عدّة نقاط يمكن التنويه إليها فيما جاء بالمرسوم التشريعي رقم 7 لعام 2022، والقاضي بمنح عفو عام عن الجرائم الإرهابيّة المرتكبة من السوريين قبل تاريخ 30 نيسان 2022. ستتعرض هذه المقالة القصيرة للموضوع من خلال السلطات الثلاثة في سوريا وتوغل السلطة التنفيذيّة والأجهزة الأمنيّة في سوريا على السلطتين التشريعيّة والقضائيّة، كما سيتم التطرق للإجراءات التنفيذية المتبعة في حالات العفو عمومًا.
بادئ ذي بدء، كثرت التأويلات والتفسيرات حول السبب وراء إقرار هذا العفو، ومنها أنّ النظام يرغب في لفت الانتباه عن مجزرة التضامن، لكن تركيبة النظام، وكما عهدناها، سيما بعد الثورة السوريّة، لا تعتمد على ردود الأفعال غير المدروسة، سيما أنّ المراسيم، مثل هذا العفو، يتمّ التحضير لها قبل فترة زمنيّة ولا تحدث في ليلة وضحاها. بالإضافة إلى أنّ المجزرة ليست الأولى وليست الأخيرة التي يتم الكشف عنها في سوريا، ودومًا ما أنكر النظام مثل هذه الجرائم. على سبيل المثال، لا يزال النظام ينكر هجماته الكيماويّة على المدنيين، وعشرات آلاف الصور لضحايا التعذيب التي سربها "قيصر وسامي" من الأفرع الأمنيّة. وهناك من يقول إنّ أمرًا سياسيًا دوليًا يدور في الخفاء فيما يتعلّق بسوريا، سيما بعد زيارة رأس النظام لدولة الإمارات العربيّة المتحدة، والتي تزامنت أو أعقبتها زيارات لبعض أفراد المعارضة أو بعض رجال السياسة في دول أخرى. لكن مهما كان السبب الحقيقي وراء إقرار هذا العفو، فالمهم من وجهة نظري في المرتبة الأولى، هو إنقاذ حياة الجميع، إلى أن ينتهي الواقع المؤلم الذي نعيشه، والذي يمكن اختصاره، بأنّ السوريين أصبحوا (للآسف) آخر من يعلم حقيقة كلّ ما يتعلق بحيواتهم ووطنهم.
فيما يتعلق بصلاحيات رأس النظام في إصدار المرسوم التشريعي القاضي بمنح العفو العام، من خلال الرجوع إلى الدستور السوري لعام 2012، نجد أنّ صلاحيات رئيس الجمهوريّة هي إصدار العفو الخاص (المادة 108). أمّا العفو العام بموجب الدستور، فالأصل أنّ إقراره هو من صلاحيات مجلس الشعب (المادة 75)، ويتم إقراره من قبل رئيس الجمهوريّة بشكل استثنائي عندما يتولى سلطة التشريع خارج دورات انعقاد مجلس الشعب، أو أثناء انعقادها إذا استدعت الضرورة القصوى ذلك، أو خلال الفترة التي يكون فيها المجلس منحلًا (المادة 113). لكن عمليًا، وبالرجوع لعشرات السنين، نجد أنّ النظام القائم على حكم البلاد استخدم مثل هذا العفو لإظهار نفسه على أنه المسيطر على زمام الأمور على الصعيد الداخلي، واستخدامه على الصعيد الدولي لتحقيق مكاسب سياسيّة من خلال إظهار حسن النية.
أمّا مقاربة هذا العفو من خلال النظر في صلاحيات السلطة القضائيّة، فظاهريًا يبدو هذا العفو أشمل وأوسع من سابقيه الذين تمّ إصدارهم خلال الفترة التي أعقبت الثورة السوريّة 2011. ولكن عندما النظر في الجرائم التي شملها وآليّة تطبيقه، نجد أنه مقيّد كسابقيه بأخطر قيد، سيما أنّ توجيه التهم يبدأ أولًا عبر الأجهزة الأمنيّة، حيث تستطيع إلصاق وتوجيه التهم التي ترغبها دون أيّ حاجة لأيّ دليل، هذا من جهة. من جهة أخرى، فإنّ الجرائم التي يشملها العفو، تحقّق فيها أصلًا الأجهزة الأمنيّة التابعة للنظام مُصدر المرسوم، والتي تتمتع بصلاحيات واسعة ومطلقة تجعلها غير خاضغة لأيّ سلطة قضائيّة أو تشريعيّة، بالإضافة إلى العديد من القوانين التي تحمي هذه الأجهزة وتضمن إفلاتها من العقاب، ناهيك (كما هو معروف) عن ظروف الاعتقال الوحشيّة وانتزاع الأقوال تحت التعذيب والإكراه، بالاضافة إلى كلّ المراحل التي تمرّ بها هذه الملفات منذ لحظة الاعتقال التعسفي للمعتقلين وحتى انتهاء محاكماتهم، والتي تنتهك معايير المحاكمات العادلة. وبالتالي لا يمكن الحديث بشكل عملي عن سلطة القضاء في نظر جميع ملفات المعتقلين والمختفين قسريًا، والتي لم تُحال بعد إلى القضاء، إلّا إذا كانت الأجهزة الأمنيّة ترغب في ذلك.
وحتى عندما حاولت السلطة القضائيّة ممثلة بوزير العدل، الظهور بمظهر القائم على تنفيذ هذا العفو من خلال إلحاقه بالبيان رقم 6457 الصادر عن وزارة العدل بتاريخ 5 / 5 /2022، والساعي لتوضيح وبيان أحكام هذا العفو، أضاف إلى العفو ما يزيد التساؤلات حول هذا العفو ومن يمكن تطبيقه عليه أو الجرائم التي يشملها، سيما عندما جاء في هذا البيان "أو يثبت استمرار انتمائهم إلى تنظيمات إرهابيّة أو ارتباطهم مع دول أخرى"، وهذه العبارة التي لم يذكرها العفو، لا صراحةً ولا ضمنًا، وبالتالي غير قابلة للتفسير والتأويل، توضح أنّ حدودًا مرسومة من قبل الأجهزة الأمنية للسلطة القضائيّة لا يمكن تجاوزها، وإذا كان العفو كما هو معتاد يأتي غامضًا، فهنا يأتي دور الأجهزة الأمنيّة التي ترسم حدود التطبيق من خلال وزارة العدل التي تظهر في الواجهة لتنفيذ أوامر هذه الأجهزة.
- وفيما يتعلق بما يشمله هذا العفو، فهو يطبق على "الجرائم الإرهابيّة" التي جاء بها القانون رقم 19 لعام 2012 لمكافحة الإرهاب، مثل تشكيل منظمة إرهابيّة (المادة 3)، التمويل والتدريب على الأعمال الإرهابيّة (المادة 4)، تهريب أو تصنيع أو حيازة أو سرقة أو اختلاس الأسلحة أو الذخائر أو المتفجرات مهما كان نوعها بقصد استخدامها في تنفيذ عمل إرهابي (المادة 5)، التهديد بعمل إرهابي (المادة 6)، الترويج للأعمال الإرهابيّة (المادة 8).
ولا يشمل أيّ جريمة أخرى نصّت عليه قوانين أخرى، ويتم توجيه التهم بموجبها للمعتقلين، ومنها:
- قانون العقوبات: كجريمة إضعاف الشعور القومي أو إيقاظ النعرات الطائفيّة (المادة 285)، ونقل أنباء كاذبة توهن الامة (286)، والاعتداء بهدف تغيير الدستور(المادة 287).
- قانون الجريمة المعلوماتيّة رقم 20 لعام 2022، والقاضي، بإعادة تنظيم القواعد القانونيّة الجزائيّة للجريمة المعلوماتيّة التي تضمنها المرسوم التشريعي رقم 17 للعام 2012. حيث أعاد هذه القانون التأطير القانوني لمفهوم هذه الجريمة ليصبح أشمل، سيما فيما يتعلق بالجرائم الواقعة على الدستور والنيل من هيبة الدولة أو مكانتها الماليّة.
- القانون رقم 21 لعام 2012، القاضي بتعديل قانون العقوبات رقم 148 لعام 1949، فيما يتعلق بجرائم الخطف بالعنف أو بالخداع لشخص بقصد طلب الفدية.
- يُضاف إلى ذلك كله التهم الجنائيّة العاديّة التي يتم إتهام المعتقلين بها، كجرائم المخدرات والدعارة وغيرها.
- سكت هذا العفو عن العديد من القضايا الأخرى الهامة، مثل مصير الأموال المحجوزة من قبل الآجهزة الأمنيّة، ومصير من تمّ تسريحه من الخدمة في الدولة، من تثبت إدانته بحكم قضائي بالقيام بأيّ عمل إرهابي بموجب القانون رقم 20 لعام 2012.
بالعودة إلى البيان الصادر عن وزير العدل رقم 6457 بتاريخ 5 / 5 /2022 الساعي لتوضيح وبيان أحكام هذا العفو فيما يتعلق بتنفيذه وتطبيقه بشكل عملي، هناك خطوات إجرائيّة ينص عليها القانون. لهذا يجب التمييز بين عدّة نقاط:
- إذاعة البحث الصادرة عن الشرطة بعد ختمها للضبوط المنظمة من قبل أقسامها في معرض تحقيقاتها الأوليّة في الجرائم، والتي يتم تعمميها (المادة 8 و48 أصول محاكمات جزائيّة)، ومدتها 24 ساعة قابلة للتجديد بموجب مذكرة توقيف قضائيّة، تتطلب إلقاء القبض والإحضار أمام المدعي العام أو قاضي التحقيق (الامر الاداري رقم /568// تاريخ 1975). ويتم إذاعة البحث من داخل القطر من قبل قائد شرطة المحافظة ومن قبل شعبة الأمن الجنائي لإذاعات البحث خارج القطر.
- فيما يتعلق بالنشرة الشرطيّة وكف البحث: عند عدم قيام الشخص المطلوب بموجب إذاعة البحث بمراجعة الجهة التي أذاعت البحث، يدخل اسمه النشرة الشرطيّة، وهذه النشرة لا تسقط من تلقاء نفسها أبدًا، وإنّما بإلقاء القبض عليه، أو من خلال مراجعة الجهة التي أصدرتها (القضاء- شعب التجنيد) لتسوية وضعه، وإحضار كف البحث من الجهة التي طلبت إذاعة البحث عنه لشطب اسمه من النشرة الشرطيّة أصولًا.
لذلك يبقى مفهوم المراجعة الذي جاء بالبيان المذكور لا يشمل، من وجهة نظري، المطلوبين للأفرع الأمنيّة، فالأساس كما أسلفنا سابقًا، ليس لوزارة العدل أيّ سلطة على الأجهزة الأمنيّة هذا من جهة، ومن جهة أخرى، عدا جهاز المخابرات العامة التابع (شكليًا) لوزارة الداخليّة، تحتفظ الأجهزة الأمنيّة بالقوائم الاسميّة للمطلوبين لديها بشكل سريّ، ولا تشاركها عمومًا مع جهاز الأمن الجنائي أو من خلال النشرات الشرطيّة، ممّا يعني أنّ المطلوبين لهذه الأجهزة لن يعلم بهم أحد حتى وزارتي العدل والداخليّة، ما لم ترغب هذه الأجهزة الأمنيّة في مشاركة القوائم. ويكفي أن نقول على سبيل المثال، إنّ الأفرع الأمنيّة العسكريّة التابعة لجهاز الاستخبارات العسكريّة لديها ما يسمى بـ"المحطة" (مكان ما في أحد المكاتب التابعة للمخابرات العسكريّة) لتبادل أسماء المطلوبين والمعتقلين فيما بينها حصرًا.
- فيما يتعلق بتنفيذ الأحكام الجزائيّة، فيتم تنفيذها بعد اكتسابها الدرجة القطعيّة من خلال دائرة تنفيذ الأحكام الجزائيّة أيضًا، وهذا ما يعود بنا إلى ما تمّ ذكره أعلاه.
بعد مضي أكثر من عشرة أيام على مرسوم العفو المذكور، يبقى عدد المفرج عنهم (مع أهميّة حريّة كلّ شخص منهم) لا يزال لا يُذكر بالمقارنة مع عشرات الآلاف من المعتقلين والمختفين قسريِا في سوريا، كما أنّ هذا العفو يكرّس سياسة النظام السوري في حكم البلاد بقبضته الأمنيّة لدى تعاطيه مع القضايا التي تمسّ كلّ السوريين\ات، مثل المختفين\ات قسريًا والمعتقلين\ات تعسفيًا والمفقودين\ات. ولايزال يتمسّك بروايته القديمة الحديثة، بأنّ ما يحدث في سوريا هو محاربة "الحكومة السوريّة" للإرهاب. لذلك هو لا يقدّم إنصافًا لضحايا التعذيب السابقين أو المفرج عنهم أو المستمرين في الخضوع له، ولا لأسرهم التي لا تزال تعاني وستستمر معاناتها، سواء نفسيًا أو جسديًا اواجتماعيًا او اقتصاديًا. كلّ ذلك يعني استمرار ارتكاب جريمة التعذيب والاختفاء القسري في مراكز الاعتقال والسجون في المستقبل، وأنّ مرسوم العفو هو من باب ذر الرماد في العيون وإبداء حسن نيّة لدى نظام لا يبدي إلّا كلّ ما هو سيء.