al-Hawl, Jorge Haddad’s O Livre Pensador, Ibrahim Farah’s al-Fara’id, Naum Labaki’s al-Munazir, G Messara’s al-Brazil, Sami Racy’s al-Jaliyya

مقالات متعلقة

حين يصير الواتسآب بيتًا

28 كانون الثاني 2022
كما تركت الحرب السوريّة أثرها على كل شيء، فعلت كذلك مع عائلة الدندشي التي اضطر قسم كبير من أفرادها لترك البلاد، بعضهم هاجر بعد العام 2011، والبعض الأخر وجد طريقه...
من سوريا العثمانيّة إلى الأرجنتين

16 آب 2021
في بيروت، في العام 1913، تسلّل جدّي الأكبر إلى سفينة متجهة نحو الأرجنتين. السنوات والعقود التي تلت ذلك التاريخ هي تاريخ عائلتي، وكذلك جزء من قصة العرب الأرجنتينيين.
سوريا صغيرة في الوسط الغربي الأمريكي

15 تشرين الأول 2021
على بعد آلاف الأميال، أعادت بعض العائلات، القادمة ممّا صار يُسمى في الوقت الحالي سوريا ولبنان، بناء حيواتها من جديد في أماكن نائيّة في ولايات آيوا وداكوتا وأماكن أخرى في...
جولة موسيقيّة في "سوريا الصغيرة"

12 آذار 2021
تضمنت الأغاني التي قدمها الموسيقيون السوريون في مدينة نيويورك منذ عام 1913 وحتى أربعينيات القرن الماضي قصائد مسجلة وأغاني شعبية جلبوها معهم من بلادهم إضافة إلى مؤلفات أصليّة تحكي عن...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد