النسوية أنقذت حياتي، ويمكنها إنقاذ أخريات


مدرسة لينا بن مهني النسوية هي مساحة ننخرط فيها لاكتشاف ذواتنا، فيما نبدأ أيضاً رحلة جماعية، تقودنا نحو الآخر في داخلنا، وفي الوقت نفسه نحو حقائقنا المختلفة والمتشابهة من منظور تقاطعي. تتيح لنا هذه العملية تحديد موقع بعضنا البعض على خريطة التمييز والامتيازات، واحترام مساحات الآخرين وأصواتهم وإرادتهم وخبراتهم. نُحقّق كلّ ذلك من خلال مناقشة المشاريع التي تقوم بها المشاركات والتأمل فيها.

04 أيار 2023

هندة الشناوي

صحفية وباحثة في علم الاجتماع وخبيرة جندر مقيمة في تونس، وتكتبت عن حقوق المرأة والأقليات. هي مؤسِسة ومنظمة أول مدرسة نسوية متعددة الجوانب في تونس تكريماً للناشطة لينا بن مهني.

تحتوي هذه المقالة على شهادات قد يجدها/تجدها بعض القراء/القارئات مزعجة أو غير مريحة.

نشأت في أسرة كان العنف وسوء المعاملة فيها جزءاً من الحياة اليومية. كان والدي عنيفاً لدرجة أنه كاد أن يقتل والدتي، وما تزال تراودني كوابيس مروعة عن قتله أشخاصاً أهتم لأمرهم. أيضاً، كان أخي الأكبر يعتدي عليّ جسدياً وجنسياً لسنوات، وإلى يومنا هذا، لا تزال عائلتي تعتبر أنّه كان "يستكشف" حياته الجنسية وعليّ المضي قدماً. لسنوات، استهلكت أطناناً من الأدوية والكحول والمخدرات لأنسى، وربما لأمحو نفسي.

عندما كان عمري 21 عاماً، حاولت الانتحار. لكن شيئاً ما أبقاني على قيد الحياة، لحظة حنونة مع أختي، التي آمنت بي ووقفت بجانبي لأوّل مرة. أتى بصيص الأمل هذا مع لقاءات حدثت بالصدفة، صادفت كتباً ومدوّنات نسوية. قرأت سيمون دي بوفوار وأحلام مستغانمي وفيرجينيا وولف ونوال السعداوي ومي زيادة، وعرفت أنني لست وحشاً، وأنّ ما كنت أعاني منه هو عنف النظام الأبوي. فعظمة التضامن النسائي، أو بالأحرى الأختية، والمعرفة النسوية التي فتحت عيني على واقع لم أكن أعرف عنه شيء حتى ذلك الحين، أنقذتا حياتي.

استعدت ثقتي بنفسي تدريجياً، وقرّرت نشر قصتي في مدونة بكلمات بسيطة. تلك اللحظة حرّرتني، وبشكل مفاجئ لي، حرّرت نساء أخريات أيضاً. في الواقع، بمجرّد أن عبّرت عن ألمي، وجدتْ مئات النساء تشابهاً مع قصتي. بعد قراءة القصص التي أرسلوها إليّ، الشبيهة بقصتي، شعرت بأنني مرئية. فجأة، أدركت أنني لست الوحيدة. الأهم من ذلك، لم أشعر لحظتها أنّني ضحية، بل ناجية عليها أن تتصرّف وتخطط كنسوية، أن تتصرف على الفور وتحاول إنقاذ الأرواح كما تمّ انقاذي.

منذ ذلك الحين، وأنا أردّد، "النسوية أنقذت حياتي!"

لماذا أحكي هذه القصة؟ لأنّ الخاص هو سياسي، وقادتني السياسة إلى صنع تجارب ملأتني بالأمل والقوة.

غيّرت السياسة النسوية حياتي نحو الأفضل.

بعد سبعة عشر عاماَ، ها أنا اليوم صحافية وباحثة في علم الاجتماع وناشطة سياسية ومناضلة نسوية، سافرت عبر تونس لرواية قصص نساء ورجال في الثورة، الذين واللواتي تحملوا وتحلمنَ، وناضلوا ويناضلنَ من أجل مستقبل كريم. لم أكن وحدي في هذه الرحلة، كنت مع ناشطات وناشطين لديهنَ/م قناعة وإرادة لصنع ثورة ليست مجرد حلم، بل حقيقة. وبالخلاصة، سأذكر المرأة التي حفزتني لسنوات، وما زالت مصدر إلهامي في كفاحي، لينا بن مهني.

دليل غير مكتمل لدراما أكثر نسويّة

02 أيار 2023
الدراما النسوية كما أفهمها توّفر تمثيلاً أفضل للنساء، تبني على فهم لعلاقات القوة والبنى الاجتماعية، تشتبك مع هياكل السلطة، وتتبنّى نظرة تقاطعية مركّبة. لا تقف إذاً عند بطولة نسائية تعيد...

كانت لينا الشخصية الرائدة في الثورة التونسية، وقد حاربت لسنوات من أجل الكرامة الإنسانية والمساواة والحرية.

عرفت لينا من خلال مدونتها قبل الثورة ببضع سنوات. بعد 14 يناير 2011، أصبحنا صديقات، وقمنا بحملة سويّة وسافرنا في جميع أنحاء تونس. في عام 2020، توفيت لينا تاركة وراءها فراغاً كبيراً، وإرثاً مهماً من القيم والالتزام والنضال يسمح لنا بالاستمرار. حياة لينا هي قصة تضامن غير مشروط مع جميع المناضلين من أجل الكرامة والحرية. كانت لينا التجسيد المثالي للإخلاص المطلق لتونس. كان لدينا الكثير من الأحلام والوعود، لنا ولمن نحبهم ولتونس. أردنا بناء حركة قوية من المواطنين الأحرار من أجل العدالة للجميع. أحد أكبر أحلامنا كان إنشاء جامعة شعبية للنساء والأقليات والشباب.

هندة ولينا. تُنشر الصورة بإذن من الكاتبة.

عندما تركتنا لينا بعد عقد من ثورة مليئة بالأحداث، كانت النجاحات قليلة والخسائر كبيرة. فجأة وجدت نفسي وحدي. أنشأتْ عائلتها وأصدقائها منظمة للمحافظة على استمرارية إرثها. هذه الجمعية، جمعية لينا بن مهني، هي العائلة التي سمحت بإستكمال أحلامنا المشتركة. وهكذا بدأت مدرسة لينا بن مهني النسوية.

بنفس الالتزام والاقتناع بأهمية البدء من الخاص لتعزيز الجماعي وتحسينه، تدعو مدرسة لينا بن مهني النسوية كلّ عام النساء والكوير لمشاركة خبراتهن في مكان آمن وتحليلها باستخدام أدوات نسوية، وجعلها مرئية والاستفادة من التضامن النسوي الذي يجعلها متقاطعة ومسموعة.

في مدرسة لينا بن مهني النسوية نتشارك القيم النسوية، لدينا مساحة للتبادل الأفقي للمعرفة والمشاعر والخبرات. تعتمد أهمية سرد قصصنا على فكرتين رئيسيتين: الأولى هي إعطاء الصوت لتجارب ومعاناة لم تحكى من قبل، والثانية هي جعل هذه القصص جزءاً من البحث النسوي لتفكيك آليات هيمنة الرجال والعنصرية وهيمنة السلطة الاستبدادية وتطبيع المغايرة الجنسية.

 يأتي هذا النهج عكس معايير الاختيار السائدة، والتي تميل إلى تفضيل الأشخاص أصحاب القدرات، والتي تأتي في معظم الأحيان مع بعض الامتيازات.

التجربة داخل المدرسة ملموسة: تبدأ بفكرة مركزية لمشروع نسوي، سواء كانت على الصعيد الفني أو النضالي. تشمل الجلسات المدرسية ورش عمل ومناقشات، وجلسات عمل جماعية أو فردية، ومؤتمرات وعروض أفلام، وتنتهي بمشروع يعتمد على التجربة الشخصية ويفكك ويحلل حالات الهيمنة والتمييز والعبودية، من خلال تحليل نسوي تقاطعي عميق، يأخذ بعين الاعتبار أهمية وإدارة وإبداع المشاريع المقترحة.

على المستوى الشخصي والجماعي، شهدنا الرحلة التحويلية لأكثر من ثلاثين امرأة وكوير ورافقناهنَ. استقبلنا نساء وكوير من جميع أنحاء البلاد بخلفيات وطبقات اجتماعية وألوان مختلفة. سياستنا هي اختيار المشاركين تبعًا لمعايير تقاطعية تأخذ في الاعتبار مجموعة من الشروط، فنولي الاهتمام لأشكال مختلفة من التمييز (كالموقع الجغرافي والتجارب الشخصية والتوّجه الجنسي والطبقة الاجتماعية على سبيل المثال لا الحصر)، وبدرجة أقل الامتيازات. يأتي هذا النهج عكس معايير الاختيار السائدة، والتي تميل إلى تفضيل الأشخاص أصحاب القدرات، والتي تأتي في معظم الأحيان مع بعض الامتيازات. في كلّ ورشة عمل ومناظرة ونشاط، يكون الهدف الأساسي للمدرسة النسوية هو استخدام التقاطعية والنسوية لعكس الحقائق وتحليلها، ونحن ننظر إلى مشاكل العالم من خلال هذه العدسات الست: 

(1) عدم المساواة، التي تتقاطع مع الجندر والطبقة والعرق.

(2) علاقات القوة، وهي هيكلية وشخصية.

(3) العلاقات الشخصية وتشجيع الحوار والتحالف بين الأفراد والجماعات.

(4) المناخ الاجتماعي عبر تحليل أفكار الأفراد وأفعالهم مع الأخذ بالاعتبار تأثير السياقات التاريخية والفكرية والسياسية.

(5) صعوبة فهم وتحليل العالم.

(6) تعزيز العدالة الاجتماعية.

لكي أكون أكثر وضوحاً، وأستطيع شرح  تجربة مدرسة لينا بن مهني النسوية بشكل واضح، سأذكر ثلاثة أمثلة عن أشخاص ظلّوا بعد التحاقهم بالمدرسة، من بين الأكثر نشاطًا في شبكاتهم. 

القصة الأولى هي قصة مغني/ة كوير سوداء شارك/ت في دورة المدرسة الأولى عام 2021، واسمه/ا نبراس. هو/ي على دراية بالتمييزات المتشابكة التي تواجهها على صعيد التقاطعية. لكن كان علينا العمل سوية لفهم أصول هذه التمييزات، وقد فعلنا ذلك بالاستناد إلى روايته/ا الخاصة. منذ الجلسات الأولى في المدرسة، ساعدتنا نبراس على إعادة تصميم مساحة التعلّم، حسب عوامل تتعلق بالعاطفة والخبرة واللغة. لقد عملنا على البعد العاطفي للتعرّف على علاقات القوة والاختلافات بين المواقف المتعدّدة للنساء والأشخاص غير ثنائيي الجندر. تقود نبراس الآن، مع طالبة أخرى للمدرسة، بثينة، جوقة نسوية (للنساء والأشخاص غير ثنائيي الجندر) في المدرسة تحت اسم "كورال الأجيال"، وهو مشروع كان/ت تحلم به لفترة طويلة.

أحد عشرَ مترًا

29 نيسان 2022
"لم ألحظ كيف إنّ تاريخ ليبيا، الذي كان يعبق في كلّ زاوية وشق فيها، بدأ يتلاشى لتحلّ رائحة النقود بمختلف أنواعها محله، وكيف اختفت أصوات طرق النحاس في سوق القصدارة،...

المثال الثاني هو عن امرأة لمستني بشكل خاص لإخلاصها وشجاعتها. هي تدرك امتيازها لدرجة أنها أرادت الكتابة والتحدّث عن نساء أخريات بدلاً من التكلم عن نفسها. في الواقع، جاءت ريم إلى الدورة الثاني من المدرسة بمشروع لكتابة رواية عن النساء العابرات جندرياً. ومع ذلك، بمجرّد انضمامها إلى المدرسة، فتحت قلبها وشاركتنا تجربتها كامرأة اكتشفت أنها عقيمة قبل تسع سنوات. 

بموهبة كبيرة، كتبت نصاً يفضح العنف الطبي والأبوي الذي تعرّض له جسدها وروحها منذ ذلك الحين. ريم متخصصة في مناهج التدريس الجديدة، لكنها وثقتْ في عملية التعلّم التي كنّا نقوم بها معاً. بعد بضعة أسابيع، التهمت الكتب النسوية وبدأت في الانخراط بشكل كامل في المدرسة. الدرس الذي تعلمناه منها هو، على الرغم من امتيازاتنا في التعليم وتطبيع المغايرة الجنسية والشبكات الاجتماعية المتطورة، فإننا جميعاً كنساء معرّضات للاضطهاد الناجم عن التمييز الذكوري. نعم، لكي نتمكن من سرد قصص الناس ونطلب منهم الكشف عن أنفسهم، يجب أن نبدأ بأنفسنا. تمكنت ريم من السير في هذا الطريق، والآن بالتعاون مع طالبة رائعة أخرى للمدرسة ،أمل، تدير نادي الكتابة والقراءة النسوي بالمدرسة تحت اسم "يكتبن، يقاومن". 

القصة الثالثة حول ورشة العمل المسرحي النسوي والتي أصبحت الآن، بفضل الفنانة سهام عقيل، مشروعاً مستقلاً. سهام ممثلة ومخرجة وناقدة مسرحية، متفانية وموهوبة وملتزمة. قبلت سهام دعوتي لقيادة ورشة عمل مسرحية لمدة أربع ساعات خلال الدورة الثانية للمدرسة. بعد هذه الجلسة السحرية، قرّرت المجموعة تقديم عرض مسرحي باستخدام قصصهن والنصوص التي كتبنها. تمكنت سهام من الموازنة بين النظري والعملي. من خلال المسرح، قامت المشاركات بتمرين سرد قصصهنَ بالشعر، وتحليل التركيبات الاجتماعية عن كثب، وإقراض قصصهنَ لبعضهنَ البعض في نهج الأختية والثقة. وكانت النتيجة عرضاً مسرحياً مدته 30 دقيقة، سُمعت خلاله قصص نساء ونساء غير ثنائيات الجندر وتشاركنَ المشاعر، بجمال مسرحي مؤثر.

مدرسة لينا بن مهني النسوية هي مساحة ننخرط فيها لاكتشاف ذواتنا، فيما نبدأ أيضاً رحلة جماعية، تقودنا نحو الآخر في داخلنا، وفي الوقت نفسه نحو حقائقنا المختلفة والمتشابهة من منظور تقاطعي. تتيح لنا هذه العملية تحديد موقع بعضنا البعض على خريطة التمييز والامتيازات، واحترام مساحات الآخرين وأصواتهم وإرادتهم وخبراتهم. نُحقّق كلّ ذلك من خلال مناقشة المشاريع التي تقوم بها المشاركات والتأمل فيها.

نحن نعدّ الدورة الثالثة من المدرسة، والتي ستتعامل مع الهجرة، والنساء السود من جنوب الصحراء في تونس، والنساء التونسيات، والكوير في المنفى. هذه كلها قضايا تمّ تجاهلها حتى الآن من قبل النسويات في تونس، أو على الأقل لم تُتناول من منظور نسوي واضح. التحدي الذي نواجهه هو دعوة الناشطات النسويات إلى نقاش مشترك والتفكير في مسألة الهجرة. سنعمل على تطوير نهج تفاعلي يهدف إلى إعادة صياغة الأفكار والمفاهيم النظرية حول النسوية والهجرة والعرق.

عندما أتذكر وقع أول نص نسوي لي على حياتي، الرحلة التي خضتها من خلال الحركة النسوية ومعها، كلّ الاكتشافات، الصداقات، فترات التعب والإحباط والراحة، والفرح الذي شاركته بكلّ فخر، صداقتي مع لينا وجميع الناشطات اللواتي صنعنَ الثورة التونسية، أكتشف من جديد أن مدرسة لينا بن مهني النسوية هي استمرار منطقي لكلّ ما مررت به، وكلّ ما أردت القيام به، من الألم الموجع في صدري إلى الصراخ في الساحات العامة والشوارع في تونس، والآن العودة إلى أساسيات التعلّم المستمر والنقاش الدائم معًا من أجل النضالات النسوية. النسوية أنقذت حياتي، ويمكن أن تنقذ أخريات.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد